بعد الإنقلاب على السلطان عبدالحميد الثاني, خَلَفَ السلطان عبدالحميد أخوهُ محمد الخامس (١٩٠٩-١٩١٨) وقد كانت فترة حكمهِ كلها انهيار السلطانة العثمانية والتي فيها كانت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨) وحكمه قد كان شكليا , ولكن القادة الحقيقيين كانوا الاتحاد والترقي , وبدأ عهد محمد الخامس بحراك قومي بألبانيا للاستقلال , مع ان سكانها مسلمين , ولكنهم ارادوا ان يقيموا دولة قومية البانية تحكي لغة البانية ويحكموها الالبان , وهكذا اصبحت مناطق البلقان التي كانت تحت سيطرة السلطنة على صفيح ساخن , وكانت تنتظر شرارة لتنفصل عن السلطنة , وقد جاءت هذه الشرارة سنة ١٩١٢ , عندما قام تحالف يضم الصرب والبلغار والجبل الاسود واليونان بإعلان الحرب على السلطنة , وانضم لهم مقاتلين من المرتزقة الالبان , الجيش العثماني انهزم , وبعدها سقطت إدرنة القريبة من استانبول وخلال عامين فقط ١٩١٢ -١٩١٣ خسرت السلطنة واحدة من اهم المناطق التي كانت مسيطرة عليها واكثرها تطورا وغنا وانفتاحا على اوروبا ألا وهي منطقة البلقان , وهذه المنطقة قد بدأ العثمانيون السيطرة عليها قبل ان يبدأ العمل على القسطنطينية بقرن , اي قبل ١٠٠ عام من فتح استانبول , يعني البلقان ظل لمئات السنين تحت سيطرة العثمانيين وفجأة خسروه , وهذا ادى لصدمة حقيقة لدى العثمانيين بعد ٤ قرون من التواجد فيه هذه المنطقة , هذا فضلا عن الولايات العثمانية بشمال افريقيا كخسارة الجزائر ومن ثم تونس وآخر شيء ١٩١١-١٩١٢ خسارة ولاية ليبيا , والتي كانت الاخيرة في شمال افريقيا , وخلال عامين فقط انتهت حكاية العثمانيين في قارتي اوروبا وافريقيا.
الذي بقي لدى العثمانيين فقط بلاد الشام والعراق وغرب شبه الجزيرة العربية , وهذه المناطق كان اقتصادها زراعي , الدولة العثماني لم تستطع ان تواكب التطور والثورة الصناعية التي كانت تجري في العالم-سنفرد لهذا الامر مقالا خاصا في المستقبل- يعني الاوضاع الاقتصادية خصوصا بالبلاد العربية كانت سيئة, يقول المؤرخ الروسي فلاديمير لوتسكي في كتابه (تاريخ الأقطار العربية) : ” كانت الأراضي في كل الأقطار العربية في المرحلة العثمانية، تنقسم إلى ثلاثة أنواع: أراضي الدولة، وأراضي الأوقاف، والأراضي الخاصة، أما الأراضي الخاصة فقد كانت نسبتها هزيلة جدا إضافة إلى الضريبة المسلطة على صاحبها والتي تبلغ نصف غلة الأرض غالبا قبل سيطرة العثمانيين على الأراضي العربية، كان نظام العشائر يقوم على الملكية المشاعية للأرض وهذا النظام كان معمول به في كل من شمال إفريقيا والعراق والجزيرة العربية. وعند دخول الأتراك اتبعت الدولة العثمانية سياسة نزع الأراضي المشاعية عنوة، وتم إعلانها كأراضي أميرية، مما جعل هذا النوع من الأراضي هو الأكثر انتشارا .
حتى يتمكن الفلاح من حرث الأرض، كانت تقع عليه عدة ضرائب، منها: العشر، والخراج، وضرائب لقاء استعمال المراعي الشتوية والصيفية، وضرائب على استخدام الطواحين.
في مصر، كان يقوم الملتزمون بجباية الريع النقدي من الفلاحين وهو ما يعرف بالمال الحر، حيث ينقسم هذا النوع من الريع إلى ثلاثة أقسام غير متساوية: قسم يدفع كخراج للباب العالي، وقسم لشؤون إدارة الأقاليم، وقسم يبقى لدى الملتزمين، إضافة إلى ذلك، تم تحويل قيمة الهدايا الطوعية التي كان يقدمها الفلاحون إلى ملاكيهم إلى ضرائب تقليدية إجبارية.
في جنوب العراق مثلا “كانت الأرض تعود إلى القبائل العربية وتعتبر ملكا جماعيا بينهم … وقد حاولت السلطات العثمانية القضاء على ملكية القبائل الجماعية للأرض، فجعلت الأرض المشاعية ملكا للدولة” مما أدى إلى ثورات قبلية من طرف القبائل الرحالة، رفضا لدفع الريع.
في الشمال الإفريقي “سيطر العثمانيون على الأراضي الساحلية وشنوا حروبا مستمرة على القبائل العربية والبربرية التي كانت تذود على حق ملكيتها لهذه الأراضي” [وترتب على ذلك جعل “الاستثمارات الكبيرة شبه معدومة، وبواسطة جباية الضرائب الجسيمة وابتزاز الأموال كان الملاكون يضعون أيديهم لا على محصول زائد فحسب بل وغالبا على محصول ضروري أيضا، ويستهلكونه ويستخدمونه بصورة غير منتجة”
حتى وقع بفعل ذلك “تدهور الزراعة إلى أقصى حد وكانت تنقرض قرى بأكملها ولم يبق في نهاية القرن ١٨ من بين ٣٢٠٠ قرية كانت في إيالة حلب في القرن السادس عشر سوى ٤٠٠ قرية”
لهذا كلِّه ظهر نتيجة لذلك النشاط السياسي في البلاد العربية , وظهرت جمعيات بهذه المناطق العربية تطالب بشكل من اشكال الاستقلال عن السلطنة, شكل من اشكال الحكم الذاتي , ولكن بنفس الوقت قد شاهد العرب ماذا جرى بولايات شمال افريقيا والاستعمار الغربي الذي حدث لها , فعلموا أن أي خروج عن السلطنة العثمانية سيجعلهم مكشوفين للاستعمار الغربي الاوروبي , لذلك كانت مطالبهم اقل حِدِّية من مطالب الولايات البلقانية , ولكن في هذا الوقت حدث أمر غيَّرَ كل شيء , وسرّع التغيير حيث اندلعت الحرب العالمية الأولى ١٩١٤ حيث العثمانيين دخلوا الحرب بجوار حليفتهم المانيا وإمبراطورية هابسبروغ “النمسا هنغاريا” ضد فرنسا وبريطانيا روسيا القيصرية , ولاحقا أمريكا انضمت لهذا الحلف , السلطنة كانت محاصرة , وحزب الاتحاد والترقي وحزب الفتاة كان الحاكم الفعلي للسلطنة حينها , والحاكمين الفعليين هم الباشاوات الثلاثة ومن ضمنهم كان جمال باشا الذي يُعرَف بلقب “السفّاح” (السيء السمعه في البلاد العربية) ومن اجل هذه الحرب أعلن العثمانيين النفير العام بكافة الولايات العثمانية حيث اعلنوا الجهاد ضد اعداء السلطنة , وفي هذا الوقت حدثت احداث التجنيد والتي تعرف بالبلاد العربية بأحداث “سفر برلك” التي شارك فيها جدي عباس عيد وجدي شهاب عيد, اما الأول فقد عاد من هذه الحرب سالما, اما الثاني جدي شهاب عيد فقد فقدناه في “جناق قلعه” ولا نعرف عنه شيء حتى اللحظة , وخلال هذه الفترة ايضا كان يوجد حراك ومطالبات من المثقفين العرب بأن يدير العرب مناطقهم بأنفسهم , ويكون عندهم استقلالية اكثر , ويرفضوا التتريك , ويستخدموا اللغة العربية بالتعليم والقضاء, فرد عليهم جمال باشا (1873-1922) وكان رده الترهيب بشهر 4 و5 من سنة 1916 أعدم جمال باشا العشرات من هؤلاء المثقفين بدمشق وبيروت , وكانوا ليسوا فقط مثقفين وإنما بينهم شعراء و سياسيين , حيث اتهمهم بالخيانة .
خلال سنوات الحرب عاش العرب اوضاع صعبة جدا , من الاهمال والقمع على محاولات اقحامهم بالحرب , والعثمانيين كانوا يحاولون تحريك العرب والمسملين إذ هم مكونهم المهم و الوحيد المتبقي من الدولة ليشاركوا بالجهاد , وليحفزوهم أكثر ذهب العثمانيين وتكلموا مع الشريف حسين الهاشمي ( 1853-1931) بمكة المكرمة لأن له مكانة كبيرة بين المسلمين لأن نسبه يعود للنبي صلى الله عليه وسلم, ولكن الشريف حسين كان لديه طموح اكبر , أن يحكم مناطق واسعة من شبه الجزيرة العربية ويستقل عن العثمانيين , فرفض التفاوض مع جماعة تركيا الفتاة فهددوه بالقتل, والذي هدده حينها هو جمال باشا.
لهذا يعتبر بعض المؤرخين أن جمال باشا كان مؤجج ثورة الشريف حسين ضد السلطنة العثمانية, وليس هذا فقط بل رئيس تركيا الحديثة تورغوت أوزال في مقابلة له أُجريت عام 1991 ، والتي نُشرت بعد وفاته، وجّه أوزال اتهامات خطيرة لجمال باشا و أشار أوزال إلى أن جمال باشا كان عميلاً للإنجليز، وسعى لإثارة العداوة بين العرب والدولة العثمانية, وأنه تلقى تعليمات من البريطانيين للقيام بأعمال تهدف إلى تشويه سمعة الدولة العثمانية وإثارة الفتنة بين العرب والأتراك.
فبعد تهديد الشريف حسين بالقتل, البريطانيين كانوا واعين لهذا وقد وصلتهم اخبار طلب العثمانيين من الشريف حسين ليساعدهم في تحفيز العرب للقتال معهم, فوعدوا الشريف حسين بدولة إسلامية عربية تشمل شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق, وسيحكمها هو إذا ساعدهم بجهودهم في الحرب العالمية الأولى ضد العثمانيين , فاجتمع هذا الوعد مع تهديدات جمال باشا بقتله مع ضعف الدولة العثمانية وتغلغل الفكر القومي ودسائس ايهود الدونمة وجماعة سيلانك على العموم فانتج هذا تحرُّك العرب باتجاه الشمال , حيث دعا الشريف حسين إلى قيام ما يعرف بالثورة العربية الكبرى ١٩١٦ , ضد السلطنة العثمانية, ودعمته بريطانيا بالسلاح والمال , ولكن بالرغم من ذلك لم تكن الوعود البريطانية صادقة وحقيقية كعادة أي مستعمر ولم يعطوه أي شيء مما وعدوه فيه وهذه قصة طويله سنفرد لها مقالات خاصه فيما بعد , لكن خلال هذه التمرد يجب التنويه ان الكثير من العرب كانوا ضد هذا التمرد , لم يكن العرب كلهم مع هذا التمرد , فهناك من كان مع الشريف وهناك من كان ضده, وهناك أسباب أخرى سسيولوجية سنكتب عنها لاحقا .
وفي شهر أيلول سنة ١٩١٨ دخل الأمير فيصل بن الحسين (١٩١٨-١٩٢٠) إلى مدينة دمشق , وهكذا استقلت الولايات العربية عن السلطنة العثمانية, لكن الوعود البريطانية للشريف حسين لم تكن صادقة كعادتهم, حيث كانت قد جرت خلف الكواليس في عام ١٩١٦ اتفاقية سايكس بيكو الفرنسية البريطانية الروسية لتقسيم المنطقة إلى مناطق تحت الانتداب الفرنسي , ومناطق تحت الانتداب البريطاني , يقول المؤرخ الروسي ألكسي فاسيلييف في كتابه “تاريخ العربية السعودية” : “وعندما نشرت روسيا السوفييتية بعد ثورة أكتوبر المعاهدات القيصرية السرية ومن ضمن ما نشر معاهدة سايكس بيكو بشأن تقسيم الأقطار العربية، سلّم الأتراك إلى الشريف حسين نص هذه المعاهدة فاتصل الحسين بالانجليز طالبا رأيهم في صحة هذه المعاهدة فاستلم منهم (تأكيدات صادقة) بأن هذه المعاهدة مزورة.
صدّق الشريف الإنجليز أو تظاهر بأنه يصدقهم وواصل العمليات الحربية ضد الأتراك، وكان ذلك يعني أن الدماء العربية، تراق في الواقع لأغراض ضد العرب، إلا أن حكومة الحجاز كانت معتمدة كليا على المساعدات العسكرية والمالية والغذائية من الإنجليز”.
وهنا يجدر بي أن أقول أننا نحن أهل البلاد العربية نعيش نتيجة هذه الأحداث , فالحروب التي نعيشها اليوم نتيجة هذه الاحداث التي حدثت منذ اكثر من ١٠٠ عام , المهم السلطنة خسرت الحرب العالمية الأولى , وبعد هذه الاحداث تقريبا بسنة عام ١٩١٩ في مدينة سامسون التركية , كان الضابط الشاب مصطفى كمال الذي سيلقب لاحقا ب ” atatürk” أو أبو الاتراك , الذي لَمَعَ نجمه في معركة جناق قلعه الشهيرة, كان يحضِّر نفسه لحرب استقلال ضد القوات المحتلة الأجنبية وخاصة اليونانية , الحدث الذي يمكن ان نعتبره بداية حقبة جديدة من تاريخ تركيا الحديث , وفي ١٩٢٠ تم انتخابه كأول رئيس لمجلس النواب والحكومة , المنصب جعله في موقع مهم لاتخاذ القرارات , وخلفه كان يوجد دعم شعبي واسع , وأخيرا سنة ١٩٢٢ أَجبَرَ مصطفى كمال السلطان العثماني محمد السادس عن التنازل عن الحكم وتم نفي العائلة المالكة لخارج تركيا , والغيت السلطنة العثمانية , بعد ٦٢٥ سنة من تأسيسها , وبعد سنة أي في سنة ١٩٢٣ حدثت اتفاقية لوزان التي نظمت المنطقة بعد الحرب , والتي يمكن ان تعتبر وثيقة تأسيس تركيا الحديثة .
وفي النهاية نجد أن الحرب العالمية الأولى التي انتهت في العالم كله لكنها ما انتهت في منطقتنا بعد أي في الشرق الأوسط وتحديدا في بلاد الشام وبعض دول البلقان إذ أننا مازلنا ندفع ثمن هذه التغيرات حتى اللحظة , إذ أن هذه الدول بعد استقلالها دخلت في دوامة من الحروب والنزاعات الاهلية ما انتهت حتى اليوم كحروب البلقان التي دمرت أي فكرة للتعايش بين مكونات هذه المنطقة المختلفة , التي كانت النخب الأوروبية تطالب السلطنة العثمانية للخروج منها حتى يتم تعايش المكونات فيها , ومن المضحك أنه انتشر لاحقا حديث بين الأوساط الأوروبية أن أهل هذه المنطقة من البلقان من الأساس يكرهون بعضهم البعض !
وقالو أن الحروب التي حدثت في التسعينات في المنطقة ليس بسبب الشعوب وإنما بسبب وجود السلطنة منذ زمن! ولكن في الحقيقة تجد دراسات وتحليلات لمؤرخين وباحثين تقول أن هذه الصورة الأوروبية النمطية عن البلقان خطأ وتزوير , وأن شعوب هذه المنطقة كانت منسجمه وبعيدة عن الصراعات في ظل الدولة العثمانية , وأن المشاكل والحروب التي حدثت قد جرب في نهايات الدولة العثمانية وكان سببه الضعف الداخلي للسلطنة والتدخلات الخارجية , ولا نستطيع أن نعمم هذا الخطأ على تاريخ طويل عاشته المنطقة في ظل الدولة العثمانية .
وأخيرا وبعيدا عن النظرات المتحيزة لأي طرف , لم تكن الأوضاع في الدولة العثمانية مثالية ولكن بذات الوقت لا نستطيع أن نرمي على كاهلها كل المشاكل والصراعات التي عاشتها المنطقة لاحقا, وهذا لا يزال محل خلاف وجدال بين الباحثين إلى يومنا هذا .
والآن بعد ان عرفنا السبب الرئيس لمشاكل المنطقه ألا وهو انهيار الدولة العثمانية وبداية الاستعمار, في المقالات القادمة سنتكلم عن سايكس بيكو وبداية الإستعمار وكيف قسم بلاد الشام وكيف مكّن الفرنسيين للعلويين بعد خروجهم من سوريا وكيف كان الحكم في هذه المنطقه بعد خروج العثمانيين؟ وكيف بدأت الممكلة السورية ؟ وكيف وصل الحكم لآل الأسد؟