عصر جديد في العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية

تُظهر زيارة ولي العهد إلى واشنطن أن عصر ”الأمن مقابل النفط“ في العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لم ينتهِ تمامًا، بل إن هذه الصيغة قد تم تكييفها وتحويلها لتتناسب مع الظروف الجديدة. أصبحت مجالات مثل تحديث الدفاع، وتنويع الاقتصاد، والتكنولوجيا المتقدمة، وبناء النظام الإقليمي، عناصر في هذه العلاقة لا تقل أهمية عن النفط. لذلك، لشرح الصورة الحالية، يبدو أن مفهوم ”الشراكة الاستراتيجية متعددة المستويات“ أكثر شمولاً وفعالية من الناحية التحليلية من الصيغة التقليدية ”النفط مقابل الأمن“.
22/11/2025
image_print

الانتقال إلى نموذج شراكة استراتيجية متعددة المستويات في العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية

غالبًا ما تم تلخيص العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في أدبيات العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بصيغة واحدة: ”الأمن مقابل النفط“. تعبر هذه الصيغة عن علاقة التبعية المتبادلة التي توفر فيها السعودية إمدادات نفطية مستقرة وكبيرة الحجم لأسواق الطاقة العالمية، بينما تمنح الولايات المتحدة الأولوية لأمن النظام السعودي وحماية طرق إمدادات الطاقة في الخليج. يُنظر إلى الاجتماع الذي عُقد عام 1945 بين روزفلت والملك عبد العزيز على متن السفينة الحربية الأمريكية كوينسي على أنه اللحظة التأسيسية الرمزية لهذا النموذج، في حين عززت الأزمات التي حدثت خلال فترتي الحرب الباردة وحرب الخليج هذا الإطار.

ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، أدت التحولات في الجغرافيا السياسية العالمية للطاقة، وإعادة تقييم الاقتصاد السعودي والسياسة الخارجية، والأولويات الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة القائمة على المنافسة بين القوى العظمى، إلى جعل هذه الصيغة الأساسية غير ملائمة بشكل متزايد. ويمكن تفسير الزيارة الأخيرة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن والمواضيع المتعلقة بالدفاع والاستثمار والتكنولوجيا التي برزت خلال هذه الزيارة على أنها نقطة تحول رمزية في هذا التحول. ومن الضروري الآن الحديث عن نموذج جديد للشراكة الاستراتيجية متعدد المستويات وشامل، بدلاً من ”الأمن مقابل النفط“.

وفي هذا السياق، فإن النظر إلى الزيارة من منظور مفاوضات شراء طائرات F-35 أو بيع الدبابات أو حزم استثمارية ذات حجم معين سيكون محدوداً من الناحية التحليلية. من الأصح النظر إلى الزيارة على أنها إعادة صياغة لعصر ”ما بعد كوينسي“ واعتبار أمن الطاقة وتحديث الدفاع والمنافسة الجيواقتصادية وتوازن القوى الإقليمية أجزاء متشابكة من كل واحد. من هذا المنظور، فإن الصورة التي تظهر ليست اختفاء نموذج ”الأمن مقابل النفط“ بقدر ما هي إعادة تعريفه بمحتوى جديد.

الخلفية التاريخية وديناميات التغيير الهيكلي

لفهم كيفية عمل النموذج الكلاسيكي، من الضروري إلقاء نظرة سريعة على السياق التاريخي. طوال فترة الحرب الباردة، نظرت الولايات المتحدة إلى المملكة العربية السعودية كشريك رئيسي في الحد من النفوذ السوفيتي وضمان أمن الطاقة الغربي. أبرزت أزمة النفط عام 1973 بشكل كبير الدور الحاسم للمملكة العربية السعودية في التسعير والإمداد. أدت الثورة الإيرانية عام 1979 وما تلاها من عدم استقرار في المنطقة إلى زيادة أهمية حماية النظام السعودي بالنسبة للولايات المتحدة. خلال حرب الخليج في 1990-1991، كان إنقاذ التحالف بقيادة الولايات المتحدة للكويت وانتشاره على نطاق واسع على الأراضي السعودية عاملين حاسمين في إظهار المدى الذي يمكن أن يصل إليه البعد الأمني. خلال هذه الفترات، غالبًا ما تم تأطير العلاقة بين الرياض وواشنطن على النحو التالي: طالما حافظت المملكة العربية السعودية على استقرار الإنتاج والأسعار، ستلتزم الولايات المتحدة بحماية أمن المملكة وخطوط أنابيب الطاقة في الخليج.

كانت أول ديناميكية هيكلية رئيسية أدت إلى تآكل هذا الإطار هي التحول في ملامح قطاع الطاقة في الولايات المتحدة. بفضل التقدم في تقنيات إنتاج النفط والغاز الصخري، قلصت الولايات المتحدة تدريجياً اعتمادها على النفط الأجنبي منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ورغم أن ذلك لم يقضِ تماماً على الواردات من الشرق الأوسط، إلا أنه قلل بشكل كبير من مستوى اعتبار نفط الخليج ضرورة ”حيوية“ للاقتصاد الأمريكي. ونتيجة لذلك، تضاءل الارتباط المباشر بين ”الوصول إلى النفط السعودي“ و”أمن الطاقة المحلي في الولايات المتحدة“. ولا يزال أمن الطاقة مهمًا بالطبع، ولكن الموردين البديلين وآليات السوق المتنوعة والتحالفات الإقليمية أصبحت عوامل أكثر أهمية في ضمان هذا الأمن.

الدينامية الهيكلية الثانية هي أجندة التحول الداخلي في المملكة العربية السعودية. يهدف برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يتم تنفيذه في إطار رؤية 2030 إلى إبعاد البلاد عن نموذج الدولة الريعية الكلاسيكي، أي نظام التوزيع القائم على عائدات النفط. وتبذل جهود لخلق مجالات استثمارية جديدة في مجموعة واسعة من القطاعات، من السياحة إلى الترفيه، ومن التكنولوجيا المتقدمة إلى صناعة الدفاع المحلية. وفي هذا السياق، تسعى الرياض إلى وضع نفسها في النظام الدولي ليس فقط كدولة مصدرة للنفط، بل أيضاً كطرف فاعل يصدر رأس المال على نطاق عالمي، ويوفر التمويل لمشاريع البنية التحتية الكبرى، ويقيم شراكات تكنولوجية. وبالتالي، انتقلت السياسة الخارجية من إطار يركز على الطاقة فقط إلى مجال أكثر جغرافية اقتصادية وتعدد الأبعاد.

وبالنظر إلى هذين العنصرين الهيكليين معاً، يتضح أن القوة التفسيرية لصيغة ”الأمن مقابل النفط“ قد ضعفت. لم تعد الولايات المتحدة تعتمد على النفط السعودي كما كانت في السابق، ولا ترغب السعودية في تعريف نفسها من خلال النفط وحده. بالإضافة إلى ذلك، فإن قضايا مثل نفوذ إيران الإقليمي، وديناميات التطبيع مع إسرائيل، ومسار العلاقات مع الصين وروسيا، والمشاكل الأمنية في البحر الأحمر واليمن، تضع العلاقة بين البلدين في إطار أكثر تعقيدًا. باختصار، تنوعت القيمة الاستراتيجية التي يوليها الطرفان لبعضهما البعض إلى درجة لا يمكن اختزالها في متغير واحد.

الزيارة الأخيرة إلى واشنطن وإعادة صياغة النموذج

يمكن النظر إلى زيارة ولي العهد إلى واشنطن على أنها منصة تجسدت فيها عملية التحول هذه. تتضمن الموضوعات الرئيسية التي تم تسليط الضوء عليها خلال الزيارة عناصر استمرارية مع النموذج الكلاسيكي، ولكنها تتضمن أيضًا ابتكارات مهمة تتعلق بطبيعة العلاقة.

أولاً، يجب أن نبدأ بالبعد الدفاعي. إن رفع مكانة المملكة العربية السعودية إلى مرتبة ”حليف رئيسي خارج حلف الناتو“ يعني أن البلاد قد أُدرجت في فئة تسمح لها بالتكامل الوثيق مع الحلف دون أن تكون عضواً فيه. ولا يقتصر هذا الوضع على تحقيق نتائج عملية مثل الأولوية وسهولة بيع الأسلحة والمشاركة في التدريبات والمشاريع المشتركة، بل يشجع أيضًا على إقامة علاقة أمنية بين البلدين في إطار أكثر مؤسسية وقابلية للتنبؤ، تتجاوز العلاقات الشخصية بين القادة. من هذا المنظور، تتطور طبيعة الضمان الأمني من كونه ”ضمنيًا وشخصيًا“ إلى مؤسسي.

العنصر الثاني المهم هو حزم صناعة الدفاع. قد تبدو المشتريات المخطط لها من طائرات مقاتلة من طراز F-35 ووحدات مدرعة ثقيلة، للوهلة الأولى، صفقة أسلحة كلاسيكية. ومع ذلك، في النظام البيئي الدفاعي الحالي، لا تعتبر هذه المنصات مشتريات لمرة واحدة، بل ترتبط بصيانة طويلة الأجل، وتدريب، وبرمجيات، وقطع غيار، وعمليات تحديث. وبالتالي، فإن البنية الدفاعية للسعودية لديها القدرة على أن تصبح أكثر ارتباطًا بالتكنولوجيا الأمريكية وسلاسل اللوجستيات والقدرة على إنتاج المبادئ التوجيهية على مدى عقود. وهذا يتجاوز علاقة ”شراء الأمن“ وينطوي على تكامل مؤسسي وتقني عميق.

ثالثًا، تعيد أطر التعاون المعلنة في مجالات الطاقة النووية المدنية والذكاء الاصطناعي والمعادن الحيوية تعريف أبعاد العلاقة في مجالي الطاقة والتكنولوجيا. وفي حين تحتل الطاقة النووية والمصادر المتجددة وتقنيات التخزين الصدارة في التحول المستقبلي للطاقة، يُنظر إلى المعادن الحيوية والذكاء الاصطناعي أيضًا على أنهما مجالات استراتيجية من حيث المنافسة الاقتصادية والأمن القومي. في هذا السياق، يؤدي تعاون المملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة في هذه المجالات إلى ظهور أنواع جديدة من علاقات التبعية والشراكة تتجاوز ”إمدادات النفط“. بالنسبة للرياض، هذه فرصة للتنويع الاقتصادي ونقل التكنولوجيا، بينما بالنسبة لواشنطن، هي فرصة لتوسيع نطاق نفوذها على تحول الطاقة وسلاسل التوريد.

كما أن هذه العناصر الجديدة تغير طبيعة الضمان الأمني الأمريكي. في سرد ما بعد كوينسي، غالبًا ما كانت المظلة الأمنية تُصوَّر على أنها التزام تلقائي وأساسي. لكن اليوم، فإن الدور المتنامي للكونغرس في السياسة الداخلية الأمريكية والانتقادات المتزايدة بشأن قضايا مثل حقوق الإنسان واليمن وقتل الصحفيين والصراع الإسرائيلي الفلسطيني تجعل أي حزمة دفاعية للسعودية أكثر شرطية وإثارة للجدل. بالإضافة إلى ذلك، تمتد توقعات واشنطن من سياسة الرياض تجاه إيران إلى احتمال تطبيع العلاقات مع إسرائيل وإطار العلاقات العسكرية والتكنولوجية مع الصين وروسيا. تربط هذه الشروط المظلة الأمنية بإطار معقد لمواءمة السياسات لا يمكن اختزاله إلى ”تدفق النفط“.

تؤدي كل هذه التطورات إلى تحول في لغة وخطاب التحالف. تفضل الأطراف استخدام مفاهيم مثل ”الشراكة الاستراتيجية“ و”التعاون الجغرافي الاقتصادي“ و”الرؤية المشتركة لتحويل الطاقة“ بدلاً من المصطلحات الكلاسيكية مثل ’التحالف‘ و”الكتلة“ و”الدفاع الجماعي“. يشير هذا الخطاب إلى إطار يتم فيه التعامل مع الدفاع والطاقة والاستثمار والتكنولوجيا ككل واحد، حيث يتشابك الأمن مع الاقتصاد والتكنولوجيا. وبالتالي، فإن نموذج ”الأمن مقابل النفط“ يفسح المجال لهيكل أكثر تعقيدًا من التبعية المتبادلة، سواء من حيث المضمون أو اللغة.

باختصار

تُظهر زيارة ولي العهد إلى واشنطن أن عصر ”النفط مقابل الأمن“ في العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لم ينتهِ بقطيعة مطلقة، بل أن هذه الصيغة قد تم تكييفها وتحويلها لتتناسب مع الظروف الجديدة. لا يزال النفط متغيرًا مهمًا، لكنه لم يعد يحتل مكانة مركزية في العلاقة. أصبحت مجالات مثل تحديث الدفاع، والتنويع الاقتصادي، والتكنولوجيا المتقدمة، وبناء النظام الإقليمي، مكونات لهذه العلاقة لا تقل أهمية عن النفط. لذلك، يبدو أن مفهوم ”الشراكة الاستراتيجية متعددة المستويات“ أكثر شمولاً ووظيفية من الناحية التحليلية من الصيغة التقليدية ”النفط مقابل الأمن“ في تفسير الصورة الحالية.

 

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.