لا تزال تلك المشهد المروع في الكونغرس الأمريكي في واشنطن حاضراً في أذهاننا: القاتل الأكبر في هذا القرن ينهي خطابه على المنصة وتدوي القاعة بالتصفيق لمدة ثلاث دقائق وأربعين ثانية… تم تقديم الأمر كما لو أن القمع فضيلة والإبادة الجماعية جزء من مسار الحياة الطبيعي.
نحن أيضاً عوملنا علناً كالحمقى. أحد شهود هذا المشهد، طه عبد الرحمن، الذي لا يزال ملتزماً بإبقاء فلسطين، وبالتالي غزة، على جدول الأعمال باستمرار، شدد بشكل خاص على مفهوم ”الشر المطلق“ في خطابه المثير.
ووفقاً له، فإن الشر المطلق، الذي يمكن ترجمته على أنه ”الشر الخالص“، ليس مجرد تصنيف مجرد للشر؛ إنه القمع الموجه إلى البشرية جمعاء من خلال شعب غزة في أبسط صوره في التاريخ. واليوم، فإن الهدف الأكثر وضوحاً ومباشرة لهذا القمع هو شعب غزة. وبهذا المعنى، فإنهم ليسوا مجرد ممثلين لأمة أو منطقة جغرافية؛ بل إن وجودهم ومقاومتهم يكشفان عن أعمق اختبار للإنسانية المعاصرة. إن معرفة الشعب الفلسطيني أو فهم الحقيقة التي يمثلها بشكل صحيح هو، في الواقع، مرادف لفهم حقيقة الشر المطلق.
إلى جانب كونه موضوعًا تاريخيًا، فإن المقاوم (المرابط) في غزة، الذي يظهر مقاومة أخلاقية وميتافيزيقية، ليس فاعلًا سياسيًا عاديًا. لا يمكن تفسير العبء الذي يحمله بمجرد ”النضال من أجل الاستقلال“. بولائه الثابت للخالق، فهو رمز للمقاومة التي لا تقتصر على الصعيد السياسي فحسب، بل تمتد إلى الأبعاد الأخلاقية والميتافيزيقية. لذلك، فإن نضاله لا يقتصر على حرية الأراضي الفلسطينية؛ فهو حامل لواء النضال من أجل الحفاظ على شرف وكرامة وقيم الإنسانية الأساسية. في شخصية المرابط، رفض الخضوع للاضطهاد ليس مجرد شكل من أشكال المقاومة، بل هو أيضاً التعبير الأكثر واقعية عن الولاء لجوهر الإنسانية وطبيعتها والأمانة الإلهية. إنه مثال على وجود يمهد الطريق للمضطهدين، ويبقي الأمل حياً، ولا يطفئ النور حتى في أحلك اللحظات. مقاومته لا تقتصر على الحجارة والحواجز والشعارات؛ إنها مقاومة متعددة الأبعاد نسجت بالصبر والصلاة والخضوع والالتزام العميق بالحق. المقاوم في غزة يضيء منارة الأمل ليس فقط لشعبه، بل لجميع الشعوب التي تعاني من براثن القمع. في شخصه، تظهر شهادة قوية على أنه يمكن إعادة إرساء العدالة وإعادة بناء القيم الإنسانية. لهذا السبب احتل شعب غزة مكانه على مسرح التاريخ باعتباره ضمير العصر، واختبار الإنسانية، والمثال العالمي للمقاومة.
تتجلى المهمة التي تتحملها المقاومة في مهمتين أساسيتين: إعادة بناء القيم الإنسانية وتحرير الإنسانية. لا تقتصر هاتان المهمتان على استقلال شعب واحد فحسب، بل تشملان أيضاً لم شمل البشرية جمعاء مع القيم الأساسية التي فقدتها. ويعني ”إعادة بناء القيم الإنسانية“ إصلاح الأسس الأخلاقية التي دمرتها المصالح الخاصة بما يتماشى مع مبادئ النظام العالمي الجديد، وإعادة الرحمة والعدالة على نطاق عالمي. ويبرز المقاوم في غزة كشخصية تعيد إرساء القيم في هذا العالم الذي فقد قيمته. ”تحرير البشرية“ ليس مجرد التحرر من الأسر السياسي؛ إنه إعادة البشرية إلى طبيعتها، وغرض خلقها، وثقتها الإلهية. هذه الحرية تحمل عمقاً يتجاوز كسر القيود، ليشمل تحرير الروابط الداخلية والضمير والروح من الأسر. لذلك، فإن هذين الواجبين اللذين يضطلع بهما مقاتلو المقاومة في غزة – بثمن باهظ – هما أثقل مسؤوليات عصرنا. فهما يطهران أفق البشرية الملوث ويذكراننا بإمكانية العودة إلى الروابط النقية والطبيعية.
إن حالة الوعي متعددة الطبقات التي نشهدها اليوم بين سكان غزة ليست مجرد صراع الأيدي التي ترمي الحجارة أو الأجساد التي تحرس أبواب الأماكن المقدسة. هذا الوعي يتجاوز بكثير الأفعال المرئية؛ إنه حالة وعي عميقة الجذور نسجت بالصلاة والصبر والثقة والخضوع والروحانية العميقة. لا يكتفي سكان غزة بترديد الصلاة ”حسبنا الله ونيميل وكيل، والحمد لله رب العالمين“ على شفاههم؛ بل يضعونها في صميم وجودهم. هذه الصلاة ليست تعزية مؤقتة أو عبارة ملجأ لهم. بل على العكس، إنها سلاح ميتافيزيقي تم تطويره لمواجهة القهر والشر، ودرع روحي للمقاومة ضد الظلام. مع كل تكرار لها، فإنها تتحدى ليس فقط الاحتلال، بل أيضاً اليأس والعجز ونسيان البشرية لجوهرها. وهكذا، فإن المقاوم في غزة، بينما يعارض الظلم، يصقل في الوقت نفسه طبيعته ويواصل رحلته في التطور الداخلي. نضاله هو مقاومة خارجية وعملية بناء داخلية في آن واحد. وبهذا المعنى، فهو ليس مجرد ضحية خاضعة للاضطهاد؛ بل يصبح شخصية تحرس ضمير البشرية، وتقود قضية الحقيقة والعدالة. هذا الوعي بداخله يذكر العالم أجمع بأن المقاومة ممكنة ليس فقط بالحجارة، بل بالصلاة أيضاً؛ ليس فقط بالجسد، بل بالروح أيضاً؛ ليس فقط بالغضب، بل بالصبر والخضوع أيضاً. بهذه المقاومة متعددة المستويات، يمثل سكان غزة أعمق مثال أخلاقي في عصرنا.
في سهرهم لحماية المقدس، يعيش سكان غزة في حالة وعي تدافع عن حدود الأرض وتدافع في الوقت نفسه عن ”حدود المعنى“. ففي عالم من الطغاة مثل إسرائيل، الذين لا يعرفون حدوداً، لا يقتصر الاحتلال على الاستيلاء على الجغرافيا وتلويث الفضاء؛ بل هو أيضاً محاولة لإفساد جوهر الإنسانية، وطبيعتها ذاتها. مقاومتهم تتصدى لهذا التدمير من خلال إحياء المقدس وإعادة الطبيعة إلى حالتها الأصلية. السهر هنا، أي فعل السهر، ليس مجرد موقف جسدي، بل هو في الواقع سهر الولاء الذي يتحقق من خلال نزاهة الروح والنية والطبيعة. يحمل سكان غزة في قلوبهم الإرث الإلهي الذي تركه النبي الحبيب (صلى الله عليه وسلم) والرابطة القديمة التي أقامها جبريل (عليه السلام) عندما ربط براق بالقدس. لهذا السبب فإن مقاومتهم ليست مجرد صراع دنيوي؛ بل هي تعبير عن الإرادة لحماية أمانة إلهية. إنهم يراقبون ليس فقط حدود الأرض، بل أيضاً الخط الفاصل بين الحقيقة والباطل، والهاوية بين الطبيعة والتشويه. مقاومتهم، من ناحية، تصلح الدمار الذي خلفه الاحتلال، ومن ناحية أخرى، تذكر البشرية بارتباطها بالقدس. وبهذا المعنى، فإن المرابط هو شاهد يحافظ على ولاء الأمانة ليس فقط لشعبه، بل للبشرية جمعاء.
بصفته شخصية تكشف عن قوة المقاومة ضد العبودية، لا يقتصر دور المقاوم في غزة على معارضة اضطهاد إسرائيل فحسب، بل يكشف أيضاً عن الحكام الذين ”طبعوا“ هذا الاضطهاد ومنفذيه الحقيقيين. بالنسبة لهؤلاء الحكام، فإن استعباد شعوبهم وقيمهم أمام إسرائيل يشوه مصادر العدالة الطبيعية والأخلاقية. برفضهم هذا الاستعباد المزدوج – من ناحية، الأسر المباشر للاحتلال، ومن ناحية أخرى، الموقف الخاضع للقادة المتعاونين – فإن شعب غزة هو الذي يفتح الباب أمام الحرية الحقيقية والعدالة الحقيقية. مقاومتهم ليست مجرد رفض سياسي، بل هي أيضاً نداء أخلاقي إلى البشرية جمعاء: لرفض الاستعباد، ورفض قبول الإذلال، وحماية المقدسات والمسؤوليات. لهذا السبب يواجه المقاوم المحتل وأولئك الذين يوافقون على الاحتلال. إنه يزيل الأقنعة التي تسعى إلى إخفاء الإذلال ويسلط الضوء على الحجاب الذي يغطي الخيانة. وفي قيامه بكل هذا، لا يتردد أبداً في عزمه على إحياء الثقة والعدالة. موقف سكان غزة يذكرنا بأن المقاومة الحقيقية ليست فقط ضد القمع المفروض من الخارج، بل هي أيضاً ضد الاستسلام والاستعباد الناجمين من الداخل. ولهذا السبب، فإن نضالهم في عصرنا ليس مجرد مقاومة سياسية، بل هو أيضاً شهادة عالمية تعيد كرامة الإنسانية.
يمثل سكان غزة ضمير الإنسانية، ويذكروننا بالحقيقة الأبسط والأكثر وضوحاً في عصرنا: الصمت في وجه القمع هو موت الإنسانية؛ والمقاومة هي ولادتها من جديد. وجود سكان غزة يظهر للإنسان المعاصر، الذي فقد اتصاله بطبيعته، كيف يظل ”إنساناً“ مرة أخرى. في شخصهم، يتجلى إحياء القيم التي هي في خطر الضياع وإمكانية تذكر المقدس الذي حاولوا نسيانه. اليوم، كل فلسطيني يقاوم في غزة والقدس والضفة الغربية لا يحمل على عاتقه شرف شعبه فحسب، بل ضمير البشرية جمعاء. إنهم مثل آخر الحراس الذين يحافظون على ارتباط البشرية بالقدس؛ فمن خلال صلواتهم وصبرهم وتضحيتهم بأنفسهم، يظهرون للعالم أجمع كيف يمكن للمقاومة أن تكون مثالاً للأخلاق. لهذا السبب، فإن شعب غزة هو رمز سيؤدي ليس فقط إلى إيقاظ جغرافيا، بل وإيقاظ عصر. إنه رمز للمقاومة المطلقة ضد الشر المطلق. إنه رمز للولاء في حمل الأمانة الإلهية. إنه رمز لشخصية رائدة في إعادة بناء الإنسانية. مقاومته ليست نضالاً من أجل فلسطين فحسب، بل من أجل البشرية جمعاء؛ إنها طريق مفتوح ليس فقط لتحرير شعب، بل لإيقاظ الإنسانية ومقاومتها لكل أشكال القهر.
* هذا المقال مستوحى من ملاحظات أدلى بها طه عبد الرحمن خلال محاضرته بعنوان ”الشر المطلق ومراقبة الأفكار على الحدود“، التي ألقاها في 26 يوليو 2024.
