حراك “جيل زد” في المغرب: مأزق الملكية والانهيار المجتمعي

الاحتجاجات الأخيرة في المغرب ليست مجرّد تعبير عن أزمات معيشية اقتصادية، بل هي إشارة إلى أزمة شرعية للنظام. فإذا لم يُقدم الملك ودائرته الضيقة على إصلاحات جدية في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل، فقد يتطور هذا الحراك إلى موجة تحول اجتماعية أوسع وأكثر ديمومة. صوت الشباب لم يعد همسًا يمكن تجاهله، بل أصبح موجة تحدد إيقاع السياسة الوطنية.
04/10/2025
image_print

منذ أواخر أيلول/سبتمبر 2025، تشهد شوارع المغرب أكبر احتجاجات شبابية في تاريخ البلاد الحديث. فتحت وسم “جيل زد 212″، خرج آلاف الشباب ليعبّروا عن غضبهم المتراكم من أزماتهم اليومية ومن المشكلات البنيوية المتجذّرة. هذا الحراك يكشف الفجوة العميقة بين وعود التحديث التي ترفعها الملكية المغربية، وبين واقع الحياة اليومية للمواطنين.

منذ عقود، تتركّز القوة الاقتصادية في المغرب بيد الملك والعائلة الملكية بشكل مباشر. فعدد من القطاعات الاستراتيجية — من الزراعة إلى المصارف، ومن العقارات إلى الطاقة — تخضع لسيطرة إمبراطورية الشركات التابعة للأسرة الحاكمة. هذا الواقع رسّخ لدى الشعب شعورًا بأن “البلد ليس ملكنا، بل ملك خاص للعائلة الملكية”. أما فاتورة الأزمات، فتُحمّل دائمًا إلى “الحكومات الدمى”. ولم يعد قيام الملك بين الحين والآخر بإقالة رؤساء الحكومات كافيًا لامتصاص الغضب الشعبي، إذ إن الحكومات الجديدة تظل تنفّذ ما يمليه عليها القصر، فتبقى المشكلات البنيوية على حالها.

عندما وصل الربيع العربي إلى المغرب عام 2011 من خلال حركة 20 فبراير، تحرك الملك محمد السادس بسرعة. فوعد بتعديل الدستور، ونظّم استفتاءً في تموز/يوليو 2011، ومنح الحكومة بعض الصلاحيات. كما نالَت اللغة الأمازيغية صفةً رسمية، وجرى الحديث عن تعزيز دور القضاء والمجلس الأعلى للحسابات، إلى جانب زيادة الدعم الحكومي للسلع. في المقابل، واصلت الأجهزة الأمنية تدخلاتها بوتيرة منخفضة ولكن مستمرة.

تضافرت هذه الخطوات مع الشرعية الدينية للملك (بصفته أمير المؤمنين)، وسلطة القصر في توزيع الموارد، وتشتت قوى المعارضة، وكذلك صورة “الانفتاح التدريجي” التي تراكمت منذ تسعينيات القرن الماضي. هكذا امتصّ النظام طاقة الشارع وأعاد توجيهها نحوه. وبعد 2011، جرى تمكين حزب العدالة والتنمية (PJD) عبر صناديق الاقتراع، لكنه بقي داخل الإطار الذي رسمه القصر، فتكوّن بذلك مظهر من مظاهر “التعددية المضبوطة”.

وباختصار، استطاع المغرب تحويل موجة الربيع العربي إلى سخط يمكن التحكم فيه، عبر مزيج من الإصلاحات الدستورية السريعة، والإدماج الانتقائي للفاعلين السياسيين، ومزيج الدعم الاجتماعي والقبضة الأمنية. لكنّ التفاوتات الاجتماعية والهشاشة الإقليمية بقيت دون حل، لتشكّل اليوم الأرضية الخصبة التي نبتت عليها موجة جيل زد الجديدة.

أبرز ما يثير غضب الشباب هو أولويات الدولة الاستثمارية. فبدلًا من بناء المستشفيات والمدارس، أُنفقت مليارات الدراهم على الملاعب. وفي إطار التحضيرات لكأس العالم 2030، بُنيت ثلاثة ملاعب جديدة في مدينة واحدة، وشُيّدت مجمّعات رياضية ضخمة، بينما شهد مستشفى عمومي في أكادير خلال أيام قليلة وفاة ثماني نساء أثناء عمليات قيصرية. هذه المأساة أشعلت فتيل الغضب الشعبي. ومن أقوى شعارات التظاهرات التي تلخص الواقع:

“الملاعب موجودة، لكن أين المستشفيات؟”

أما زلزال 2023 المدمّر، فقد كشف هشاشة البنية الاجتماعية المغربية. وبعد مرور عامين، لا تزال عشرات الآلاف من الأسر تعيش في خيام مؤقتة وسط ظروف غير صحية. لا مشاريع إسكان دائمة ولا استثمارات بنية تحتية جدية. ورغم إعلان العائلة الملكية عن حملات إغاثة واسعة، فإن الواقع الميداني يحكي قصة مختلفة تمامًا. هذا الشعور بأن “الدولة تركتنا نواجه مصيرنا” بات يتجذّر في وعي الجيل الشاب.

تتجاوز معدلات البطالة بين الشباب المغربي 30%، حتى بين خريجي الجامعات. كثيرون عاجزون عن إيجاد وظائف لسنوات، فيلجؤون إلى الهجرة نحو أوروبا أو الخليج. في نظرهم، لم يعد الوطن أرضًا تعد بالمستقبل، بل طريقًا مسدودًا يجب الهرب منه. ويزداد هذا الشعور قتامة مع الصورة السلبية التي يُنظر بها إلى المغرب في الخارج — كـ”جنة للجنس والمخدرات” — ما يضعف أكثر فأكثر إحساس الشباب بالانتماء الوطني.

تطبيع الملك محمد السادس للعلاقات مع إسرائيل أضاف بعدًا آخر للاحتجاجات. فقضية فلسطين حاضرة بقوة في الوجدان المغربي، والعلاقة المتنامية بين الرباط وتل أبيب تثير سخطًا واسعًا. ويردد المتظاهرون هتافات تستنكر موقف الرباط من المجازر في غزة وتعتبره عارا. وهذا يؤكد أن جيل زد لا يكتفي بانتقاد الأوضاع الداخلية، بل يخوض أيضًا مراجعة جذرية للسياسة الخارجية للنظام.

تواصل الملكية التنصل من مسؤولياتها عبر تحميل الحكومات المتعاقبة تبعات الفشل البنيوي. غير أن الشباب باتوا يدركون هذه اللعبة. تغييرات رؤساء الحكومات أو التعديلات الوزارية أو التصريحات الشعبوية لم تعد تخفي التناقضات العميقة للنظام. غضب الجيل الجديد موجّه ليس فقط إلى البطالة أو التعليم، بل إلى هذا “النظام القائم على الهروب من المسؤولية” ذاته.

الاحتجاجات الأخيرة في المغرب ليست مجرّد تعبير عن أزمات معيشية اقتصادية، بل هي إشارة إلى أزمة شرعية للنظام. فإذا لم يُقدم الملك ودائرته الضيقة على إصلاحات جدية في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل، فقد يتطور هذا الحراك إلى موجة تحول اجتماعية أوسع وأكثر ديمومة. صوت الشباب لم يعد همسًا يمكن تجاهله، بل أصبح موجة تحدد إيقاع السياسة الوطنية.

وما يزيد الموقف احتقانًا، أن قوات الأمن الملكية أطلقت الرصاص على المتظاهرين، ما أسفر عن سقوط ضحايا، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى تعميق الغضب الشعبي. قد يُقمع هذا الحراك مؤقتًا، لكن الخطر الحقيقي بالنسبة للملكية المغربية هو أن يتراكم هذا الغضب ويقوّض استقرار النظام في المدى المتوسط. فهل تستطيع ملكية لا توفر لشعبها حياة كريمة أن تبقى قائمة في القرن الحادي والعشرين؟

Bekir Gündoğdu

بكر غوندوغدو
باحث - كاتب. عمل على مستويات مختلفة في السياسة والمجتمع المدني والإعلام. يواصل العمل حاليًا كمحرر في مجال الإعلام الجديد وناشر على الإنترنت.
البريد الإلكتروني: [email protected]

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.