الهوية الرقمية الشاملة ومخاطر مركزية البيانات..

08/10/2025
image_print

يشهد العالم اليوم تحوّلات متسارعة في مجال الرقمنة وإدارة البيانات، وهي تحوّلات لا تقتصر على الجانب التقني فحسب، بل تمتد لتطرح أسئلة وجودية عميقة حول مستقبل المجتمعات وحرّيات الأفراد. فقد باتت الرقمنة ساحة جديدة يعاد فيها تعريف السلطة والمعرفة والخصوصية، حيث لم تعد التكنولوجيا مجرّد أداة لخدمة الإنسان، بل تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى منظومة قادرة على إدارة حياته وتوجيه سلوكه. وقد جاءت إحدى أبرز الإشارات على هذا التحوّل من تصريحات الملياردير لاري إليسون، مالك شركات ضخمة مثل Oracle وCBS وCNN وTikTok، الذي دعا صراحة إلى نموذج يقوم على مركزية البيانات وإدارة حياة الناس عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي.

ففي جلسة علنية حضرها مئات من الرجال والنساء العرب، وأدارها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، قال إليسون بوضوح إن المواطنين سيتصرّفون بأفضل سلوك لأنهم سيكونون تحت المراقبة الدائمة، حيث سيتم تسجيل كل ما يفعلونه في كل لحظة. كان هذا التصريح كفيلاً بإثارة جدل واسع، لأنه يضع السلوك الإنساني في معادلة جديدة أساسها الخوف من المراقبة لا الوعي بالمسؤولية، ويحوّل مفهوم الانضباط من فعل نابع من القناعة إلى نتيجة لهيمنة رقمية شاملة.

إنّ الفكرة التي طرحها إليسون لا يمكن حصرها في إطار تحديث إداري أو تسهيل الوصول إلى الخدمات الحكومية، بل تتجاوز ذلك إلى رؤية شاملة تسعى إلى تجميع كل البيانات الشخصية والحكومية للأفراد في منظومة مركزية واحدة تُدار عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي، والتي تعمل على مراقبة الأنشطة اليومية وتسجيل السلوكيات بدقّة متناهية، ثم تتخذ قرارات مصيرية باسم “المصلحة العامة”. بهذه الطريقة تصبح تفاصيل الحياة اليومية خاضعة لسلطة خوارزمية لا تتيح للفرد مساحة كافية من الخصوصية أو الحرية، وتتحوّل الرقمنة من وسيلة للتسهيل إلى آلية للضبط والسيطرة.

ويمكن تلخيص جوهر هذه الرؤية في معادلة بسيطة لكنها بالغة الخطورة: مركزية البيانات تعني مراقبة شاملة، والمراقبة الشاملة تؤدي إلى سيطرة كاملة. أما إليسون فيرى أن هذه السيطرة ستجلب سعادة الناس لأنها ستجعلهم أكثر انضباطاً، غير أن هذا التصوّر يفتح الباب على أسئلة جوهرية تتعلق بالعلاقة بين السلطة والحرية والكرامة الإنسانية. فهل يمكن أن تتحقق السعادة من خلال القسر؟ وهل يصبح الإنسان حراً إذا كان سلوكه محكوماً بالخوف من الكاميرات والخوارزميات لا بالقيم الداخلية؟

إنّ هذا النموذج الرقمي لا يمكن فصله عن أبعاده السياسية والأمنية، إذ يمنح الجهات التي تتحكم بالبنية التحتية للبيانات سلطة شبه مطلقة على المجتمعات. فالقدرة على تسجيل تفاصيل الحياة اليومية لكل فرد تعني القدرة على توجيه السلوك العام عبر الترهيب أو الحرمان من الخدمات، وتعني في الوقت ذاته انعدام الخصوصية وتحويل الإنسان إلى كائن مكشوف لا يملك لنفسه أسراراً ولا مساحة آمنة. والأسوأ من ذلك هو قابلية هذا النظام للاستغلال السياسي، حيث يمكن استخدام البيانات لتشكيل الرأي العام أو لقمع المعارضة أو للتحكّم في مسارات التفكير الجماعي. في مثل هذا السياق، تصبح الهوية الرقمية الشاملة مشروعاً للهيمنة أكثر منها وسيلة للتنظيم.

إن هذا الطرح يضع المجتمعات أمام سؤال مصيري: هل نقبل أن نعيش حياتنا تحت هيمنة رقمية تجعل سلوكنا محكوماً بالمراقبة لا بالقيم الذاتية؟ وهل يمكن لمجتمع يراقب أفراده بعضهم بعضاً أن يحتفظ بإنسانيته؟ إن الرقمنة في جوهرها أداة قادرة على تيسير الحياة وفتح آفاق واسعة في مجالات الصحة والتعليم والاقتصاد، غير أن تحويلها إلى وسيلة مراقبة شاملة ينذر بواقع تُختزل فيه حياة البشر إلى مجرد بيانات تتحرّك داخل منظومة ضخمة تُدار مركزياً، دون أن يبقى للفرد حق الاختيار أو مساحة التعبير الحر.

ويذكّرنا القرآن الكريم بالمآل الطبيعي لمثل هذه التصورات التي توهم الإنسان بقدرته المطلقة على السيطرة، إذ يقول تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَاۤ أَنَّهُمۡ قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا لَیۡلًا أَوۡ نَهَارࣰا فَجَعَلۡنَـٰهَا حَصِیدࣰا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ﴾.

فالتحكّم المطلق وهم، واليقين بالسيطرة الكاملة ليس سوى خداع للعقل البشري الذي ينسى محدوديته. أما المستقبل الذي يستحقه الإنسان، فهو مستقبل تُصان فيه الحرية والكرامة، لا مستقبل يُختزل فيه وجوده إلى رموز رقمية تخضع لسطوة آلة لا تعرف الرحمة ولا ترى في الإنسان سوى ملف بيانات.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.