ماذا جرى في سوريا؟ ولماذا حدثت الثورة؟

سوريا ليست كأي دولة عربية، لا بميزان الجغرافيا السياسية ولا بميزان الاهمية والموقع وانتباه العالم لها
04/02/2025
image_print

وجه الشرق الأوسط أواخر العهد العثماني 

حتى تعرف ما يجري في منطقة ما على هذا العالم عليك ان تعرف تاريخها اولا, إذ دائما البدايات دليل على النهايات, والتاريخ صانع المستقبل ومرجعه الأساس, وهذا امر يحتاج منك إلى جهد, فكيف إذا كانت هذه المنطقة هي الشرق الاوسط, أكثر البلاد على وجه الارض تعقيدا وحروبا وخلافات ونزاعات, وليس هذا فقط فمنها خرج أعظم دينين ,أعداد معتنقيهما الآن يكاد يشمل البشرية كلها, وإضافة لهذا  في هذه المنطقة أماكن مقدسة لها ارتباط وثيق بالدين, والدين محرك أساسي لدى الشعوب , بل و لدى الدول, هذا على العموم, لكن ما بالك لو كان الحديث ليس عن ما يسمى بالشرق الأوسط كله وإنما عن اهم مكان فيه الا وهو سوريا, سوريا ليست كأي دولة عربية, لا بميزان الجغرافيا السياسية ولا بميزان الاهمية والموقع وانتباه العالم لها, سوريا تعتبر قلب العالم كما وصفها نابليون حينما قال أنَّ من يسيطر على سوريا سيسطر على قلب العالم,

وابن خلدون كان منتبها لسوريا حيث يعتبر انها قلب الأمة الإسلامية والعالم الإسلامي، وتشرشل كان حين يتكلم عن سوريا يعتبر أنها مفتاح الشرق الأوسط وأنه لا يمكن لقوة عظمى ان تقود العالم من دون ان تكون الشام وسوريا تحت سيطرتها،

وكيسنجر أيضا قال عنها انها مختبر التاريخ، وانا اذكر هذه الاسماء لأنها من دهاقنة التاريخ والسياسة والإستراتيجية الغربية، فالنظرة على سوريا كانت دائما خاصة ومازالت،  لأنها حجر زاوية في مشروع كبير.

بدأت الحكاية في 17 تشرين الأول 1922, محمد السادس السلطان العثماني السادس والثلاثون, كان واقفا على ظهر سفينة بريطانية, وينظر إلى استانبول ,عاصمة السلطنة العثمانية لمئات السنين, ينظر إليها كيف تبعد عن ناظريه بحزن وأسى وانكسار, قد ودّع السلطان دولةً امتدت رقعتها وسيطرتها على ٣ قارّات, وصلت إلى أبواب فيينا والمغرب وإيران, الدولة التي استطاعت ان تضم القسطنطينية وامتدت على البحار وهزمت جيوش بأسرها, السلطان السادس محمد أُجبر على ترك السلطنة وتم نفيه إلى إيطاليا , ثم مات ودفن في دمشق وفق ما اوصى,

لكن الحقيقة إنه حينما كان سلطان في الدولة العثمانية لم يكن هو الحاكم الفعلي على الدولة , وانهيار الدولة العثمانية في واقع الأمر , لم يحدث بعهده, وإنما هي حكاية وسلسلة انهيارات امتدت على مدة مئة سنة, كان عبارة عن موت بطيء.

نهاية الدولة العثمانية أو الرجل المريض, كما كانت تسميه القوى الأوروبية, كانت نتيجة عوامل وتراكمات , أدت إلى تغيير كبير وجذري في المنطقة , كان نهاية عصر وبداية عصر بكل ما تحمله الكلمة من معنى , نقطة تحول خطيرة رسمت المنطقة وبالأخص ما يسمى ب “الشرق الأوسط” من جديد,  وليس هذا فقط , بل نهايتها خلقت مشاكل مازلنا نعاني من أثاراها حتى لحظة كتابة هذا المقال, فكيف انتهت هذه السلطنة ؟ وماذا كان دور العرب بهذا الامر ؟ وما علاقتها بسوريا وبالثورة السورية ؟ وكيف امبراطورية استمرت لأكثر من 600 سنة تنتهي بسنوات قليلة ؟

في بداية القرن التاسع عشر , كان العالم ما يزال يعيش على صدى الثورة الفرنسية (1789-1799), افكار جديدة كانت تتداولها الناس عن تحرر الشعوب وتجمعها على أساس قومي, الشعوب بدأت تغضب وتتململ وتطالب بتقرير مصيرها ,  لتتجمع وتنشئ دول على أساس قومي , الدولة العثمانية في هذا الوقت كانت تسيطر على شمال قارة أفريقيا, والجزء الغربي من شبه الجزيرة العربية , وبلاد الشام والعراق وتركيا الحديثة بالإضافة إلى منطقة البلقان واليونان في اوروبا.

لكن هاتان المنطقتان الأخيرتان كان فيهما خليط عرقي قومي ديني متنوع جدا, والكل كان متعايش إلى حد كبير, تحت ظل نظام الملِّتْ “millet” بحيث كل مكون ديني يحكم نفسه بنفسه, الأرثوذوكس باليونان وغيرها من مناطق البلقان , اليهود الارمن وغيرهم الكثير, بحيث كل مشاكلهم وقضاياهم تحكم فيها قيادتهم الدينية , ولا احد يتدخل في هذا الشأن من السلطنة العثمانية , في حين كانت اوروبا تغلي , لأننا في بدايات القرن التاسع عشر ,الذي فيه كانت الثورة الفرنسية وتلتها الحروب النابليونية , كان هناك تغير كبير يحدث, الشكل القديم والنظام القديم لأوروبا كان ينهار, و يخرج مكانه شكل جديد, هذا كله كان له تأثير كبير على الدولة العثمانية ,  فلم تكن بمعزل عن ذلك , حيث أن شعوب هذه المنطقة البلقان واليونان, بدأ ينمو لديها شعور الحس القومي, وبدأت لديها رغبه بالانفصال عن الدولة العثمانية , التي كانت تضعف أصلا منذ القرن السابق, وخسرت الكثير من اراضيها , وكان اول مكوِّن , اول شعب يثور و يبدا بحرب استقلال, هم اليونانيين سنه 1821, كان لديهم شعور قومي واضح وقوي, إذ يرون انفسهم أنهم من اساس الحضارة الأوربية أنهم شعب قديم, وأنهم مسيحيين أرثوذوكس, وطبعا, جاءهم دعم من الروس والفرنسيين والبريطانيين, كان موقع اليونان استراتيجي جدا, بالنسبة لهذه القوى الكبرى الثلاث الأخيرة , وبالأخص لروسيا القيصرية التي حلمها التاريخي أن تدخل ويكون لها يد ومكان في المياه الدافئة , وسنرى هذا الامر يتكرر فيما بعد مستقبلا في سوريا وهذا ما سنحكي عنه في المقالات القادمه, وبالإضافة إلى ذلك تريد روسيا ان تسيطر على المضائق المهمة.

المهم  بعد سلسلة من الحروب تم إعلان انفصال اليونان عن الدولة العثمانية سنة 1829, وبالرغم من ذلك كان مساحة اليونان صغيرة مقارنة بمساحة الدولة العثمانية المترامية الاطراف, ولكن الإنفصال كان كجرح قاتل للدولة العثمانية بحسب بعض المؤرخين, ولمواجهة موجة الشعور  القومي والانفصالي لدى الكثير من شعوب المنطقة (البلقان وقبلها اليونان) أصدر السلطان عبدالمجيد الاول (1839-1861) حزمة اصلاحات سموها بالتنظيمات , وتتضمن المساواة بين كل مكونات السلطنة , المسلمين وغير المسلمين , كلهم يدفعون ذات الضرائب ويحتكمون لذات القوانين , وأيضا انتقلت المساواة للتجنيد , حيث قبل هذه القوانين كان الاجانب يدفعون الجزية للدولة , وبالمقابل يأخذون الحماية ولا يشاركون في الجيش العثماني ولا يقاتلون معه , و التنظيمات هذه كان هدفها إلغاء التمييز بحسب زعم البعض , وإيجاد هوية عثمانية , بحيث الذي يعيش داخل هذه السلطنة يحس بأنَّه عثماني , والانتماء يكون للدولة قبل اي شيء آخر , ولكن كما يقول الباحث التركي حميت بوزرسلان  أن الامر انتهى وقد سبق السيف العذل, إذ أن هذه التنظيمات جاءت متأخرة , حيث تجذَّر لدى شعوب هذه المنطقة الشعور القومي وقرروا الاستقلال, بحيث تكون يونان لليونانيين وصربيا لصربيين وبلغاريا للبلغاريين وهكذا , وفضلا عن هذا فإن وجود لغة خاصة لكل مكون قوّى لديه الشعور القومي , ودفعهم للشعور ان لديهم حقوق سياسية , ثم لاحقا في استانبول حدث انقلاب على السلطان عبدالعزيز الأول (1861-1876) ثم جاء بعده السلطان مراد الخامس( أيار – آب 1876) ولم يظل  سوى اشهر, ويقال أنه اصيب بالجنون , فجاء بعده السلطان عبدالحميد الثاني (1876-1909) وهو السلطان الرابع والثلاثين في تاريخ السلطنة.

وكان قد وصل للحكم والأمر على هذه الفوضى والقلاقل والثورات وضعف عام في الدولة , وكانت اول اهداف السلطان ايقاف التدخل الاجنبي , فالأجانب كانوا يتدخلون بالدولة ضمن ذريعة المطالبة بإعطاء الحقوق أكثر للأقليات الدينية وتطوير السلطنة بشكل افضل إداريا, وسيتكرر هذا التدخل الأجنبي”الأوروبي الأمريكي الروسي” في منطقتنا حتى يومنا هذا, وهذا ما سيمر معنا حين نصل للحديث عن الثورة السورية, المهم  قام السلطان بعدة إصلاحات , وكانت هذه الإصلاحات عبارة عن “دستور جديد”, و”انتخابات برلمانية” أُطلِقَ عليها بالمشروطية الاولى , “بالإضافة للمساواة بين كل المكونات” , والهدف كان تهدئة ثورات البلقان, وإبعاد القوى الاجنبية , ولكن خلال السنة التالية , سنة 1877 اعلنت الإمبراطورية الروسية الحرب على السلطنة العثمانية , والصراع حينها كان يبدو وجوديا, حيث كان الروس يفكرون بتوحيد كل الشعوب السلافية بما فيها سلاف البلقان, الصرب والبلغار وغيرهم, حيث ارادت ضمهم ضمن امبراطورية واحدة , والروس أيضا كان لديهم حلم قديم وكبير , وهو احتلال استانبول وتحويل اسمها  إلى تسارغراد ”مدينة القيصر” وكان احد احلام مثقفيهم وقد مر هذا ضمن اعظم مؤلفات دوستويفسكي الا وهي “الإخوة كارامازوف”, وخلال اسابيع استطاعت الإمبراطورية الروسية أن تنتصر على السلطنة ,وتفرض شروطها , وقد اخذت مناطق جديدة بمنطقة القوقاز , وانجبرت السلطنة على قبول نتائج اتفاقية برلين 1878, التي اعطت رومانيا وصربيا ولاحقا بلغاريا ومونتينيجرو “الجبل الأسود”  ما يشبه الحكم الذاتي تحت ظل السلطنة ,ولكنهم كانوا مستقلين في الحقيقة على أنه لم يتم اعلان الاستقلال رسميا في ذلك الحين ,وقد صارت تلك الدول الاربع تحت النفوذ الروسي , اما بالنسبة للبوسنة فقد احتلتها النمسا امبراطورية الهابسبورغ (النمسا وهنغاريا) , وبالنتيجة خسرت السلطنة مساحات شاسعة من اراضيها التي كانت تحت نفوذها من قارة اوروبا .

المؤرخ البريطاني المتخصص بشؤون البلقان مارك مازور  يقول أن نتيجة هذه التغييرات الكثيرة الحاصلة بالمنطقة نتجت اول ازمة لاجئين بالعصر الحديث , ملايين المسلمين من سكان هذه الدول المستقلة حديثا تم تهجيرهم من ارضهم , وعربات اللاجئين الخشبية التي تجرها الثيران قد صارت رمزا لتلك المرحلة , اما من ناحية السلطنة فبعد الهزيمة , وبعد الإجبار على قبول اتفاقية برلين ,علَّق السلطان عبدالحميد الثاني العمل بالدستور سنة 1878, وبدأ بممارسة حكم فردي إلى حد كبير , لأنه خاف ان يؤدي الدستور  إلى اضرابات داخلية , ويضعف السلطة المركزية بالسلطنة  , لهذا رجع إلى وضعه السابق واستعاد سيطرته الكاملة , ولكنه على الجانب الآخر استمر بعملية تحديث السلطنة , كالتعليم والقضاء والإدارة والبنى التحتية بشكل عام كلها تطورت بعهده , ومدارس حديثة نظامية انتشرت بكل انحاء السلطنة ,ومدارس عسكرية ومعاهد حميدية للتعليم العالي ,وقطار من باريس لإستانبول يصل خلال 3 ايام ,حيث تغير شكل مدينة استانبول وتحول إلى الحداثة ,وصارت تعتبر مدينة جميلة وجذابة بمعايير ذلك الزمان , حتى على مستوى الموضة صارت تظهر فيها آخر صيحات الموضة الغربية , وليس هذا فقط بل حتى اجمل المسرحيات كانت توجد في استانبول , واهم الممثلين والممثلات الاوروبيات كانوا يذهبون إلى استانبول ويقيمون مسارحهم فيها , فنجمة العصر في ذلك الوقت , الممثلة سارة برنار (1844-1923) قد أقامت اكثر من مسرحية في استانبول والمسرح قد كان اهم شيء في ذاك الزمن لأنه لم تكن السينما ولا التلفاز قد وجدا حينها , يعني المسرح كان التريند في ذاك الحين.

وبالترافق مع هذه التطورات بدأت تظهر طبقة من رجال الاعمال والموظفين والتجار العثمانيين ,ومنهم من كان ينتمي لقوميات مختلفة ,واستفادوا من تطور الاسواق المنتشرة على مساحات السلطنة الشاسعة , حتى الغربيين كان لهم مصلحة باستقرار السلطنة ,لأنه سوق لمنتجاتهم ,وكان يوجد أيضا تجار وموظفين ورجال اعمال على النقيض من هذا تماما إذ أنهم لا يريدون استقرار الدولة ويطمحون لإنهائها, وأشهرهم يهود الدونمة.

المهم كانت بريطانيا وفرنسا تحديدا لديهما استثمارات ضخمه بالبنية التحتية بالسلطنة ,  بالقطارات وبخطوط الحديد و بمد خطوط الكهرباء , وأيضا استثمارات ثقافية , وحتى البنك الإمبراطوري العثماني الذي له افرع بكل ولايات السلطنة حتى بدمشق كان له فرع اساسي بمنطقة الحريقة بالشام ,كان قد تأسس على رؤوس اموال فرنسية وبريطانية ,كل هذا التحسن الشكلي لم يمكن له ان يحسن الوضع السياسي المهلهل داخل السلطنة , لأن الدولة كانت غارقة بالديون ,وبدأوا يتعاملون معها على انها دولة مفلسة , لأنها لم تقدر ان ترد الديون لفرنسا وبريطانيا ,  ومع بداية القرن العشرين ,بدأت الأمور تسوء اكثر , والخطر هذه المرة كان يأتي من منطقة مقدونيا , الواقعة من الشمال من اليونان , حيث أن الشعور القومي اليوناني كان توسعي.

Abdulrahman Eid

عبد الرحمن عيد
وُلد عام 1994 في مدينة حلب السورية. بدأ تعليمه الجامعي في جامعة حلب عام 2012، ولكن بسبب الحرب اضطر إلى الهجرة إلى تركيا في عام 2018. واصل تعليمه في إسطنبول وتخرج من كلية الإلهيات في جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية عام 2023.
عمل في مجال تعليم اللغة العربية كلغة أجنبية، واشتغل في عدة مؤسسات مثل "Akdemistanbul"، والمدارس الحكومية للأئمة الخطيب، ووقف تركيا لتعليم القرآن الكريم، ورئاسة الشؤون الدينية في تركيا. ولا يزال مستمرًا في العمل في هذا المجال.
بالإضافة إلى ذلك، يُجري أبحاثًا في فلسفة السياسة، ويهتم بشكل خاص بمواضيع العلاقة بين الإسلام والسياسة.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.