اليهودية الصافية – اليهودية الهجينة

02/10/2025
image_print

المقالة التالية مأخوذة بتحديث عن مقال بعنوان ما هي اليهودية؟ الذي نُشر في مجلة “يارين” عام 2004، ثم أعيد نشره لاحقاً عام 2008 على موقع haber10.com.


ما هي اليهودية؟

لقد أُطلقت عبر التاريخ وحتى اليوم تعاريف وتوصيفات وسرديات عديدة عن اليهودية. فقد قُدِّمت آراء إيجابية وسلبية، وتحليلات، وأسطورات، ونُسِجت نظريات مؤامرة. لذلك فلنقدّم نحن أيضاً سرديتنا:

1 – اليهودية ليست هي الموسوية!

لقد كنا قد أشرنا إلى أنّ الجماعات التي عُرِفت عبر التاريخ باسم اليهود قد برزت على المسرح بعد الغزو الفارسي في القرن السادس قبل الميلاد (حوالي 530 ق.م)، وذلك حين جُمعت من حوض الهند–إيران وأُحضرت إلى المنطقة مقابل تقديم خدمة للفرس، وحصلت في المقابل على امتيازات تجارية في المنطقة. هذه الجماعات هي في أصلها على الأرجح بقايا قبائل داليت/غجر متناثرة، والتي كانت قد هربت من الهند إلى أفغانستان وإيران وبلاد ما بين النهرين عقب الغزو الآري.

وفي زمن الحضارة التي تأسست بعد السومريين، والتي يُشار إليها في القرآن باسم قوم عاد، والتي جاءت في كثير من الآيات تحت مسمى “هادُو”، كانت بعض الجماعات قد وصلت إلى المنطقة، ثم تمازجت مع آخرين جاءوا من المنطقة ذاتها في عصور آشور وفينيقيا، وظلّت لزمن طويل في المنطقة تمارس أعمال العبيد والخدم والفلاحين.

لاحقاً، ومع دخول الفرس إلى المنطقة في القرن الخامس قبل الميلاد، استغلّ الفرس الفراغ الناشئ عن تصفية التجار الآشوريين، فجلبوا من جديد سكاناً من نفس المنطقة، ودمجوهم مع المحليين، ونظّموا هذا المجتمع بقيادة عزرا ممثل الملك كورش. وقد منحهم الفرس الامتيازات التجارية في المنطقة باسمهم. وبفضل دعم الجيش الفارسي، أصبحت هذه الجماعات قوية، فأعلنت الحرب على القبائل الآشورية/الموسوية التي كانت غريبة عنها تماماً في المنطقة، وقتلتهم، وشرّدتهم من ديارهم، وأسكنت جماعات تابعة لها مكانهم.

ومع مرور الوقت، سعت هذه الجماعات، من أجل التخلص من صفة الغريب والتمكّن من البقاء، إلى تبني الثقافتين الموسوية والبابلية، وبدأت في تطوير أساس ديني–ثقافي يمنحها الشرعية. وهكذا أُطلِق على هذه الجماعات، التي هي خليط من قوم عاد ذوي الأصول الهندية–الإيرانية والغجر الهنود المدعومين من الفرس، أسماء مختلفة عبر العصور: ففي العصور القديمة دُعوا “هادُو”، وبعد الآشوريين عُرفوا باسم “يهود – يهود – جِوِس – يهودي”. والقرآن يستخدم تعبير “هادُو” عند الحديث عن زمن موسى وعيسى، بينما يستخدم كلمة “يَهود” في سياق زمن النبي محمد ﷺ.

أما الكتاب المعروف باسم “التوراة”، فهو في الحقيقة نتاج هذه العملية، إذ جرى تدوينه بين القرنين الخامس والأول قبل الميلاد، على شكل أجزاء متفرقة، وتعرّض للعديد من التغييرات، وهو في جوهره ليس سوى مجموعة من القصص والأساطير الإقليمية.

إنّ ما أعطى التوراة أهميتها لم يكن محتواها بقدر ما كان لغتها والالتزام بها، إذ ساعدت على خلق عصبية مشتركة بين الجماعات اليهودية، ومنحتها القدرة على الاستقرار والبقاء في المنطقة عبر التاريخ. ويشير العديد من الباحثين إلى أنّ السبب وراء تقديم اليهودية لنفسها وكأنها صاحبة الفضل في كل الإرث القديم – رغم أنها لا تمتلك أياً من خصائص المجتمعات التي أسست الحضارات السابقة، وأقامت مدناً، وطوّرت علماً وفناً وفلسفة، والتي رغم ذلك اندثرت بأسمائها ولغاتها – هو أنّ العصبية القائمة على التوراة قد تم الحفاظ عليها بإصرار شديد. بل إنّ كثيراً من الإنتاج الحضاري الذي أبدعته أمم أخرى تبنّاه اليهود ونسبوه لأنفسهم.

إنّ هذا الملخص لتاريخ اليهودية وطبيعتها المميزة في الوجود يقوم في الأساس على تبنيها للموسوية. فالموسوية تعود إلى الفترة بين 1500 و1200 ق.م، حيث خرج موسى الآشوري (سرجون – رمسيس) بعد الغزو الإيراني، فهرب بالشعب الآشوري (بني آشور) من الملك الإيراني فريدون (الفرعون)، وعبر بهم صحراء سوريا وصولاً إلى فلسطين، ثم أخذهم إلى مصر حيث أسس نظاماً جديداً.

وفي مصر، عُرف موسى باسم رعمسيس – راموسه (ابن الرب – عبد الله). وهناك جمع جيشه مجدداً وهاجم القوى الإيرانية وأخرجها من المنطقة. هذا الصراع الكبير، الذي حفظه هوميروس في ملحمته الإلياذة والأوديسة، وسجّلته الآثار باسم معركة قادش، هو الذي ظلّت بقاياه من السكان الهندو–الإيرانيين في المنطقة، وبهذا فهؤلاء يشكّلون الأصل الذي انبثقت عنه اليهودية اليوم.

في الألفية الأولى قبل الميلاد (حوالي 1000 ق.م)، في زمن الدولة الآشورية الجديدة التي أسسها ملوك آشور–مصر، وهم داوود (تحوت موسى) وسليمان (شلمنصر)، كان الـ هادُوهذه المرة يخدمون تلك الدولة. لكن مع دخول الفرس إلى المنطقة وجلبهم جماعات أخرى شبيهة وقريبة لهم، أصبح هؤلاء يخدمون الجيش الفارسي، وإلى أن جاء عهد الإسكندر ظلّوا يشكّلون في المنطقة قوة سكانية ذات امتيازات خاصة باسم الفرس، وكانوا يعملون كعملاء للفرس، يتولّون إدارة التجارة وشبكات الاستخبارات في كل مدينة.

أما “الأرض الموعودة” (أرض الميعاد) فهي في حقيقتها تعني الوعد الذي قطعه الملك الفارسي كورش ومن بعده داريوس لهذه الجماعة بالسيادة في الميراث الآشوري. وقد واصل اليهود أداء مهمتهم كجماعة مستعمِرة باسم كورش، الذي أطلقوا عليه اسم “الرب”، حتى زمن الإسكندر الأكبر.

وإنّ الموسوية بهذا المعنى هي دين التوحيد الآشوري، ولا علاقة لها باليهود أو بجيل عزرا. بل إنّ التوراة والتلمود يسخران من أنبياء ورسُل الموسويين، ويكيلان لهم الافتراءات، ويرويان عنهم قصصاً مهينة.

فموسى لا يمتلك أي علاقة باليهودية أو باليهود. وكذلك يوسف ويعقوب وإسماعيل وزكريا وآباؤهم إبراهيم، لا علاقة لهم باليهودية. ففي الحقبة التي عاش فيها هؤلاء الرسل لم يكن هناك على وجه الأرض ما يُسمى شعباً يهودياً أصلاً. والجماعة التي سُمّيت يهوداً لم تُذكر في أي سجل تاريخي قبل 530 ق.م.

إنّ بعض الباحثين اليهود، في محاولاتهم لإثبات صحة التوراة، بحثوا طويلاً في النصوص المصرية، لكنهم لم يعثروا على أي ذكر لليهود. وتشير بعض المصادر إلى أنّ نصاً مصرياً يرجع إلى حوالي 1200 ق.م يذكر جماعة الـ أبيرو، ويصفهم بأنهم مخرّبون طُردوا من مصر. وقد ادّعى علماء يهود أنّ كلمة أبيرو تعني “خابيرو – هبرو – هِبرو – عبري”، وظنّوا أنّهم بذلك وجدوا دليلاً تاريخياً يربط اليهود بمصر وموسى. لكنّ هذه المحاولة بحد ذاتها تحمل ما يكفي من الشكوك، (بل وحتى لو كانت كلمة “أبيرو” تعني “عبري”، فإنّ اليهود ليسوا عبريين. وبرأينا، “حابورو/هابرو” تعني “خابرو” أي بلاد العراق القديمة: “أب–سو” = الفرات ودجلة، “أور” = المدينة، “خابور” = المدينة المائية – أي أن كلمة “حابرو/عبري” تعني “الأورّي” أو “الأوروكي”، أي العراقي القديم).

أما الجماعات الموسوية الأصلية فهي السامريون، الذين لا يزال هناك القليل جداً منهم باقٍ في المنطقة حتى اليوم. كما يمكن أن نعدّ من بينهم الأَسينيين الذين حافظوا على الإيمان الموسوي، وكذلك بعض الكلدان والنساطرة والسريان والآراميين جزئياً.

عندما دخل اليهود إلى المنطقة مع الغزو الفارسي، قاموا بقتل هذه الجماعات الموسوية الأصلية. ذلك أنّ هذه الجماعات كانت حليفةً للآشوريين والمصريين الذين كانوا خصوماً سياسيين للفرس. وتؤكد كثير من السجلات التاريخية – بل وحتى التوراة نفسها – كيف أنّ اليهود قتلوا الكنعانيين والأموريين واليبوسيين والسامريين وغيرهم، ولماذا كان ينبغي عليهم قتلهم. لأن اليهود لم يكونوا ليستقروا في المنطقة إلا بالقضاء على هؤلاء.

ومع مرور الزمن، وأمام الثقافة الموسوية القوية في المنطقة، تظاهر اليهود بتبنّي هذه الثقافة. ثم راح المرابون اليهود والحاخامات، إلى جانب تنظيماتهم التجارية، يضعون ترتيبات اجتماعية وسياسية، ويفرضون أساطير وعادات الموسويين قسراً على قبائلهم الخاصة.

وفي “سفر عزرا” من التوراة، يُروى أنّ عزرا وضع تحريماً على الزواج من الأجانب. وكان الهدف من ذلك منع اختلاط الجماعة اليهودية، وضمان الانضباط الداخلي، ليُنشئ مجتمعاً خاضعاً لالتزامات النخبة اليهودية في اتفاقياتها مع الفرس.

إنّ التوراة الموجودة اليوم ليست بالمعنى المعروف وهو “الكتاب الذي أوحاه الله”. فالقرآن يقول: آتينا موسى الكتاب، ولا يقول التوراة. إنّ الكتاب الذي أوحاه الله إلى موسى لم يكن كتاباً مثل القرآن الذي بين أيدي المسلمين، بل كان وصايا قديمة تُعرف بالوصايا العشر، لكنها في حقيقتها هي الأسس الأخلاقية الإنسانية التي تقرّ بها المسيحية والإسلام وحتى كثير من الأديان والمناهج الأخلاقية الأخرى باعتبارها قيماً إنسانية أصيلة تجعل الإنسان آدمياً. وهذه الوصايا هي: ألا يُعبد غير الله، وألا تُقتَل نفس بغير حق، وألا يُكذب، وألا تُرتكب الفواحش الجنسية (كالزنا، والدعارة، والمثلية، واللواط، والبيدوفيليا، وسفاح القربى)، وألا يقع سرقة أو فساد أو استغلال، وأن يُقام نظام قضائي عادل ويُلتزم به، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والميسر.

إنّ جوهر الإيمان الإبراهيمي قد أُوحِيَ أيضاً إلى موسى، وهذه الوصايا سُجّلت وحُفظت بشروح رجال الدين الموسويين. أما التوراة اليهودية فهي في الحقيقة كتاب اختلطت فيه تلك الشروح الموسوية مع أساطير وحكايات الفرس والبابليين والفلسطينيين، لكنه في جوهره مجموعة من القوانين التي تهدف إلى ضمان الانضباط الداخلي للجماعات اليهودية. وبعبارة أخرى: إنّ التوراة اليهودية ليست التوراة الحقيقية.

اليهود ليسوا إبراهيميّين، وإبراهيم ليس يهودياً. فإبراهيم أكّدي الأصل، وهو على الأرجح حمورابي نفسه. والفترة التي عاش فيها (حوالي 1300 – 1200 ق.م) هي فترة إعادة تأسيس الدولة الأكّدية – البابلية بعد سقوط السومريين. وكانت فترة فوضى، حيث كان يسود في المنطقة من إيران إلى الأناضول إلى مصر مزيج من عبادة الشمس والقمر ذي الأصول الهندية–المصرية. وهذه العبادة، التي تُوصَف بالوثنية، لم تكن سوى شكل من أشكال التعددية الدينية – السياسية، حيث يُمثَّل فيها كل زعيم قبيلة بإله مختلف رمزاً لعصبيته، في إطار نظام أوليغارشي متعدد الآلهة.

وكما في زمن النبي محمد ﷺ، كان زعماء القبائل المتحاربة يحاولون الحفاظ على عصبيتهم الداخلية من خلال أسماء آلهة مختلفة. فجاءت أكاد–بابل لتنهي تلك الحروب، ولتوحد القبائل والآلهة المختلفة في كيان واحد. وهذا التعدد الديني هو الذي أثار ثورة إبراهيم، حيث واجه اللاهوت الوثني الذي كان يمثل ائتلاف النخب الأوليغارشية، وطرح بدلاً منه عقيدة التوحيد التي مثّلت تحرر عامة الناس.

لقد انتشرت ثورة إبراهيم التوحيدية بالتوازي مع التوسع السياسي للأكديين، وامتدت إلى إيران وفلسطين ومصر. والمشهد يشبه إلى حد كبير تاريخ ولادة الإسلام وانتشاره. لقد أصبحت الثورة الإبراهيمية لفترة طويلة الثقافة السائدة في المنطقة، وأسهمت في خلق الحضارة. (قوانين حمورابي هي من ثمار هذه الثورة الإبراهيمية). فالتصور التوحيدي أدى إلى تحرر الإنسان، وإلى اجتماعيته، وإلى عيشه في سلام ونظام، وإلى ابتعاده عن الخرافات باستعمال عقله. وهذا ما يُسمى حضارة. وكما أن السومريين هم ثمرة نبيّي الله نوح وإدريس، فإن أكاد–بابل ومصر هي ثمرة إبراهيم والأنبياء والقادة الذين جاءوا بعده.

أما فترات الانحراف والعودة إلى الوثنية والفوضى، فهي عصور ساد فيها الظلم، واستُعبد فيها الإنسان، وتسلّط فيها الحكام الجائرون. إنّ تاريخ بلاد ما بين النهرين–البحر المتوسط هو في جوهره تاريخ صراع داخلي، يظهر بأشكال اقتصادية–سياسية مختلفة: بدوي مقابل مستقر، غازٍ مقابل محلي، حاكم مقابل محكوم، ظالم مقابل مظلوم، تاجر مقابل فلاح… وهذا الصراع عبّر عنه اللاهوت بلغة التوحيد مقابل الشرك. وقد استمرّت هذه الحروب الداخلية طوال التاريخ اللاحق.

إنّ اليهود لم يكونوا جزءاً من هذا التاريخ. فبعد أن أُدخلوا قسراً إلى المنطقة كعملاء للفرس، عادوا ولفّقوا لأنفسهم تاريخاً. ومن يقرأ التوراة من هذه الزاوية، سيلاحظ بوضوح مدى غربتهم عن المنطقة، وبعدهم الشديد عن عقيدة التوحيد والموسوية. فحتى الأسماء التي تَرِد في التوراة للإله – “إلوهيم” و”يهوه” – تكفي وحدها لإثبات ذلك. فـ”إلوهيم” تعني “الآلهة”، و”يهوه” تعني “يَحْيا”.

كلا الاسمين (إلوهيم ويهوه) لا يعبّران عن الإله الإبراهيمي الواحد. أمّا سبب استحواذهم على الأنبياء فكان للتغطية على غربتهم عن شعوب المنطقة. وبسبب عاداتهم التجارية–المرابية، استخدموا الكتابة لتدوين تلك الأساطير. إنّ سيطرتهم على المنطقة بالقوة، وطردهم وقتلهم لبقية الموسويين، وكتابَتهم المختلطة للنصوص المقدسة التي كانت بأيديهم وكأنها تاريخهم، هو ما جعل اليهودية تُعرف بعد مرور مئات السنين باسم الموسوية والإبراهيمية. بينما بقي أصحاب تلك العقائد الأصليين جماعات صغيرة تعيش في الجبال، تحت تهديد دائم بالمذابح.

لقد ظهر عيسى باعتباره موسوياً، رداً على تلك التحريفات اليهودية. وقبل عيسى، كان أتباع النبي الموسوي المعروف بيوحنا المعمدان قد قُتلوا أيضاً على أيدي اليهود. وكان يسوع الناصري–الإسيني استمراراً لتلك المواجهة، وقد لاقى هو الآخر عداءً من اليهود، لأنه فضح حقيقتهم وقال لهم: أنتم أولاد أبيكم إبليس، أنتم تعبدون المال، وتحوّلون بيت الله إلى سوق للمرابين.

اليهودية، هي فقط اليهودية. فهي لا تمتّ بصلة إلى الموسوية، ولا إلى الإبراهيمية، ولا إلى أهل الكتاب. أما الكتاب الذي قدّمه هؤلاء باعتباره التوراة، فهو من صنع الحاخامات بالكامل، ولا يحتوي على شيء من الرسالة الإبراهيمية سوى بقايا قليلة من العقيدة الموسوية. وكل ما كُتب في التوراة من معلومات تاريخية إمّا كذب أو اختلاق أو تحريف. إنّ أسس التوراة التي أوحاها الله مسجَّلة في أناشيد الموسويين الأصليين وفي القرآن الكريم.

2 – اليهودية هي قيمة الاستعمال والتبادل للمراباة!

ما هي اليهودية؟ قد يكون أول جواب هو: “الأسباب التي جعلتنا نطرح هذا السؤال.” فما هي هذه الأسباب؟ إنّها ببساطة وجود جماعة يهودية اليوم تتحالف مع القوة العظمى وهي الولايات المتحدة، وتدير جزءاً مهماً من رأس المال العالمي، وتعيد إنتاج نفسها باستمرار في صورة الضحية والجلاد في آن واحد.

إنّ اليهودية هي استمرار ذلك الدافع الأول الذي ولِدت منه: أي القدرة على الحصول على فرصة للوجود مقابل القيام بوظيفة الوكيل لدى إمبراطورية سياسية صاعدة (الفرس). اليهودية، باختصار، هي “قيمة الاستعمال والتبادل” التي يكرّس مجتمعٌ نفسه لها من أجل البقاء.

لقد عرفنا عبر التاريخ أن المجتمعات البشرية لكي تبقى، تتمسك إما برابطة الدم (العشيرة، القبيلة) أو بالأرض، لكنها لا تكتفي بذلك، بل تسعى للاستمرار عبر الاختلاط بالآخر، لتصبح جزءاً من الأسرة الإنسانية. فأيّ جماعة، حتى لو عاشت في أقصى الأصقاع، فإنها بطريقة أو بأخرى تدخل في علاقة مع جماعة أخرى تواجهها، فتتلاقح، وتتحول، وتتجدد. وهناك استثناءان فقط: الغجر واليهود.

فالغجر جماعة يُقال إنّ أصلها هندي، ولا تطمح إلى أكثر من أن تعيش على حالها، وغالباً ما تندمج – ولو في الهامش – مع المجتمع الذي تعيش فيه. فالغجري لا يزرع ولا يستقر ولا ينتج، ولا يحب الحِرف ولا العسكرية ولا السياسة. إنه يطلب فقط من المنتجين بقدر ما يكفي للعيش.

لكنّ ما يميّز اليهود عن الغجر المرتبطين بهم من خلال القرابة، هو أنهم – مع امتلاكهم لنفس الطابع الغجري – تعلّموا أن يلبّوا رغباتهم من خلال التوسّط في التبادل التجاري الذي يراقبونه من الخارج بين الجماعات البشرية، أي من خلال الوقوف في موقع يحقق أكبر ربح دون إنتاج. إنّ ابتعادهم عمداً عن أي جهد للاندماج بالمجتمع الذي يعيشون فيه، أو بالأسرة الإنسانية، أو التعلق بالأرض كموطن، وإصرارهم بدلاً من ذلك على الحفاظ بعناد على هذه العصبية الغريبة الخاصة بهم، قد تحوّل إلى لذّة نابعة من جعل سرّ الوساطة هذا طريقاً سحرياً للبقاء، أي تقنية للانتفاع من جهد الآخرين دون بذل عناء كبير.

وهذه الغربة يُعوَّض عنها بمفهوم “الشعب المختار”. لكنّ المشكلة في موضع آخر. فالدافع الأساسي الذي أوجد اليهودية – بما في ذلك الإيمان بالشعب المختار – هو قدرة نخب هذه الجماعة على الحفاظ بعناية على مراجعها الكاريزمية الدينية مثل التوراة (التوراة – التُرّة) والتلمود، واستخدامها كوسيلة لاستمرار العصبية القبلية المنغلقة داخلياً، وتأجير هذه العصبية في كل مرحلة من مراحل التاريخ للقوى الصاعدة باعتبارها “قيمة للاستعمال والتبادل”.

ففي القرن الرابع قبل الميلاد، حصل التجار اليهود – بفضل الفرس – على احتكار الربا في القدس وضواحيها التي كانت مركز الثروة في ذلك العصر. وقد أجّر اليهود هذا الدور وهذه المهمة عبر التاريخ لكل قوة صاعدة.

فينيقيا، صور، السامرة، القدس… هذه هي عقدة المواصلات بين البحر المتوسط، والنيل، والبحر الأحمر، والخليج الفارسي، والفرات/دجلة. أي إنّ الهند، وإيران، واليمن، ومصر، والأناضول، واليونان – أي مركز العالم القديم – كانت كل التجارة والتبادل والسفر والإنتاج العلمي والتكنولوجي والثقافي تتمّ في هذا المفترق وتُتداول فيه.

وكان الحاخامات اليهود ومعابدهم بمثابة البنوك بالمعنى الحديث، ولطالما نظرت اليهودية بعاطفة إلى سنواتها الذهبية في عصر الفرس، وجعلت من القدس وهيكل سليمان رمزاً لهذا الحنين. وفي تلك المرحلة، تعلّمت هذه الجماعات الطارئة التي حققت أرباحاً كبيرة من دون إنتاج، كيف تجني المال بطرق سهلة، فاخترعت هوية “اليهودية” لتجد لنفسها عصبية جامعة.

وبذلك، فإنّ اليهودية في بداياتها لم تكن عِرقاً، ولا إثنية، ولا حتى ديناً. بل هي عصبية ربوية (تجارية–مرابية) نشأت من خلال إدامة عصبية مشتركة. وهذه العصبية كانت ضرورية من أجل جعل طرق الكسب السهل تلك مستمرة ودائمة.

وإذا كان كثير من الأمم والجماعات الكبرى التي ظهرت في التاريخ قد زالت رغم أنها أنشأت حضارات كثيرة، فإنّ بقاء اليهودية حتى اليوم إنما يرجع إلى هذه الظاهرة: ظاهرة العصبية الدينية–الاجتماعية المؤسَّسة على الربا والمصالح. ومن هنا نصل إلى تعريف آخر لليهودية.

3 – اليهودية هي قومية الطبقة العليا اليهودية الدينية!

إنّ المعتقدات والعادات اليهودية ليست، على عكس ما يُظن، أنماط إيمان وعبادة دينية مثل غيرها من المجتمعات. فالدين اليهودي ليس إلا قواعد سلوك جماعي نفسي–اجتماعي. ومحتوى هذا الإيمان موجَّه أساساً إلى ضبط سلوك الجماعة وتوجيهها نحو أهداف راهنة.

فاليهودية في جوهرها تعني المتقدمين من اليهود، أي الحاخامات و”الهامان” (اليهود الأثرياء). فهؤلاء هم اليهود في الحقيقة. أما جماهير اليهود الفقراء، فهم خدمٌ وتوابع لهذه الطبقة اليهودية. وعلى مرّ التاريخ، كان قادة اليهود يتفاوضون مع أصحاب السلطة باسم جميع اليهود، ويحوّلون مكانة التمثيل التي حصلوا عليها – عبر إخضاع اليهود الفقراء – إلى نفوذ وثروة.

إنّ ما جعل اليهودية قيمةً للاستعمال والتبادل لم يكن الدين بل الدهاء الاقتصادي–السياسي. فالحاخامات والأثرياء اليهود الذين أجروا مهمّة التجارة والربا للفرس، أعادوا تأجيرها لاحقاً لروما، ثم للفاطميين، والسلاجقة، والأندلس، والعثمانيين، وألمانيا، وروسيا، وفرنسا، والآن لإنجلترا وأمريكا.

وإنّ المعتقدات اليهودية – مثل فكرة “الشعب المختار” والشعور بالتفوّق – هي في حقيقتها داخلية أكثر منها خارجية؛ فهي موجّهة إلى ضبط الجماعات اليهودية وأفرادها. حيث يروي الصحفي الإسرائيلي المعارض “إسرائيل شاحاك” في كتابه “التاريخ اليهوديوالدين اليهودي (أنكا للنشر، 2002)” أمثلة منذ عهد عزرا حتى العصر الحديث عن كيف كان قادة اليهود مطيعين للسلطة، لكنهم متجبّرين على أتباعهم. ويُرجع اختيار الملوك والأمراء للأطباء والمستشارين اليهود إلى قدرة هؤلاء على الولاء المفرط للسلطة. كما يربط منح هؤلاء القادة اليهود حق سحق الفقراء اليهود وفرض الضرائب عليهم ومعاقبتهم، بقدرتهم على القيام بدور “الوكلاء” للحكام.

وفي هذا السياق، ينبغي تناول المعتقدات اليهودية لا باعتبارها ديناً، بل لفهم دورها في هذه المهمّة التاريخية. (وليس هذا المكان مناسباً لبحثها تفصيلاً. فالمهتمون يمكنهم الرجوع إلى كتاب “موسى واليهودية” لهيرولّاه أورس – وهو أستاذ ماسوني من أصل يهودي – حيث يوضح فيه فترات تدوين التوراة وتأثير كل عصر والمصادر التي استُخدمت).

ولنأخذ مثالاً واحداً: إنّ إله التوراة “يهوه” – الذي يُفسَّر في بعض السجلات التاريخية بأنه اسم جنّ بركاني في جنوب فلسطين (ونحن نرى أنه تعبير فارسي الأصل: “يا هوه” أي يحيى أي الإله العظيم أي هُو) – هو مصدر الخير والشر معاً. أي أنّ الثنوية الزرادشتية اجتمعت في يهوه. مثل الإله اليوناني “يانوس” الذي ظهر تحت التأثير الفارسي، فإنّ يهوه هو إله الخير والشر في آن واحد. وهو يشبه البشر، يصارع الإنسان، ويفعل الشر والظلم مثل الشيطان.

إنّ اليهود ينسبون المصائب التي تحلّ بهم إلى يهوه نفسه. ففي زمن مذابح النازية، كان اليهود في معسكرات الاعتقال يعتقدون أنّ يهوه يعاقبهم، لكنه سيتراجع يوماً ما وينقذهم. هذا التوتر الداخلي كان موضوعاً لكثير من النقاشات الفلسفية، خاصة في مسألة الثيوديسيا (علاقة الإله بالشر): بين من يؤمن بأن الخير والشر من عند الله، وبين من يعتقد أن الخير من الله، بينما الشر من قوة مضادة – الشيطان – لا يقدر الله على قهرها.

إنّ يهوه اليهود هو إله خاص باليهود، إله يتشاجرون معه ويخاصمونه ويغضبون منه وينكرونه حين ينزل بهم البلاء. وعداء الفلاسفة اليهود الملحدين لله ليس إلا انعكاساً لهذه العلاقة المشوّهة مع لاهوت يهوه. إنّ علاقة اليهودي بإلهه قائمة على المنفعة، تماماً كعلاقته بغير اليهود (الجوييم).

وإنّ قادة اليهود هم الذين يحدّدون تعريف اليهودية ومداها. أي أنّ “اليهود” هم في الحقيقة النخبة اليهودية. أما بقية الطبقات الدنيا والفقراء من اليهود، فلا شأن لهم إلا تحمّل نتائج الطاعة لهذه القيادة. فلا السياسة اليهودية ولا القوة والنفوذ المنسوبان لليهود يشترك فيهما هؤلاء الفقراء. ولهذا، فعندما نتحدث عن اليهودية واليهود، فإن المقصود هو القادة، لا الجماهير.

أمّا اليهود العاديون فهم شركاء في الجرائم التي تُرتكب باسم اليهودية، لكنهم ليسوا شركاء في المكاسب المادية والمعنوية التي تُجنى بفضلها. هؤلاء اليهود الفقراء أشبه بالدلِت (المنبوذين) في النظام الطبقي الهندي: يحافظون على أصلهم، لكنهم اعتادوا الطاعة العمياء لزعمائهم.

في هذا المعنى يمكن أن نقول: إنّ “اليهودية” هي منظمة شراكة إجرامية لطبقات عليا يهودية – كالبراهمة والكشاتريا والفايشيا في النظام الهندي – حيث صنعت لنفسها طبقة عليا خاصة، وبهذا المعنى طوّرت اليهودية نفسها في صورة قومية دينية.

وغالباً ما يُلقي يهوه المصائب على اليهود كعقاب لذنوب الطبقة الدنيا. أما الطبقة العليا فتلقي بجرائمها دائماً على الطبقة الدنيا، ثم تدفع بجماهير اليهود إلى الخدمة في دور الوكلاء لنظام جديد. ودولة إسرائيل نفسها هي مثال حديث على ذلك، حيث فُرض على اليهود الفقراء المتدينين أن يظلموا الفلسطينيين ويقتلوهم ويموتوا من أجل هذه الحرب القذرة.

أما الجيش الإسرائيلي، فهو في معظمه مؤلَّف من عناصر غير يهود أصلاً جُمِعوا من هنا وهناك تحت دعوى كاذبة بأن لهم أصولاً يهودية، أو من فقراء اليهود الروس وشرق أوروبا. أما اليهود الحقيقيون – أي النخب المرابية–التجارية الغنية في أمريكا وإنجلترا وروسيا وسائر البلدان – فلم يُرَ منهم قط أنهم خاضوا حرباً أو خاطروا بحياتهم أو ماتوا من أجل قضية. إنهم فقط يمولون الحروب.

4 – اليهودية دِينوية (دَينسِيَّة)!

الدين هو التعبير عن الحقيقة بلغة ميتافيزيقية. “لكل حدث سبب”، “لكل موجود مُوجد”، “لوجود الحياة والعالم والكون غاية”. الدين باختصار هو إدراك هذه “المعاني” وما شابهها. حيث تُدرَك الحقيقة الملموسة في ضوء هذه المعاني، ويبلغ الإنسان وعي وجوده. الدين لا يتحدث بلغة الحقيقة الملموسة، بل بلغة ميتافيزيقية موازية لها. فما تسميه الحقيقة الملموسة “طبيعة، مادة، حركة”، يسميه الدين “إلهاً، ملَكاً”. الله هو جوهر الطبيعة والمادة والحركة، وهو سببها وموجدها. والإنسان بهذا الإدراك للإله – أي بجهده لرؤية ما وراء الحقيقة – ارتقى من البشرية إلى الإنسانية. والتفكّر يجعل الإنسان إنساناً. والإنسانية تعني الخروج من الحيوانية، أي أن لا يقتل، ولا يسرق، وأن يكون اجتماعياً ومتمدناً. ولا يصبح الإنسان إنساناً إلا بوعي الله. والإنسانية هي نيل حق الحياة الأبدية.

إنّ مصدر اللاهوت اليهودي هو “الأفلاطونية المحدثة”. فقد طوّع أفلاطون الميتافيزيقا الهندية–الإيرانية لتطبيق عملي يوناني في زمن الغزو الفارسي، وبتقليده كهنة بابل وضع فكرة النظام المثالي المطلق لمدينة إسبرطة. اليهودية الكلاسيكية القائمة على التلمود تشكّلت تحت التأثير الأفلاطوني المحدث الذي تطوّر في زمن المكابيين (140 ق.م). وأهم ما يميز النظام السياسي الأفلاطوني هو أن “كل مرحلة من سلوك الإنسان يجب أن تخضع لعقوبات يُديرها حاكم بمهارة”. وفي اليهودية يكون “الحاكم” هنا هو “الحاخام”. (والحاخام في العصر الحديث أصبح صاحب المناصب والثروات التي تُشترى بالمال).

اليهودية إذن هي إخضاع كل تفصيل من تفاصيل سلوك الإنسان لتصميم وضبط وعقاب الحاخامات – أي رجال الدين والقوانين الدينية. وهذا ما نسمّيه “الدِينوية”.

أما فكرة المثل الأفلاطونية فمصدرها لاهوت “النور” الذي كان أيضاً لاهوت الصابئة البابليين، والذي امتد تأثيره من الهند–إيران إلى مصر ومنها إلى اليونان. فالله عندهم هو النور المطلق، وهو الأعلى. تحته الروح، وفي الأسفل المادة. وكلما ابتعد النور عن المصدر ضعف وخبا. والأسفل – أي المادة – هو الظلام، والشر. والإنسان لا بد أن يبتعد عن المادة، أي عن الجسد والعالم، ويصعد في حالة وجدٍ إلى النور، ليتّحد به ويصير مطابقاً للإله. وفي هذه اللاهوتية يكون الدين هو الطريق الذي يحمي الإنسان من المادة ويوصله إلى النور. وأفلاطون، في نظامه المثالي، صمّم دولة تسيطر على كل تفاصيل حياة الإنسان، لتقصي الأدنى، أي العبيد – الذين لا يُعدّون بشراً بالمعنى الملموس – باعتبارهم يمثلون الشر، وتبني “بلاد النور”.

هذا اللاهوت، حين امتزج بالأطروحات الهرمسية ذات الأصل المصري، أصبح أساساً للكبالا في اليهودية، وللباطنية في الإسلام، وللصوفية في المسيحية. وجوهر كل هذه الطرائق الباطنية المنحرفة هو فكرة الوصول إلى الله والاتحاد به والتألّه، لكنها في حقيقتها ليست إلا إعادة صياغة لصراع الآلهة النورانيين والظلاميين في الأساطير الوثنية (ميترا، مردوخ وأعوانهما). و”السرّ” الذي تتحدث عنه هذه الطرق ليس إلا ارتباطها بهذه العقائد الوثنية القديمة المضمَرة. فكل هذه الحركات الدينية لم تفعل سوى أن أعادت تفسير نظام الطبقات الاقتصادي–السياسي على أنه هرمية روحية–ميتافيزيقية.

إنّ فكرة تنظيم كل تفاصيل سلوك الإنسان تنبع من الاعتقاد بأن الإنسان بذاته شرّ، وأن جسده وحياته المادية تولّد الشر، ولهذا فلا بد من مرشد يكبح شرّه. هذه اللاهوتية لا تثق بالإنسان، وتضعه في مواجهة الله. ولا يُقترب من الله إلا بالتخلص من صفات الإنسان وتقليد الله. وهذا الإيمان يستحضر الرمز القرآني لاعتراض إبليس على الإنسان: فقد اعترض إبليس باسم الله على الإنسان، واحتقره، وطلب من الله مهلة ليثبت أنّ الإنسان مخلوق منحط ووضيع. إنّ كل التفسيرات المشوّهة لصراع النور–الظلام في العقائد النيو–وثنية، وكل لاهوتات الخلاص التي تتذرع بتأليه الإنسان لرفعه، إنما ينتقدها القرآن عبر رمز إبليس المتكبّر المطرود.

لقد مزجت اليهودية بين هذه اللاهوتية وبين الاعتقاد بأنها أبناء الله الخاصّون المختارون، فجعلت اليهود مخلوقات إلهية، ورأت في الآخرين مجرد مصدر للشرور – من يسمَّون “الجوييم/البرابرة/البشر العاديين”. وهو في جوهره سلوك غريزي للتطبيق على غيرهم من البشر نفس المعاملة التي تعرّضوا لها في شبه القارة الهندية على مدى مئات السنين، وكأنهم يأخذون بثأرهم من الإنسانية.

كل أشكال العنصرية والتمييز والقومية والادعاء بالتفوق تستمد جذورها بدرجة ما من هذا الإطار اللاهوتي. وإنّ الدينوية – أي تحديد الإنسان من كل ناحية، ومحاصرته في فقاعة خاصة، وإجباره على الخضوع لقوانين يُفترض أنها إلهية – إنما تقوم في جوهرها على هذا اللاهوت.

وقد بلغت هذه اللاهوتية ذروتها في نظام الطبقات الهندية وأساطير الهندوس. فالطبقات العليا هي الأقرب للإله براهما–فارونا–ميترا (النور المقدس/النار). وكلما هبطت الطبقات ضعف النور الإلهي، وفي أدنى المستويات – أي عامة الناس – يكون قد انطفأ تماماً. أما الدورة الزمنية في العقيدة الهندوسية فتتوافق مع ذلك: في البداية هناك نظام البراهمة المطلق والخير، ثم العصر البطولي، ثم زمن التجار والمزارعين، وأخيراً زمن القيامة، زمن الداليت (العامة، الرعاع). وهذا العصر الأخير هو زمن الفوضى والشر، ثم يبدأ من جديد عهد الطبقة العليا الأسمى.

لنفتح قوساً هنا: (إنّ النظريات التي طُرحت في مطلع القرن الحادي والعشرين عن “النظام العالمي الجديد” القائم على “مليار إنسان ذهبي”، و”الملَكية العالمية”، و”الدولة العالمية الشاملة”، أي محاولة فرض سيطرة مطلقة على البشرية كلها، وتعميق زمن الفوضى – كلها ينبغي فهمها في ضوء هذه المعتقدات الهرطوقية. إنّ نزعة اليهودية لـ”السيطرة على العالم” يمكن قراءتها كنتيجة طبيعية لهذا الإطار اللاهوتي المرتبط به. فالنهاية في رؤيتهم للعالم هي إنهاء زمن الرعاع – أو “قمامة البشر” – أي زمن الفوضى الراهن، وبدء زمنهم هم، باعتبارهم الصفوة المختارة، عبر تأسيس إمبراطورية عالمية مطلقة للنخبة. ولهذا فإن زيادة عدد السكان، ومشاركة الناس في الحكم، وتحرير العمليات الاقتصادية–السياسية، ووجود ثقافات تؤمن بالعدالة والقانون، كلها أهداف ينبغي تدميرها أو تحييدها. ومن أجل هذا يشنّون عمليات معقدة لتخدير غالبية البشر في ملذات الشهوة والمقامرة والاستهلاك واللهو. غير أن خطابهم العلني يعكس عكس ذلك: ديمقراطية، حقوق إنسان، سوق حر… بينما هؤلاء النخب الشيطانية يؤمنون مع “مامون” بما يسمونه “الأرستقراطية العالمية”، أي عصبية النخبة ونظام الاحتكار).

إنّ تحويل الإنسان إلى ضحية مستسلمة لقوانين زُعِم أنها إلهية، مفروضة مسبقاً لا تُسائل ولا تُغيَّر ولا يُعترض عليها، هو عين اليهودية. وهذا النمط الديني المتشدد قد تسرّب إلى المسلمين والمسيحيين أيضاً. فقد كانت هناك أزمنة حُرِّف فيها الإسلام – الذي جاء أصلاً لإنقاذ الناس من ظلم الأديان – على يد تلك الطرائق اللاهوتية المنحرفة والباطنية، ومن خلال طبقة دينية يهودية–تلمودية الطابع. وحتى في عصرنا، تظهر دلائل هذا الانحراف: جماعات وحركات تضيف اسم الدين والإسلام والله والقرآن والنبي إلى كل شيء، ثم تحاول إجبار الناس على شكل معيّن من الحياة.

إنّ الجانب الديني في اليهودية هو هذا بالتحديد. إنّ الشريعة اليهودية – أي اليهودية الأرثوذكسية–الحاخامية الكلاسيكية – هي الشكل الأكثر تنظيماً لإجبار الناس على قواعد تفصيلية دقيقة. وجذر هذا الشكل المفرط من التدين هو سعي النخب اليهودية إلى ضبط اليهود والتحكم فيهم. وقد انتقد القرآن الكريم هذا بقوله: “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله” (التوبة: 31).

وعندما قرأ النبي ﷺ هذه الآية، سأله الصحابة: كيف يتخذ الناس الحاخامات والرهبان أرباباً؟ فأجاب: “أليسوا إذا قالوا حلالاً حللتموه، وإذا قالوا حراماً حرمتموه؟ فذلك هو اتخاذهم أرباباً.”

إنّ اتخاذ رجال الدين أو الحكام أرباباً هو أمر يرفضه الإسلام من جذوره. إنّ الحكم على الإنسان بأن يعيش في وضع لا يعقل فيه، ثم إلقاؤه في حفرة الحياة بحيث لا يُسمح له حتى بأبسط الحقائق إلا بعد أن تقرّها “السلطات الدينية” المزعومة، لا يكون ممكناً إلا عبر اتخاذ الحاخامات والقساوسة والشيوخ والأساتذة والزعماء أولياء وربابنة. وهكذا تُقام ورشات الاستغلال الديني. وفي النسخة العلمانية من هذه الورشات الدينية نجد المدراء التنفيذيين، والوسطاء الماليين (بروكر)، والقادة الكاريزماتيين، والرؤساء العظام، والـ”ستارز”، والمذيعين النجوم… جميعهم يمثلون أشكالاً مختلفة من استعباد الإنسان للإنسان، كما يصفها القرآن الكريم. أما الذين يرفضونهم جميعاً دون تفريق، فهم الذين يصيرون بشراً أحراراً، ويصبحون مسلمين. فالإسلام جاء للقضاء على “الدينوية” (الدين المتعصب المؤدلج).

لكن عبر التاريخ ظهرت تحت اسم الإسلام أشكال كثيرة من هذه الدينوية. فبدلاً من السعي إلى تنقية الإنسان من حيوانيته وتحويله إلى “إنسان” – أي إلى “آدم” – انحرف الأمر إلى جهد لجعل الإنسان عبداً أقرب إلى الإله (أي “أفضل عبد”)، وهو في جوهره شكل من أشكال الاستعباد. وهكذا تسرّبت هذه العدوى إلى الإسلام أيضاً.

وعلى الطرف الآخر، هناك التيارات الهرطوقية المنحرفة التي تدّعي تأليه الإنسان. وهذه الدعوى هي الهدف اللاهوتي للتنظيمات الماسونية، وهي الشكل المؤسسي للدينوية العلمانية المتغذّية بدورها من هرطقات مصرية ذات أصول هندية. وهذه التشكيلات ذات نزعة علمية–وضعية حديثة، هدفها اللاهوتي هو محاولة تأليه الإنسان عبر حلّ أسرار الطبيعة والإنسان بالعلم. أمّا الطوائف الباطنية المسيحية أو الإسلامية، فهدفها المعلن هو إيصال الإنسان إلى “النور الإلهي” والتماهي مع الله. فالتنظيمات العلمية العلمانية تزعم أنها تعرف الأسرار المادية للطبيعة، بينما التنظيمات الدينية تزعم أنها تعرف الأسرار الروحية لله. وكلاهما يخدع البشر.

أما إغراق اليهود وحدهم – أي البشر “المختارين المتفوقين”– في النور الإلهي، وبالتالي تحقيق الهيمنة الكونية والسيطرة على بقية البشر “العاديين” باعتبارهم مصدر الشرور، فهذا هو اليهودية. وإذا وضعت بدلاً من كلمة “يهودي” أي مسمى آخر – آري، أنجلوساكسوني، عربي، فارسي، تركي، كردي، بلغاري، صربي، روسي، صيني، ياباني… – فإن ذلك يسمى اليوم قومية. أي سعي جماعة متفوقة، خاصة، متميزة، للانعزال عن الآخرين بعناية. فكل قومية هي في جوهرها ليست إلا التعبير العلماني عن تلك اليهودية الدينية. وليس من قبيل المصادفة أنّ كثيراً من أبرز منظّري القوميات الحديثة كانوا من اليهود. فاليهودية، من حيث ارتباطها بنخب المجتمعات التي تعيش فيها، ومن حيث رؤيتها الثنائية “أنا والآخر”، تُعبّر عن هذا الطابع الخاص.

الدينوية، في جوهرها، هي جهد لاستعباد البشر باسم الله – أو باسم “المقدس” الذي يُوضَع مكانه في الخطاب العلماني: العقل، العلم، الدولة، إلخ. واليهودية، في شكلها الديني، هي المثال المثالي لهذا النمط من الدينوية. ومن النظر إلى اليهودية واليهود الدينيين، يمكن استخلاص ما لا ينبغي فعله دينياً، وكيف لا ينبغي أن يكون التدين، وكيف لا ينبغي أن يُعاش باسم الدين. ولا بدّ من التذكير أنّ أشكال الدينوية العلمانية (كالقومية والوضعية) ليست إلا تقليداً لهذا الإيمان اليهودي.

اليهودية هي جعل الله ودين الله شرطاً لوجودها. فالله والأنبياء والتوراة موجودون من أجل اليهود. الله يحب اليهود وحدهم، ويفكر فيهم وحدهم، ويخطط لكل شيء من أجلهم وحدهم، ويتدخل في الأحداث لأجلهم وحدهم. وإذا قُتل اليهود أو سُيّروا إلى المنفى، فذلك لأن الله غضب عليهم. أي أنّ كل شيء يدور بين اليهود وإلههم. أما بقية البشر فلا وجود لهم أصلاً. حتى المصائب التي تصيب اليهود هي نتيجة أخطائهم هم. (وهذا هو التصور الأناني–النرجسي للعالم: ففي الحرب العالمية الثانية مات خمسون مليون “إنسان”، لكن العالم كله نُسي، وبقيت “أسطورة” مقتل ستة ملايين يهودي تُلقَّن للناس منذ خمسين عاماً. فوحدهم هم من تُعتبر حياتهم حياة!).

5 – اليهودية هي عبادة “مامون” – المال!

مامون هو إله الشر في العصور القديمة. وقد ارتبط بالذهب، وهو في الحقيقة اسم آخر للشيطان. ومقابله التام اليوم هو “المال”.

ومن الصحيح أنّ اليهودية ارتبطت في الأذهان بالمال، والتجارة، والربا. ويرجع ذلك إلى أنهم، عبر التاريخ، وبسبب خوفهم الدائم من الطرد من البيئات التي عاشوا فيها، تجنّبوا الاستثمار في العقارات واشتغلوا بالتجارة المنقولة، فصاروا خبراء فيها. ومع وجود استثناءات جزئية، يمكن القول إنّ قادة الجماعات اليهودية تميزوا دائماً بالتخصص في أساليب الربح من دون إنتاج.

وقد وصف ماركس علاقة اليهودية بالمال بأفضل صورة فقال: “إله اليهودية ليس المال، بل حبّ المال.”

وهذا التوصيف يُدخل تصحيحاً مهماً على الحكم الأكثر شيوعاً حول اليهود، وهو “الجشع”. فالمسألة ليست في المال بحد ذاته، بل في حبّ المال! أي إنّ شهوة الكسب والتكديس والاحتفاظ هي أهم من المال نفسه.

إنّ الهوس بالكسب، والنجاح، والتفوّق، والتغلّب على الآخرين، وتكديس الثروة، وزيادتها، والذي يجتاح اليوم الإنسانية جمعاء، هو في جوهره سمة يهودية.

فاليهودية من حيث العقيدة والعبادة هي دين قبلي مغلق وخاص، لكنها من حيث السمات الاجتماعية والفردية هي الدين الأكثر انتشاراً في العالم والأسرع توسعاً.

إنّ “يهوه” في اليهودية – والذي يمكن أن يفعل الشر أيضاً – يُطلَق على جانبه الشرير اسم “مامون”. وكل من يعبد مامون – أي يجعل المال، والذهب، وشهوة التكديس والكسب أهم من كل شيء – فهو يهودي.

اليهودية الصافية – اليهودية الهجينة

إنّ هذه الخصائص الأربع لليهودية، أيّاً كان من يحملها، وأيّاً كان الفرد أو الجماعة التي تتركّز فيها، فهو يهودي. وبناءً على ذلك يمكن تقسيم اليهودية إلى قسمين: اليهودية الصافية واليهودية الهجينة.

اليهودية الصافية هي اسم يُطلق على الشخص أو الجماعة التي تعترف بالانتماء إلى ما يُسمّى “الشعب اليهودي”، وتتبنّى وتشارك وتدافع عن الخصائص الدينية والسياسية والاجتماعية والفردية لهذه الجماعة. وهذه يهودية تنتقل بالعرق، ولا يمكن الانضمام إليها من الخارج، فهي قومية دينية عرقية مغلقة.

أما اليهودية الهجينة فهي اسم يُطلق على الأفراد والجماعات الذين ليسوا يهوداً من حيث الأصل العرقي، لكنهم يحملون الخصائص اليهودية المميزة، ويعيشون كأنهم تقليد لليهود، حتى لو بدوا أعداءً لليهودية الصافية. واليهود الهجناء أكثر عدداً من اليهود الأصليين.

فاليهودية الهجينة هي تقليد ثانوي لليهود الذين قلدوا بدورهم الطبقات العليا الهندية، أي الآريين. وهذا “النسل الشيطاني” حاول أن ينقل قوته وخدماته إلى اليهود، ويضعهم في الواجهة كنموذج، ليخلق قطعاناً بشرية تخدمه بطريقة غير مباشرة. (وفي العصور الرأسمالية الحديثة، يمكن اعتبار الحرب التي أعلنها كارل ماركس – سواء بوعي أو بغريزة – على هؤلاء الفاشيين الآريين الذين رمز لهم بالبرجوازية، وتحذيره الطبقات الدنيا وكشفه هذا النظام الشيطاني، محاولةً تاريخية باسم الإنسانية).

إنّ اختزال اليهودية في جماعة صغيرة واعتبارها كبش فداء هو في ذاته نظرة يهودية. أي أنّ فصل اليهود عن بقية الإنسانية – حتى لو في معنى سلبي – هو تعامل يهودي، لأنه ينظر إليهم كجماعة خاصة ومنفصلة. ولهذا، فإنّ الصهيونية – انسجاماً مع هذا الفهم اليهودي – أيّدت أن ينفصل اليهود ويكون لهم دولة، بل دعمت أيضاً قوميات أخرى في بلدان عديدة. ففصل اليهود عن الآخرين، وحصر اليهودية في عِرق أو قوم بعينه، هو في ذاته صفة يهودية.

غير أنّ الخصائص الأساسية لليهودية التي ذكرناها قد ظهرت عبر التاريخ في كل مكان وبين كل الأديان، بل انتشرت بين أتباع ثقافات وجماعات أخرى. لأنها في حقيقتها خصائص إنسانية عامة. وخصوصية اليهودية تكمن في أنهم حملوا هذه الصفات عبر التاريخ بإصرار وعن عمد داخل هوية دينية خاصة، وحافظوا عليها بالعصبية، فصاروا بذلك يعكسون للبشرية هذه الصورة. ولهذا ينبغي البحث عن اليهودية أيضاً خارج “الشعب اليهودي”، والنظر إلى الجهد المبذول للتحرر من اليهودية كجزء من جهد “التحول إلى إنسان”.

واليوم، بفضل النظام الاقتصادي–السياسي الذي يُسمّى الرأسمالية – وهو في جوهره طابع يهودي – أصبحت اليهودية أوسع الأديان انتشاراً وأكثرها عالمية. بل إنّ اليهودية الهجينة (اليهودية المقلِّدة) تجاوزت في بعض الحالات اليهودية الصافية. ويمكن تحليل النخبة البرجوازية الأنجلوساكسونية – أي طبقة النبلاء الآريين – باعتبارها أبرز مثال على اليهودية الهجينة.

وإذا تخلّينا عن النظرة القومية المبنية على العِرق والثقافة، ونظرنا إلى الأمر على مستوى الإنسانية والخصائص المشتركة، فسندرك أنه حتى العداء لليهودية هو شكل من أشكال العنصرية اليهودية. ولهذا لا يكون العداء لليهودية ذا معنى إلا على أساس الخصائص العالمية التي تمثلها وتعكسها، لا على أساس الأصل العرقي أو الديني.

والإنسان لا يملك خياراً في أي مكان وأي ثقافة يولد. لكنّه يمتلك الخيار في التحرر، و اليهوديّ الصافي يمتلك نفس إمكانية وفرصة التحرر من اليهودية مثل أي إنسان آخر. وهناك أمثلة عديدة لأشخاص ساروا في هذا الطريق، فتخلّصوا من اليهودية وسلكوا طريق “التحول إلى إنسان”.

لهذا، فالمهم ليس الانتماء إلى اليهودية كأصل عرقي، بل اليهودية كأسلوب حياة وسلوك.

باختصار: إنّ الخصائص التي عددناها – والمتمثلة في قيام قادة الجماعة اليهودية ببيع مهاراتهم للقوى المسيطرة كقيمة للاستعمال، وفي القومية الدينية (الصهيونية)، وفي الدوغمائية الدينية، وفي عبادة “مامون” أي المال – هي ما نعنيه باليهودية، وهي مشكلتنا.

أما الجماعات اليهودية العادية والمسالمة، فإذا لم تشارك في هذه “اليهودية” المقصودة، فلا يجوز اتهامها أو رجمها أو إخضاعها للأذى أو الإقصاء أو التمييز. فذلك، كما هو الحال مع أي جماعة بشرية أخرى، جريمة وعار. واليهود في هذا لا يملكون حقاً خاصاً، بل إنّ مجرد ذكرهم على نحو استثنائي، بشرط التزامهم بما سبق، هو نوع من التمييز. إنّ “معاداة السامية” في المجتمعات الغربية ليست إلا شكلاً آخر من اليهودية بالمقلوب، وهي جريمة ضد الإنسانية.

(فالمجزرة التي ينفذونها في فلسطين جريمة، واليهودية هي دافعها. في المقابل نجد مثلاً: المجازر التي ارتكبتها أوروبا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وروسيا في آسيا الوسطى والقوقاز، وإيران في العراق وسوريا وأفغانستان، والسعودية في اليمن، لا تختلف عن الجرائم التي يرتكبها اليهود. أي أنّ مصدر هذه الجرائم ضد الإنسانية لا يجعل عِرق أو دين أو مذهب المجرمين كلهم مسؤولين عنها. فالمجرمون يُدانون لأنهم مجرمون، لا لأصولهم العرقية أو الدينية. وهذا هو المقياس الأخلاقي الذي يحدد إطار مواجهة الظلم. والقرآن يذكّر المؤمنين بقوله: “لا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا”.)

إنّ سنّ قوانين خاصة تجاه اليهودية هو بدوره شكل آخر من أشكال اليهودية. والحل يكمن في جعل “اليهودية العادية” عادية بالفعل، عبر إذابتها في الإطار العام للحقوق والقوانين والخطاب الذي يشمل كل الجماعات الأخرى، وإنهاء أي لغة أو أسلوب أو سلوك يميز اليهودية عن الإنسانية – إيجاباً أو سلباً. فهذا هو الحل التاريخي الدائم للمسألة اليهودية. فكما أن آلاف الشعوب قد زالت أو تغيّرت أو تحوّلت أو امتزجت عبر الزمن لتظهر شعوب جديدة – مثل الآشوريين، والحثيين، والرومان، والفريجيين، والحوريين، والليديين وغيرهم – فإنّ اليهودية أيضاً يجب أن تخضع لهذه التصفية الإنسانية الطبيعية.

ولهذا يجب فهم اليهودية على أنها مجموعة من السلوكيات والخصائص المميزة، منفصلة عن اليهود العاديين. فكما أن هناك من هو يهودي عرقاً وليس يهودياً في هذا المعنى، كذلك هناك من ليس يهودياً بالعرق لكنه يهودي في كل شيء. مشكلتنا – أو بالأحرى المفهوم الذي ندرسه هنا – ليس “الإنسان اليهودي العادي”، بل تلك الخصائص التي تجعل من اليهودية “يهودية”. ومن لا يميز هذا التفريق يسقط في الفهم الغربي العنصري والتمييز العرقي–الديني، فيحوّل القضية إلى قومية أو دينية مبتذلة.

ولهذا السبب، كلما ارتكبت “إسرائيل” مجازر، ظهر رد فعل على شاكلة: “يجب شنق كل اليهود وذبحهم”. وهذه المقاربة – مهما كانت دوافعها محقة – تُخطئ جوهر المسألة، لأنها تفهم اليهودية بعقل يهودي، أي بعين عنصرية.

وبرأينا، الحل هو تطوير أخلاق إنسانية تُطهّر كل اليهود من اليهودية. والأهم هو تتبع “اليهودية غير اليهودية”، أي اليهودية الهجينة، وكشفها وتعريتها.

وفي زمنٍ تستغلّ فيه العقول العنصرية والفاشية مسألة الأنساب لخدمة مشاريع أخرى – أي البنية التحتية للفاشية الآرية، وهي العدو الحقيقي للإنسانية – يصبح لزاماً التدقيق في هذه الفوارق وتحليل اليهودية في سياق “لاهوتي–سياسي” أكثر اتساقاً. وبهذا يمكن فهم اليهودية فهماً صحيحاً من دون تهويل، وقراءتها كإشارة تكشف القوى الحقيقية الكامنة وراءها.

وللأمثال حكمتها: “إذا أردت أن تعرف اليهودي، فاتبع المال!”. ونحن نقول: إذا أردت أن تعرف الطغاة، واللصوص، والظالمين، والفراعنة الحقيقيين، وتريد أن تعرف ما يخططون له، فاتبع اليهودي – سواء أكان أصلياً أم هجينا – فستجده دائماً تحت ذيل ذلك “الشيطان الأكبر” يؤدّي المهمة الموكلة إليه.

لأنّ القوة ليست عند اليهود، بل عند من يستخدمهم. فلقد استُعمل اليهود وأُهينوا آلاف السنين كمنبوذي الطبقات العليا الآرية الهندية. وفي القرن العشرين، حين أهانوهم وقتلوهم، ها هم اليوم يجمعونهم في ثكنة تُسمّى “إسرائيل” ليطلقوهم على المسلمين، ويستخدموهم ستاراً يغطّي نسل الشيطان الحقيقي الكامن وراءهم. واليهود معتادون على هذا، لكن المؤمنين – وهم يقاتلون القتلة اليهود – يجب أن يزيلوا هذا الستار الشيطاني، ولا ينسوا أبداً أن يقاتلوا أيضاً أولئك العابدين لمامون وخدم الشيطان الذين يختبئون بينهم، أي “اليهودية الهجينة”.

المصدر: Teolojinin Jeopolitiği-Allah, vatan, Özgürlük, Yarın yay. 2005

Ahmet Özcan

أحمد أوزجان:
اسمه الحقيقي هو سيف الدين موت. خريج كلية الإعلام بجامعة إسطنبول (1984-1993)؛ عمل في مجال النشر والتحرير والإنتاج والكتابة. مؤسس دار نشر يارن (Yarın) وموقع (haber10.com) الإخباري. أحمد أوزجان هو الاسم المستعار للكاتب.
المجلات التي شارك فيها:
إيمزا (1988)، يرْيُوزُو (1989-1992)، ديغيشيم (1992-1999)، هَافْتَايَا بَاكِيش (1993-1999)، أولْكِه (1999-2001)، تركيا ودنياده يَارِن (2002-2006).
كتبه الصادرة: من أجل جمهورية جديدة / الدولة العميقة وتقاليد المعارضة / سيمفونية الصمت / شب يلدا / التفكير من جديد / الجغرافيا السياسية للاهوت / انسحاب العثمانيين من الشرق الأوسط / رسائل مفتوحة / من لا قضية له ليس رجلا / الإيمان والإسلام / دعونا نقدم الزهور للمتمردين المهزومين / التوحيد والعدالة والحرية / الدولة والأمة والسياسة
الموقع الإلكتروني: www.ahmetozcan.net - www.ahmetozcan.net/en
البريد الإلكتروني: [email protected]

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.