مرثية تركية للصحفيين الأبطال في غزة

أي صحفي في هذا العالم يبدأ عمله وهو يعلم أنه قد يُقتل؟ من يرتدي في هذا العالم سترة صحفي مُصاب وملطخة بالدماء، ثم يهرع إلى الميدان؟ من في هذا العالم يتسلم نوبة الشهادة بهذه الشجاعة؟ يعطينا الفلسطينيون- نحن الصحفيين- درسا لن ننساه، ويسردون على العالم قصة لا تُنسى. فهم لا يكتفون بتوثيق الإبادة الجماعية التي يتعرض لها وطنهم، بل يكتبون أيضا ملحمة نضالهم من أجل الحياة.
27/08/2025
image_print

كان ذلك في 2013. كنا نهمّ بافتتاح مكتب لوكالة الأناضول في غزة. طوال مئة عام من عمر الوكالة، لم يسبق أن افتُتح مكتب لا في القدس ولا في غزة، ولذلك كنا متحمسين للغاية. كنتُ حينها رئيس وكالة الأناضول، وكنت أعتزم السفر بنفسي لرؤية المكتب، والتعرف إلى الموظفين، وبدء العمل.

ما إن وطئت قدمي الجانب الفلسطيني من معبر رفح، حتى دوى انفجار عنيف بالقرب مني، شعرتُ بصداه في صدري. كانت غزة تُقصف مجددا، وكانت الطائرات المسيرة الإسرائيلية تحلق فوق رؤوسنا، تُصدر أزيزا أشبه بطنين الدبابير. طوال الطريق، كنا نحسب متى وأين قد تسقط القنبلة التالية.

حين وصلنا إلى قلب غزة، كانت الغارات لا تزال متقطعة. استأجرنا طابقا في منتصف إحدى البنايات متعددة الطوابق. وهناك اجتمعنا بموظفينا. جميعهم كانوا من الصحفيين الفلسطينيين الشباب.

كنا نفتح هذا المكتب لنُسمع صوت غزة للعالم، دون أن نظل رهائن لتغطيات رويترز أو وكالة الصحافة الفرنسية (AFP). ومن خلال وكالة أنباء من بلد مسلم، كنا نعتزم نقل ما نشهده هنا إلى العالم كله بسبع لغات.

لهذا كان الصحفيون الفلسطينيون الشباب في غاية الحماسة. فبعملهم هذا كانوا سيساهمون في إيصال معاناة بلادهم إلى العالم، وفي الوقت ذاته سينالون فرصة العمل في وكالة دولية.

أثناء الاجتماع، كان معظمهم يحمل جهازَ اتصالٍ لاسلكيا، يستمعون إليه بصوت خافت. وعندما كنا نسمع دوي انفجار، كانوا ينصتون إلى الإعلان الآتي عبر اللاسلكي؛ من يسمع اسم الموقع يتجه فورا إلى المكان حاملا كاميرته أو آلة التصوير، يصور الموقع المستهدف، ثم يعود إلى المكتب. كان أحد المصورين، واسمه عمر، قد لف قدمه بضماد، فقد أُصيب في قصف سابق، لكنه ظل يعمل بلا توقف.

أحد أولئك الشباب، وبعد أن سمع إعلانا عبر اللاسلكي، قال: “ليس منزلنا…”. في الحقيقة، لم يكن الإصغاء للإعلانات فقط من أجل التغطية الصحفية، بل أيضا للاطمئنان على ذويهم. فقد تركوا أبناءهم وآباءهم وأمهاتهم في المنازل وخرجوا وراء الخبر.

تأثرتُ بشدة. ربما لو كنا نحن في مكانهم، لتركنا الخبر وهرعنا إلى عائلاتنا. أما هؤلاء الشباب، فقد اختاروا البقاء في موقع الحدث، تاركين أسرهم وراءهم. وبعد مغادرتي غزة، قصفت إسرائيل المبنى الذي كان يضم مكتب وكالة الأناضول، ودُمر المكتب بالكامل، واضطُرت الوكالة إلى مواصلة عملها من مبنى آخر.

كانت وكالة الأناضول تضم مراسلين في 70 دولة حول العالم، وخلال فترة رئاستي لها، لم أرَ صحفيين في مثل إخلاص، وشجاعة، وجدية الفلسطينيين. كانوا يعملون ببسالة، غير آبهين بالموت.

مع انطلاق العدوان الأخير على غزة، تلقيت رسائل ومقاطع مصورة من ياسر البنا، أحد موظفينا السابقين في المكتب. ثم وصلتني رسائل من زملاء آخرين. وبعدها… انقطعت الرسائل. لم أعد أسمع عنهم شيئا.

اليوم، أولئك الصحفيون الشجعان من عام 2013 كبروا، وزاد عددهم. صار في غزة عدد أكبر من الصحفيين القادرين على إيصال آلامها إلى العالم. لكن الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو القصف الإسرائيلي، والظلم الإسرائيلي.

بل إننا اليوم نشهد أمرا غير مسبوق في تاريخ الصحافة العالمية: خلال عامين فقط، قتلت إسرائيل أكثر من 240 صحفيا، وجرحت المئات.

حتى في الحرب العالمية الثانية، لم يُقتل هذا العدد من الصحفيين في فترة زمنية قصيرة كهذه.

كانت إسرائيل تهدف إلى منع تغطية جرائمها، ومنع توثيق ظلمها، ومنع إيصال الحقيقة إلى العالم، من خلال قتل الصحفيين. لكنها لم تدرك أن الصحفيين الفلسطينيين لا يخافون الموت.

والآن، أجد نفسي أكتب في شبكة الجزيرة التي استشهد فيها أكبر عدد من الصحفيين. لهذا الأمر وقع خاص في نفسي. ففي وكالة الأناضول، استُشهد صحفيون عملوا فيها لاحقا، واليوم، يُستشهد صحفيو المؤسسة التي أكتب فيها الآن. وهذه مأساة خاصة بي أنا.

كلما سقط صحفي شهيدا، يأتي صحفي آخر دون انتظار، يلتقط الكاميرا أو آلة التصوير أو الميكروفون من الأرض، ويواصل إيصال صوت غزة، صوت فلسطين، إلى العالم.

إنها قصة بطولة عظيمة. هؤلاء الشباب يكتبون في غزة قصة غير مسبوقة، لم تُرَ من قبل، ولم تُسمع، ولم تُكتب في تاريخ الصحافة العالمي.

نور أبو ركبة، التي باشرت عملها فور استشهاد مراسل الجزيرة محمد قريقع، ليست سوى واحدة من هؤلاء الأبطال. كلماتها هزت القلوب، وأبكت العيون، لكنها في الوقت ذاته زادت من صلابتنا، وأيقظت إيماننا:

“أنا، بإذن الله، على الدرب ذاته، وعلى طريق القضية ذاتها. وأنا على يقين بأن موعد لقائنا هو الجنة”.

أي صحفي في هذا العالم يبدأ عمله وهو يعلم أنه قد يُقتل؟ من يرتدي في هذا العالم سترة صحفي مُصاب وملطخة بالدماء، ثم يهرع إلى الميدان؟ من في هذا العالم يتسلم نوبة الشهادة بهذه الشجاعة؟

يعطينا الفلسطينيون- نحن الصحفيين- درسا لن ننساه، ويسردون على العالم قصة لا تُنسى. فهم لا يكتفون بتوثيق الإبادة الجماعية التي يتعرض لها وطنهم، بل يكتبون أيضا ملحمة نضالهم من أجل الحياة.

لو كانت لجان تحكيم جائزة بوليتزر وجائزة وورلد برس فوتو تتحلى بشيء من العدالة، لمنحت جوائزها السنوية لهؤلاء الصحفيين الفلسطينيين. وأنا على يقين أنه لا توجد في تاريخ هاتين المؤسستين قصة صحفية كهذه، ولا بطولة صحفية بهذه الشجاعة. لكن، وللأسف، لا أستطيع القول إني أثق كثيرا في عدالة هذه المؤسسات.

نعم، نحن- الصحفيين- واجهنا الكثير في ساحات الحرب، وفي مناطق الأزمات، وفي ميادين الاشتباك. لكن، لا شيء يشبه ما يواجهه الصحفيون في غزة؛ لا في نُبل قصتهم، ولا في عظمتها، ولا في عِبرها.

أنا على يقين، سيأتي اليوم الذي تُفتح فيه أبواب غزة، وسأكتب من هناك عن بطولات أولئك الصحفيين. سأزور قبور الشهداء منهم، وأُقبل جباه من بقي على قيد الحياة، وسأحكي للعالم أجمع قصتهم.

لهذا أعمل، ولهذا أدعو، ولهذا أُقاوم…

أُحيي ذكرى أولئك الصحفيين الأبطال بكل إجلال وخشوع.

المصدر: الجزيرة نت

Kemal Öztürk

كمال أوزتورك
صحفي - كاتب
تخرج من كلية الإعلام بجامعة مرمرة.
بدأ العمل الصحفي الاحترافي في جريدة يني شفق عام 1995.
عمل في مجال الصحافة التلفزيونية، وأخرج العديد من الأفلام الوثائقية.
عمل مستشارًا إعلاميًا لرئيس البرلمان التركي بين 2003 و2007.
عمل مستشارًا إعلاميًا لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، عام 2008.
تم تعيينه مديرًا عامًا لوكالة الأناضول عام 2011.
يواصل عمله بصفة كاتب عمود، ومحلل، ومنتج برامج في الصحف والقنوات التلفزيونية المحلية والدولية منذ عام 2014.
نشر كمال أوزتورك 6 كتب و10 أفلام وثائقية.
للتواصل:
البريد الإلكتروني: [email protected]
الموقع الإلكتروني: kemalozturk.com.tr

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.