السويداء: مدينة صغيرة أمام مخطط كبير

إذا انقسمت سوريا على أسس طائفية وإثنية، فسيصبح كل جزء منها ساحة حرب للقوى العالمية. لذا، فإن وحدة الأراضي السورية ليست مسألة حيوية للسوريين فحسب، بل لكل شعب ودولة في المنطقة. وعلى تركيا، بإدراكها لمسؤوليتها التاريخية والجغرافية، أن تتبع سياسة حازمة من أجل "سوريا موحدة".
26/07/2025
image_print

أحيانا الخرائط لا تحدد الطرق فحسب، بل إنها تحدد أيضا مصير الأمم، وطموحات الإمبراطوريات، واتجاه الحضارات. هناك مدن تبدو على السطح هادئة، متواضعة، ومنسية؛ لكنها في العمق تقع في قلب حسابات كبيرة، ومشاريع عالمية، وصدامات تاريخية. السويداء، الواقعة في أقصى جنوب سوريا، هي واحدة من هذه المدن: نقطة تقاطع تحمل في صمتها عواصف، وتخفي في صغرها خططًا كبرى…

لم تُترك سوريا طوال التاريخ لشأنها. فطوال قرون، كانت هذه الأرض مركزًا للعبور بين الشرق والغرب، والغزوات، والتحالفات، والمواجهات. رأى الفرس القدماء، والمصريون، ومن ثم الإمبراطورية الرومانية هذه المنطقة ليس مجرد قطعة أرض، بل خطا لتحديد المصير. الرومان والعثمانيون كانوا يعلمون أن التمسك بآسيا الصغرى يتطلب السيطرة على سوريا.

في هذا السياق التاريخي، كانت منطقة حوران —ومدينة السويداء الواقعة شرقها والمتاخمة للحدود الأردنية— حجرًا محوريًا في خريطة وحدة سوريا. في هذه الجغرافيا حيث تصطدم الإمبراطوريات، كانت حوران رقعة الشطرنج، والسويداء قطعة لا يمكن تجاهلها على هذه الرقعة، ونقطة حاسمة.

اليوم، تُعد السويداء إحدى المحافظات الـ14 في سوريا، تحيط بها من الجنوب الأردن، ومن الغرب درعا، ومن الشرق والشمال ريف دمشق. اشتُق اسمها من الكلمة العربية “سوداء” التي تعني اللون الأسود أو الداكن. لكن هذه السواد ليس ظلامًا، بل يعني العمق. يشير مصطلح “السويداء” في القلب، كما يُعتقد، إلى مركز البصيرة، والنضج، والحقيقة المخفي. مثل جوهرٍ مدفونٍ في أعماق الإنسان يعطي معنى لوجوده… تمامًا مثل الروح الخالدة لهذه المدينة القديمة.

في القرن التاسع عشر، هاجر سوريون من هذه المنطقة إلى فنزويلا، وعاد أحفادهم بعد سنوات إلى أرض الأجداد، حاملين معهم الثقافة الجنوب أمريكية، واللغة الإسبانية، وموجة جديدة من رأس المال. لذا، تُعرف المدينة اليوم باسم “فنزويلا الصغيرة” — جسر ثقافي بين ذاكرة الخارج وتقاليد الداخل.

ظهرت السويداء أولًا على مسرح التاريخ في عهد الأنباط باسم “سُوَادَا”. في العصر الهلنستي، سُميت “ديونيسياس سُوَادَا” نسبة إلى ديونيسوس، إله الخمر والابتهاج. ثم أُدرجت ضمن مقاطعة البتراء العربية في العهد الروماني. وفي القرن الثاني الميلادي، حصلت على صفة مدينة، وأصبحت في العصر البيزنطي مركزًا أسقفيًا تحت تأثير العرب الغساسنة.

في عام 629م، فُتحت المدينة على يد الجيوش الإسلامية، وأصبحت جزءًا من العالم الإسلامي. ووصفها الجغرافي المسلم الشهير ياقوت الحموي في القرن الثالث عشر بأنها “قرية تابعة لحوران”. لكن رغم مظهرها المتواضع تاريخيًا، اكتسبت السويداء في كل عصر معنى جديدًا وعمقًا استراتيجيًا.

ما يعيد اليوم وضع السويداء في بؤرة التوازنات الإقليمية والعالمية هو موقعها في قلب مشروع ضخم يُعرف بـ”ممر داود”. يبدأ هذا الممر من هضبة الجولان المحتلة، ويمر عبر درعا والسويداء ليصل إلى القاعدة الأمريكية في التنف. ثم يمتد شرقًا عبر المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم PYD/YPG، وصولًا إلى أربيل في العراق، حتى الحدود التركية.

هذا المسار ليس مجرد خط استراتيجي، بل مشروع هائل يدمج بين الطاقة، والأمن، والاقتصاد، والنفوذ الثقافي. قد يكون بديلًا لقناة السويس، ويوازي مشروع “الحزام والطريق” الصيني، ويحول إسرائيل إلى مركز لوجستي بين الخليج وأوروبا. ورغم أنه يبدو مشروعًا إسرائيليًا، إلا أن خلفه تكمن مصالح الولايات المتحدة وبريطانيا.

لأن السويداء تقع في قلب هذا الخط. فهي العقدة الجيوسياسية والديموغرافية الأخيرة قبل الوصول إلى التنف. تشكل منطقة عازلة طبيعية بين الحزام العربي السني في الجنوب، وحزام الولايات المتحدة-PYD/YPG في الشرق.

في العقيدة الأمنية لإسرائيل —الدولة الوحيدة في العالم بلا حدود محددة— يُنظر إلى الوجود السني على طول الممر كتهديد محتمل. لأن التاريخ أثبت أن الشعوب المتجذرة في الأرض تقاوم يومًا ما. واحتجاجات العشائر الأخيرة في السويداء تُنذر باستيقاظ هذه الذاكرة.

بناء “ممر داود” ليس مجرد مسألة لوجستية أو عسكرية، بل تدخل في النسيج الديموغرافي والثقافي والسياسي للمنطقة. مثلما فعلت خريطة سايكس-بيكو قبل قرن… هذا المسار الجديد يهدد ذاكرة الشعوب، وسيادة الدول، واستمرارية الهويات.

إذا اكتمل هذا المشروع، لن تصبح إسرائيل مجرد دولة، بل مركزًا إقليميًا. ستُنقل البضائع من الخليج إلى موانئ إسرائيل، ثم إلى البحر المتوسط، وأوروبا. في المقابل، ستزداد مخاطر تهميش شعوب المنطقة الأصيلة — العرب، والأتراك، والأكراد — وخضوعهم للسيطرة وفقدان الهوية.

ما يحدث اليوم في السويداء قد يبدو للبعض صراعًا طائفيًا محليًا، أو حركة معارضة للنظام، أو تمردًا محدودًا. لكن القضية أعمق من ذلك. الشرارة التي تشتعل هنا تعكس محاولة فك آخر حلقة أمام “خريطة داود”. هذه ليست أزمة، بل حجر الزاوية في المستقبل الإقليمي.

إذا انقسمت سوريا على أسس طائفية وإثنية، فسيصبح كل جزء منها ساحة حرب للقوى العالمية. لذا، فإن وحدة الأراضي السورية ليست مسألة حيوية للسوريين فحسب، بل لكل شعب ودولة في المنطقة. وعلى تركيا، بإدراكها لمسؤوليتها التاريخية والجغرافية، أن تتبع سياسة حازمة من أجل “سوريا موحدة”.

النظر إلى قضية السويداء من زاوية مدينة صغيرة يعني إغفال الحقيقة الكبيرة. لأن ما يحدث هنا ليس مجرد حركة شعبية، أو تمرد أقلية، أو صراع محلي. القضية هي رسم خريطة جديدة، ونظام جديد، وخط نفوذ جديد…

من الذي يُعبّد هذا الخط الجديد؟

من يُعتبر عقبة أمامه؟

ومن الذين يتم تحضيرهم للتضحية بهم على هذا الطريق؟

السويداء هي عقدة الإجابة على هذه الأسئلة.

ولهذا… حتى صمتها يتردد صداه.

Turan Kışlakçı

توران قشلاقجي
أكمل تعليمه العالي في إسلام آباد وإسطنبول. بدأ مسيرته الصحفية في مرحلة الدراسة الإعدادية، وعمل محررًا للأخبار الخارجية في صحيفة "يني شفق". قشلاقجي هو مؤسس موقعي "دنيا بولتيني" و"تايم تورك". وشغل منصبي رئيس تحرير منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا في وكالة الأناضول، والمنسق العام لقناة "تي آر تي عربي". كما ترأس جمعية الإعلاميين الأتراك - العرب وجمعية "مهجر"، وعمل مستشارا في وزارة الثقافة القطرية. ويقدم حاليًا برنامج "البرج العاجي" على قناة "إيكول تي في"، ويكتب مقالات في صحيفة "القدس العربي". وألّف كتابين عن الشرق الأوسط.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.