ومن السكوت ما قتل.. خيانة الصحفيين والمثقفين

بينما اعتاد النظام الإعلامي الحديث على اعتبار كل كلمة صادرة من الغرب "حقيقة"، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تنذر بثورة جديدة. الآن، الأصوات المحلية يمكن أن تصل إلى الضمائر العالمية. الحقيقة لا تتردد من مركز واحد؛ بل تتردد من وسط الغبار، من طرق الهجرة، من بين المنازل المدمرة. ولهذا السبب، على كل من يريد التحدث عن الإبادة الجماعية أن يصمت أولاً، ثم ينحني ليلامس تلك الأرض. وإلا، فما يُروى سيكون مجرد حكاية؛ ستار حريري يُمد فوق مأساة مكتوبة بالدماء...
06/06/2025
image_print

على خريطة العالم الممتدة من البوسنة إلى رواندا، ومن بورما إلى غزة، هناك جغرافيا مؤلمة مرسومة بالدماء. وراء المذابح التي ارتكبت في هذه الأراضي، لا تقف فقط القوات المسلحة، أو الأنظمة الاستبدادية، أو السياسات الإمبريالية، بل يقف وراءها أيضًا الصحفيون والمثقفون الذين فقدوا أقلامهم، وأصواتهم، وأسكتوا ضمائرهم. وربما كانوا هم المسؤولين الحقيقيين: لأنهم تجاهلوها، لأنهم شوهوا أجنداتهم، لأنهم خنقوا الحقيقة خلف ستائر… هؤلاء “الذين يعرفون كل شيء” ويتحدثون في كل شيء دون أن يعيشوا أي شيء على أرض الواقع، هم شركاء في جريمة العصر، الأكثر صمتًا…

اليوم، بينما يركز العالم أنظاره على الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة، يصر بعض الصحفيين والمثقفين على عدم رؤية الحقائق. ومع ذلك، ما هو الصحفي الحقيقي إن لم يكن شاهدًا على الزمن؟ وما هو المثقف الحقيقي إذا صمت أمام لهيب الحقيقة المدمر؟ قبل أن يغمض الفيلسوف الشهير برتراند راسل عينيه عن الحياة في عام 1970، شارك وهو في جسد مريض في احتجاج ضد مجازر إسرائيل في فلسطين، رافعًا صوته. كانت تلك الصرخة تذكيرًا لمن نسوا ما هو الضمير، وما الذي يوجد بالصمت وما الذي يوجد بالصراخ. أما اليوم، فإن العديد من الكتاب مثل الممثلة الشهيرة سوزان ساراندون والكاتب الأمريكي الشهير كريس هيدجز يواصلون إيصال صوت غزة.

لأن الحرب لم تعد تُخاض فقط على الأرض؛ بل تُخاض على الشاشة، في الكلمات، في الصور، في السرد. هناك أناس تقتلهم القنابل، وآخرون يسكتهم الخبر. المكان الذي لا تُوجه إليه الكاميرا يبقى خارج التاريخ؛ وكل مكان خارج التاريخ يُدمر بسهولة مرة أخرى. 

أحيانًا، كلمة واحدة تفعل ما لم تفعله آلاف الرصاصات. لهذا السبب، الصحافة ليست مجرد كتابة الأخبار، بل هي حراسة الحقيقة. هناك عدد قليل من الصحفيين الذين يقاومون التاريخ بحراستهم هذه. أحدهم هو المراسل في صحيفة الغارديان إيد فوليامي. في 5 أغسطس 1992، عندما نجح هو وزميلاه بيني مارشال، ويان وليامز من قناة “آي تي إن” في دخول معسكر اعتقال “عمرسكا” في مدينة برييدور البوسنية، واجه العالم الصورة الحقيقية للخزي والعار. لم يكن عنوان “العار في معسكر عمرسكا” مجرد خبر، بل كان مرآة للإنسانية.

في أيام حصار سراييفو، كانت الانتقادات الحادة التي وجهتها مراسلة “سي إن إن” كريستيان أمانبور للرئيس الأمريكي بيل كلينتون خلال بث مباشر، ميكروفون الضمير وليس الكاميرا. حتى “جزار البوسنة” راتكو ملاديتش لم يتردد في التعبير عن انزعاجه من تقارير أمانبور. لأن الحقيقة تزعج الجناة؛ دائمًا.

لكن هذه الشجاعة لم تكن موجودة لدى كل الصحفيين. في نفس الفترة، قُتل حوالي مليون شخص في رواندا خلال مائة يوم فقط. إلا أن ذرة من الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به البوسنة لم تُمنح لرواندا. في ذلك الوقت، كانت أجندة الإعلام الأمريكي تتمحور حول اعتداء متزلج على منافسه، وقضية لاعب كرة قدم، ورئاسة مانديلا. بينما تلاشت الإبادة الجماعية بهدوء في زاوية الشاشة، على هامش الأجندة.

المشاهد التي وردت لاحقًا لم تكن سوى جثث متعفنة. لم تكن هناك مشاهد تُظهر الموت نفسه، أو الوحشية في عيني الجاني، أو صرخة الضحية. بقي مقطع الفيديو الذي سجله الصحفي البريطاني نيك هيوز لمدة دقيقتين عن “الإبادة الجماعية” كوثيقة وحيدة تتحمل شهادة التاريخ. هذه اللقطات كانت تعود إلى خمسة أيام بعد إسقاط طائرة هابياريمانا. بينما كان هناك صحفيان أجنبيان فقط في رواندا ذلك اليوم. ساحة الحرب كانت صامتة؛ والإعلام كان أصم.

في ذلك الوقت، لخص الكندي ألان طومسون في كتابه “الإعلام والإبادة الجماعية في رواندا” الحقيقة المرة قائلًا: “لم يكن هناك أي صحفي تقريبًا في الميدان. وصلت الصور متأخرة بسبب عدم وجود معدات بث؛ شاهدت البشرية الإبادة الجماعية بفارق زمني. الحقيقة التي تأتي متأخرة، غالبًا ما تُهمس بعد فوات الأوان على شواهد القبور”.

كل خبر يُكتب دون النزول إلى الميدان هو أشبه بولادة قيصرية. ما تكتبه الأقلام التي لم تر الدماء، ولم تشم رائحة التراب، ولم تشهد صوت الرصاص، هو مجرد فراغ نظري. مهما قرأت من الكتب، لا يمكن وصف دموع أم فقدت طفلها بالحقيقة. الحقيقة تتردد في جمل الصحفي الذي يمشي في الغبار، ويمر بين الجثث ويبقى على قيد الحياة.

ومع ذلك، كان الصحفيون المحليون الصوت الأكثر صدقًا لكل هذه الشهادات. ولهذا السبب، فإن الصحفيين العاملين في غزة هم أكثر الصحفيين شرفًا على وجه الأرض. ومع ذلك، إما أن يتم إسكاتهم، أو يُحكم عليهم بالاختفاء في ظل زملائهم “الدوليين”. أما بعض الصحفيين الذين لم يطأوا الميدان أبدًا، فقد كان عملهم هو تبسيط الأحداث: قالوا “حرب قبلية”، وقالوا “توتر عرقي”، وقالوا “حرب عربية”. لقد وضعوا الإبادة الجماعية في عنوان مقالة اجتماعية. وهكذا، أصبح الجاني والضحية متساويين في جملة واحدة؛ وضاع العدل بين الكلمات.

يجب ألا ننسى: الإبادة الجماعية ليست هجومًا على الجسد فحسب، بل هي هجوم على العدالة، على الذاكرة، وعلى اللغة. وعندما يجعل الإعلام منطقة ما مرئية، يتوجه الرأي العام العالمي إليها. ولكن من خلال عيون من ستتحقق هذه الرؤية؟ في غزة، نقل الصحفيون المحليون الأخبار من وسط الموت لسنوات. ومع ذلك، حاول بعض المراسلين الأجانب التملص بقولهم “لم نتمكن من الحصول على المعلومات”. بينما كانت المعلومات موجودة. لكنها لم تكن مرئية للعيون التي لا تريد أن ترى.

والسؤال الذي يجب أن نطرحه الآن هو: كيف يجد صحفي لم يطأ الميدان أبدًا الشجاعة للحديث عن إبادة شعب؟ أي حقيقة تخفيها هذه الشجاعة، وأي جريمة تُبرئها؟

بينما اعتاد النظام الإعلامي الحديث على اعتبار كل كلمة صادرة من الغرب “حقيقة”، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تنذر بثورة جديدة. الآن، الأصوات المحلية يمكن أن تصل إلى الضمائر العالمية. الحقيقة لا تتردد من مركز واحد؛ بل تتردد من وسط الغبار، من طرق الهجرة، من بين المنازل المدمرة.

ولهذا السبب، على كل من يريد التحدث عن الإبادة الجماعية أن يصمت أولاً، ثم ينحني ليلامس تلك الأرض. وإلا، فما يُروى سيكون مجرد حكاية؛ ستار حريري يُمد فوق مأساة مكتوبة بالدماء…

Turan Kışlakçı

توران قشلاقجي
أكمل تعليمه العالي في إسلام آباد وإسطنبول. بدأ مسيرته الصحفية في مرحلة الدراسة الإعدادية، وعمل محررًا للأخبار الخارجية في صحيفة "يني شفق". قشلاقجي هو مؤسس موقعي "دنيا بولتيني" و"تايم تورك". وشغل منصبي رئيس تحرير منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا في وكالة الأناضول، والمنسق العام لقناة "تي آر تي عربي". كما ترأس جمعية الإعلاميين الأتراك - العرب وجمعية "مهجر"، وعمل مستشارا في وزارة الثقافة القطرية. ويقدم حاليًا برنامج "البرج العاجي" على قناة "إيكول تي في"، ويكتب مقالات في صحيفة "القدس العربي". وألّف كتابين عن الشرق الأوسط.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.