أجرينا حوارًا موسعًا مع معالي البروفيسور د. محمد غورماز، رئيس الشؤون الدينية السابق في تركيا، حول الحضارة الإسلامية ومشكلات المسلمين في العصر الحديث. نقدم لكم هذه المحادثة الثرية التي تفتح آفاقًا جديدة، حيث تناولت العديد من القضايا من المجازر في غزة إلى بحث الشباب عن المعنى، ومن السعي نحو العدالة العالمية إلى الأزمة الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية وسبل حلها.
——————————————————————
السؤال الأول: أستاذي، كيف تقيّم قدرة الفكر الإسلامي على تقديم إجابات لقضايا عصرنا؟ في السنوات الأخيرة، تكثفت النقاشات حول ضرورة تجديد الخطاب الديني. وقد تطرقتم إلى هذا الموضوع في أحد الحوارات. عندما تتحدثون عن تجديد الخطاب الديني، ماذا تقصدون بذلك بالضبط؟ وكيف يمكن ضمان توازن هذا التجديد مع القيم التقليدية؟
الجواب: للإجابة على السؤال الأول إيجابًا أو سلبيًا، يجب أولاً أن نفرق بين الفكر الإسلامي والإسلام ذاته. لأن الإسلام هو اسم الدين الكامل الأخير؛ وهو دين عالمي يعد بالصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة. لا ينبغي أبدًا نسيان ثلاث خصائص للإسلام: العالمية، الخلود، والخاتمية. أي أن الإسلام عالمي، أبدي، وهو الدين الأخير. أما الفكر الإسلامي فهو مجموعة الأفكار التي أنتجها المسلمون على مر العصور انطلاقًا من الإسلام. وللأسف الشديد، فإن إنتاج المسلمين المعاصرين للمعارف والأفكار والقيم القادرة على الإجابة على قضايا عصرنا انطلاقًا من الإسلام، لا يرتقي إلى مستوى المسؤوليات التي يفرضها الإسلام علينا. لكي يتمكن المسلمون في كل عصر من تحقيق ذلك، يجب عليهم تلبية أربعة شروط: فهم النصوص التأسيسية للإسلام، القرآن والسنة، فهمًا صحيحًا وعرضها بإدراك العصر لإنتاج المعرفة والفكر والقيم؛ تحديث تراثنا الفكري التاريخي ونقله إلى عصرنا الحاضر؛ قراءة التغيرات في إطار السنن الإلهية وإعطاء إجابات صحيحة لتحدياتها؛ وتحويل وجودهم وحياتهم إلى كيان أخلاقي، دون أن يفقدوا تفوقهم الأخلاقي أبدًا. ولكن المسلمين، ولأسباب داخلية وخارجية، قد ابتعدوا للأسف عن تحقيق هذه الشروط منذ قرنين من الزمان.
الخطاب الديني يشكل جزءًا أساسيًا من هذه القضية. عند الحديث عن الخطاب الديني، أقصد أمرين جوهريين: الأول أن الدين نفسه قد عبر عن الحقائق الإلهية بلسان بشري، وهذا الخطاب يحتاج إلى قراءة متجددة باستمرار. والثاني أننا نعبر عن الدين والفكر المستمد منه عبر خطاب معين، وهذا الخطاب بدوره يحتاج إلى تجديد دائم. الأمر الأول يتطلب إعادة فهم، والثاني إعادة تعبير.
نلاحظ اليوم أن خطابنا في التعبير عن الأفكار قد ابتعد حتى عن الحكمة الأصلية للدين. فالخطاب يمثل الجانب البشري-الإنساني للدين. ومن الصعوبة بمكان التعبير عن المطلق اللامتناهي بالمحدود المتناهي. ولما كان الله قد أنزل كلامه المطلق بلغة البشر المحدودة، فقد أذن بتعدد الدلالات. هذا التعدد الدلالي يفتح أمامنا آفاقًا واسعة للتجديد المستمر.
إن مفهوم التجديد في الخطاب الديني لا يعني شيئا جديدا مبتكرا، بل إحياء القديم وتقويته وضمان استمراريته. فالمعنى والحقيقة لا يتغيران، ولكن أساليب التعبير عنهما تتبدل. وكما يقول الإمام الغزالي: “كل من طلب المعاني من الألفاظ، ضاع وهلك”.
السؤال الثاني: في دراستكم التي حملت عنوان “مفاهيم الإسلام الأساسية”، أشرتم إلى مشكلة تلوث المفاهيم، كما حذرتم من خطر “فوضى التأويل” في الخطاب الديني. برأيكم، ما هي أكثر المفاهيم التي يساء فهمها في عالم اليوم؟ وهل تجدون النقاشات الدائرة حول مجموعة المفاهيم مثل الجهاد، والاجتهاد، والسنة، والحديث، والتقليد، والعقل، والوحي، مثمرة؟ وكيف تقيمون جهود علماء العالم الإسلامي في هذه القضايا؟
الجواب: كلما زادت المعلومات عن الدين، قل العلم. وكلما قل العلم، اختفت الحكمة. تقريبًا جميع المفاهيم الأساسية للإسلام تعاني من تضييق في المعاني، بل وحتى انحرافات دلالية. عندما تضيق الأفكار، تضيق المفاهيم أيضًا. هناك مفهوم يسمى “هندسة الجهل”. هندسة الجهل هي طريقة لإبقاء الإنسان جاهلًا عبر المعرفة والتعليم. الجهل ليس نقيض العلم. مجرد تحميل الإنسان بالمعلومات والمعرفة لا يجعله عالمًا. إمداده بالمعلومات لا ينقذه من الجهل. نحن نعيش في زمن الوصول السريع للمعلومات، لكننا نبقى بلا علم في هذا البحر من المعلومات.
حسنا، ما الحل؟ الحل هو الفرقان. نحتاج إلى الفرقان مع القرآن. الفرقان هو القدرة على التمييز بين المعلومات الصحيحة والخاطئة. يعني امتلاك منهجية تميز بين الصحيح والخطأ، ورؤية أكثر شمولية.
في الحقيقة، أعظم ثورة للقرآن كانت عبر المفاهيم. القرآن حول اللغة العربية من لغة تعبر عن الصحراء والجمل والتمر والحجاز، إلى لغة تشمل جميع العوالم. جميع اللغات التي يستخدمها المسلمون (التركية، الفارسية، الأردية، الملايوية) خضعت لثورة لغوية. في عالم اليوم، يكاد لا يوجد مفهوم لم يتعرض لسوء الفهم. الأمثلة التي ذكرتموها على وجه الخصوص، وعلى سبيل المثال “الجهاد”، هو مفهوم فقدنا القدرة على تعريفه. إما حُصر في جهاد النفس في زاوية ما، أو اختزل في قتال مسلح فقد منهجيته. “الاجتهاد” لم يعد حركة عقل جماعي تجدد الفكر الإسلامي باستمرار، بل اختزل في بعض استنباطات الفقهاء في القرون الأولى. “السنة” لم تعد تمثل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع مراحل الحياة، بل اختزلت في بعض الحركات الشكلية. “العقل” لم يعد مصدرًا للمعرفة يستقبل الوحي وينظم معه الدين والدنيا، بل دُفع إلى موقع مضاد للوحي. “الوحي” لم يعد ذلك الدليل الإلهي الذي يخرج البشرية من الظلمات إلى النور، بل بدأ يُفهم كمصدر إلهام في جوانب معينة من الحياة نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكننا تكثيف هذه الأمثلة.
أجد بعض النقاشات حول مجموعة المفاهيم الأساسية للإسلام بلا معنى، وبعضها مثمر. لا أوافق على تغيير المفاهيم التي تم الاتفاق عليها عبر العصور، بالخروج عن الأصول. لكني أعتقد أن لكل مفهوم تفسيرات مختلفة تناسب كل عصر. على سبيل المثال، المفهوم الأساسي في الإسلام هو التوحيد. إذا قارنا بين ثلاثة كتب عن التوحيد كُتبت في عصور مختلفة، سنرى كيف تغيرت المفاهيم الأساسية: كتاب التوحيد للإمام الماتريدي، وكتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، وكتاب التوحيد لإسماعيل الفاروقي. عند مقارنة هذه الكتب الثلاثة، فإن ما أقصده سيكون أكثر وضوحا. الأول كان مصدرًا لعلم الكلام الإسلامي، والثاني كان مصدرًا لأيديولوجية سلفية، والثالث يشرح لنا حضارة التوحيد ويتناول رؤية التوحيد للعالم.
السؤال الثالث: طوال التاريخ، قامت الحضارة الإسلامية بإجراء توليفات مع ثقافات مختلفة (اليونانية، الهندية، الفارسية). في عصر العولمة اليوم، انفتاح العالم الإسلامي على التوليف الثقافي يؤدي إلى ارتباك في العديد من القضايا، بينما انغلاقه على ذاته يؤدي إلى جمود محافظ. كيف يمكن تجاوز هذه المعضلة المستمرة منذ 200 عام؟ كيف سيتحدث الإسلام إلى إدراك العصر؟ (على سبيل المثال، رسالة الماجستير التي أعددتموها عن موسى جار الله بيجيف تناولت أفكاره الإصلاحية. كيف أثرت أفكار بيجيف في نهجكم تجاه الفكر الإسلامي؟ وما الدروس التي يمكننا استخلاصها من إرثه لوقتنا الحاضر؟)
الجواب: قبل كل شيء، الإسلام لا يسجل بدايته بنزول القرآن، بل يربطها بأول إنسان وأول نبي. رسالة جميع الأنبياء مندمجة في رسالة الإسلام. يأخذ في الاعتبار كل عالم الوجود، والكون، وتاريخ البشرية. يرى الحكمة أينما وجدت كحق ضائع له. نرى هذا بوضوح في حركات الترجمة الأولى، وفي تأسيس حضارتي الأندلس وما وراء النهر. هذا يعتمد أيضًا إلى حد ما على الثقة بالنفس التي يتمتع بها المسلمون في مواجهة الحضارات الأخرى. للحديث عن تقديم الإسلام لإدراك العصر، يجب أولاً معرفة ما إذا كان إدراك العصر مغلقًا، وما إذا كان العصر قد تعرض لموت إدراكي، ومن ثم إحياء هذا الإدراك بالدرجة الأولى.
في هذا الصدد، هناك نوعان من العقل: العقل المتهم والعقل الشاهد. العقل المتهم هو الذي يرى نفسه دائمًا في مقعد الاتهام، وهو عقل دفاعي فقد ثقته بنفسه. أما العقل الشاهد فيرى نفسه -بتعبير القرآن- شاهدًا على البشرية.
أما العقل الأول، فقد أنتج أدبًا خلال القرنين الماضيين. أسميه “أدب التخلف”. يتعامل دائمًا بموقف مهزوم أمام الغرب، فيقول: “لماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟”. والعقل الشاهد أنتج أدبًا أيضًا، يمكن التعبير عنه بثلاثة مفاهيم: أدب التجديد، والإصلاح، والإحياء. هذا الأدب عانى أيضًا من تناقضات كبيرة في داخله.
موسى جار الله، الذي وصفته بالإصلاحي في سؤالك، يرفض مفهوم الإصلاح بشدة ويعيد تقييم هذا الأدب. يقول في أحد كتبه: “الإسلام لا يبلى حتى نجدده، لكن أفكارنا، ورأينا، وحتى فقهنا، وكلامنا، وأصولنا تبلى وهي بحاجة دائمة للتجديد. الإسلام لا يمرض حتى نصلحه، لكن جوهرنا، وروحنا، وحياتنا، وسلوكنا، وأخلاقنا مبتلاة بالأمراض ويجب إصلاحها أولاً. الإسلام لا يموت حتى نحييه، لكن روحنا، وإدراكنا، وجوهرنا معرض لنوع من الموت ويجب إحياؤها”.
حياة موسى جار الله التي قضاها في المنفى لمدة أربعين عامًا من إنتاج الفكر والأفكار في السبل الشاقة -إن جاز التعبير- ثم تنفيذ هذه الأفكار في أول بلد مسلم يصادفه، كرجل عمل؛ وآثاره في مسلمي روسيا، وأتراك قازان، وشبه القارة الهندية، وأفغانستان، واليابان، وتركستان، وتركيا، والعراق، وإيران، وبرلين، ومصر، هي بمثابة دليل لكل إنسان في مرحلة إنتاج الفكر. بالطبع هناك أفكار له لا أؤيدها. الحقائق الخالدة لا تُبنى على شخصيات فانية.
من هذا الجانب، أعتبر حركة التجديد التي بدأها موسى جار الله بشكل خاص، وعلماء أتراك الشمال وبشكل عام منذ القرن الثامن عشر في منطقة الفولغا-الأورال؛ مثل شهاب الدين المرجاني المعروف بابن خلدون الثاني، ورضاء الدين فخر الدين، وأبو النصر القورصاوي وغيرهم من العلماء والمفكرين الذين استمروا في هذه الحركة، أمرًا بالغ الأهمية.
السؤال الرابع: كيف تُعرِّف الأزمة الوجودية الأساسية للإنسان في عالم اليوم؟ هل يقدم الإسلام حلولاً كافية للتوتر بين نمط حياة الإنسان الحديث ومعتقداته، وبين مشاكله الفردية وعالم المعنى لديه؟ وكيف يجب تحقيق التوازن بين الإيمان والحرية، وبين الأخلاق والسياسة؟ وكيف تقيّمون النقاشات والجهود الجارية في تركيا والعالم الإسلامي في هذا السياق؟
الجواب: إن الأزمة الوجودية الأساسية للإنسان اليوم هي أزمة معنى. وأزمة المعنى هذه ولدت بدورها أزمة أخلاقية مروعة. القوة الوحيدة التي يمكنها مساعدة الإنسان على تجاوز هذه الأزمة موجودة في الإسلام. لأن الإسلام هو دين الفطرة. وفقًا للإسلام، جوهر الإنسان وحقيقته ليس في طبيعته المادية، بل في فطرته. عندما خلق الله الإنسان، وضع فيه برنامجين: نسمي أحدهما الفطرة والآخر الطبيعة. باسم “الخالق” خلق طبيعته وجعلها في جسده، وباسم “الفاطر” خلق فطرته ونقشها في روحه. الطبيعة تشمل القدرات البشرية مثل العقل والذكاء والعواطف والبصر والسمع. أما الفطرة فهي ذاكرة القيم المزروعة في روح الإنسان. لا يمكن للإنسان أن يكون سعيدًا إلا بتنشيط هذه القيم في حياته. هدف الإسلام هو جعل الإنسان كائنًا كاملًا من خلال توحيد طبيعته وفطرته.
تختلف العلاقة بين الإيمان والحرية حسب تعريفنا للحرية. هناك ثلاثة أنواع من الحرية: الحرية الجسدية والبدنية، والحرية السياسية والمدنية، والحرية الأخلاقية والضميرية.
الحرية الجسدية والبدنية هي استخدام الجسم وأعضائه كما يُراد دون أي عائق أو إكراه. هذا هو أبسط شكل من أشكال الحرية.
يُسمى الشخص الذي يتمتع بجميع الحقوق المكتسبة منذ الولادة أو بعدها بالحر، وهذا الشكل من الحرية يسمى أيضًا الحرية السياسية والمدنية. الحرية السياسية تتعلق بهذا الأمر وهي تتكون من الحقوق والصلاحيات التي تضمن الحرية المدنية.
أما الشكل الثالث للحرية فهو الحرية الأخلاقية والضميرية، أي حرية الإرادة. وهي تعني عدم خضوع الإنسان لرغبات نفسه. حرية الفكر والضمير والحرية العقلية ليست سوى حرية الإرادة. باختصار، لا توجد حرية سياسية ومدنية بدون حرية أخلاقية وضميرية. وبدون هذين، لا توجد حرية جسدية وبدنية. لذلك هناك العديد من الأشخاص الذين يعتقدون أنهم أحرار في الشوارع والأزقة، لكنهم في الواقع ليسوا أحرارًا. وهناك أيضًا العديد من الأشخاص في السجون، لكنهم في الواقع أحرار. هل هناك إنسان حر بقدر النبي يوسف رغم إقامته في السجن؟ وهل هناك كائن مستعبد بقدر فرعون رغم إقامته في القصر؟
وبالتالي، تأتي حرية الإرادة في مقدمة جميع الحريات. لأن جميع الحريات تحتاج إلى إرادة حرة وقوية لحمايتها. هذه هي الطريقة الأساسية لتجاوز أزمة المعنى والأزمة الأخلاقية.
أما بالنسبة لعلاقة الأخلاق بالسياسة، فهناك شيئان يجعلان السياسة ذات معنى من وجهة نظر الإسلام: وهما الأخلاق والعدالة. ويمكننا إضافة الرحمة إلى ذلك؛ لأن عدالة الإسلام هي عدالة محاطة بالرحمة. اليوم، الأخلاق بالنسبة للمسلمين ليست مسألة كمال، بل مسألة بقاء. لا يوجد عمل عام يحتاج إلى الأخلاق بقدر ما يحتاج السياسة. يمكن وصف الأزمة السياسية في العالم الإسلامي أيضًا بأنها أزمة عقل وأزمة إرادة. أزمة العقل هي أزمة صدق؛ لأن الصدق هو أعظم أخلاق العقل. وأزمة الإرادة هي أزمة أمانة؛ لأن الأمانة هي أعظم أخلاق الإرادة. فصل الدين عن العالم وفصل الدين عن السياسة هو اقتراح أيديولوجية علمانية، وهذا لا يمكن قبوله من وجهة نظر الإسلام. لكن فصل الدين عن الأخلاق يعني فصل الدين عن العالم والسياسة. علاوة على ذلك، فصل الدين عن الأخلاق هو فصل الدين عن نفسه.
السؤال الخامس: خلال فترة رئاستكم لرئاسة الشؤون الدينية، قمتم بأدوار مهمة في مراحل حرجة مثل محاولة الانقلاب في 15 يوليو. كيف تقيمون دور المؤسسات الدينية في مثل هذه الأزمات المجتمعية؟ وكيف يمكن للدين أن يكون رافعةً لتعزيز التضامن الاجتماعي؟ هلو مبادئ الإسلام في العدل والأخلاق وقيمه التوحيدية تقدم حلولاً كافية لمواجهة النزعات التقسيمية مثل الطائفية والقومية العرقية؟
الجواب: في العصر الحديث، شهدت المؤسسات الدينية تحولات كبيرة من حيث الجوهر والوظيفة. فهي تارةً تكون سببًا في التآلف، وتارةً أخرى تكون مصدرًا للانقسام. مهمة المؤسسات الدينية ليست فقط إقامة الصلاة وإدارة العبادات وتنظيم الخدمات الدينية. قبل كل شيء، لا يوجد في الإسلام طبقة رجال الدين. كل مؤمن هو رجل دينه. ولكن من أجل تنظيم الخدمات الدينية، تم اعتبار المؤسسات الدينية ضرورية. في الإسلام الأرض كلها مسجد. ويمكن أداء العبادات في كل مكان. أما الغاية من العبادات الجماعية فهي تعزيز الوحدة والتضامن. بل والأهم، إبقاء فكرة الأمة حية. هناك فرق كبير بين المجتمع والأمة. المجتمع هو تجمع يقوم على المنفعة المتبادلة والمصالح. أما الأمة فهي تجمع يقوم على قيم الإيمان والمبادئ الأخلاقية السامية.
في الرسالة التي أرسلتها لجميع موظفي رئاسة الشؤون الدينية في ليلة 15 يوليو، كان هناك جواب على سؤالك هذا. فقد قلت هناك أيضًا إن وظيفة المؤسسات الدينية ليست فقط إقامة الصلاة وإدارة العبادات. بل من واجبنا في الأوقات الصعبة للأمم أن ننشر روح الوحدة والتآلف، ونحمي الأمة من الخيانات التي تتعرض لها، ونؤسس السلام والحق والعدالة والأخوة دون أي تنازل. ولكن تحول المؤسسات الدينية إلى أداة للسياسة يحرمها من قوتها العظيمة ويجعلها عاجزة عن منع الانقسامات والاستقطابات التي أشرت إليها في سؤالك.
الإسلام دين التوحيد. هناك ارتباط وثيق بين التوحيد والوحدة. الإسلام قد حل مسألة التمييز بين اللغات والأعراق والأجناس من البداية. فقد أعلن أن التفاضل يكون فقط بالتقوى. لقد كانت العبارة الشهيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دليلًا للبشرية جمعاء: “أيها الناس، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى”. (ابن حنبل، ج 5، 411).
السؤال السادس: في عالم اليوم، خاصة في المدن الكبرى، ظهرت ظاهرة “التدين المجهول” (مرئي على وسائل التواصل الاجتماعي ولكنه منفصل عن عالمه الداخلي). هل يمكننا القول إن الجماعات الدينية لم تعد جذابة وفعالة كما كانت سابقًا للأفراد في هذا الصدد؟ وفي هذا السياق، هل تعتبرون أجهزة رئاسة الشؤون الدينية وكليات الإلهيات كافية فيما يتعلق بفهم الدين والتعليم والحلول؟
الجواب: يمكن للفرد أو الشاب بناء حياته الدينية والروحية بطريقتين: الأولى من خلال قيم الهوية، أي الانتماء الاجتماعي عبر العائلة أو المسجد أو الجماعة أو الانتساب إلى طريقة ما، والثانية من خلال قيم الذات والشخصية، أي عبر القراءة والبحث واختيار مصادر المعرفة الدينية بنفسه، وخبرة الحياة العملية. بعبارة أخرى، يبني الإنسان أو الشاب حياته الروحية إما من خلال الجماعة والتواصل الاجتماعي، أو من خلال الجهود الفردية. في الحقيقة، كلا الطريقتين مقترحتان في ديننا. فهناك رحلة روحية من الهوية إلى الذات، وهناك أيضًا عملية روحية من الذات والشخصية إلى الهوية.
للانتقال من الهوية إلى الذات، يحتاج المرء إلى الانخراط في الجماعة والتواصل الاجتماعي، وهذا يتطلب انتماءً مجتمعيًا وأمميًا. أما للانتقال من الذات إلى الهوية، فيحتاج الفرد إلى بناء روحانيته مباشرة. يبدو أن التغيرات التي تحيط بالشباب تدفعهم نحو هذا المسار الثاني، وهو ما أسميه “الروحانية الفردية”.
يريد الشباب اليوم بناء روحانيتهم الفردية، لكنهم لا يستطيعون فعل ذلك بمفردهم. هنا يواجه الشباب مشكلتين: الأولى هي ضعف قدرة المؤسسات الاجتماعية مثل الأسرة والمسجد والمدرسة والطرق والجماعات والجمعيات والأوقاف على تلبية حاجات الشباب في بناء روحانيتهم الفردية، مما يؤدي إلى عدم رغبتهم في بناء روحانيتهم عبر التواصل الاجتماعي. الثانية هي ضعف أو حتى انعدام الآليات التي تساعدهم على بناء روحانيتهم الفردية. هذا الوضع يؤدي إلى حالة من البحث والتيه، تدفع الشباب إما إلى أحضان بعض علماء الدين الذين يعانون من أزمة دينية، أو إلى اتباع بعض الشخصيات الدينية التي تروج لخطابات دينية متطرفة وتغذي أزمات كاريكاتورية، أو إلى أن يصبحوا مستهلكين لصناعة التنمية الشخصية العلمانية، أو -كما هو الحال مع بعض الشباب في الغرب- إلى الوقوع في شباك حركات تتبنى العنف مثل داعش.
هذا الوضع يخلق أزمة أمن روحي. ما أعنيه بأزمة الأمن الروحي هو أزمة معنى تظهر في المجتمعات، أزمة ثقة، أزمة شك في القيم الروحية، وتشكيك في الثوابت الدينية والمبادئ البديهية والحقائق الراسخة. تحويل المجال الروحي إلى مادة للنميمة، وساحة للصراع والخلافات. تحويله إلى أداة لأيديولوجية وتقسيم، وكره وعداوة، مما يؤدي إلى إفراغ المجال الروحي من قيمته. وكذلك تآكل قدسية وبراءة المجال الروحي، وخاصة الدين، وإزالة صفته التوحيدية. هذه في الأساس مسألة أخلاقية. تكفير الناس أو تحريض بعضهم ضد بعض باسم التربية الروحية هو أزمة أمن روحي. وبالمثل، فإن تآكل كل هذه القيم التي نمتلكها، والعبث بضوابط حساسياتنا، مما يخلق جروحًا لا تندمل في روحانيتنا، هو أيضًا أزمة أمن روحي. وبناءً عليه، فإن المؤسسات الدينية الرسمية والمدنية، وكذلك كليات الدراسات الدينية العليا التي تنتج المعرفة الدينية، يجب أن تعيد النظر في نفسها في هذا الصدد.
السؤال السابع: في كتابكم “بحث الشباب عن المعنى”، أشرتم إلى الفراغ الروحي لدى الشباب في العالم الحديث. كيف يجب أن نوجه الشباب في مواجهة الفردانية وثقافة الاستهلاك في العصر الرقمي؟ يستخدم الجيل الجديد مصادر مثل وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى المعرفة الدينية، مما يؤدي إلى تلوث معرفي وارتباك لديهم. من ناحية أخرى، يقال إن الدين والتدين يفقدان جاذبيتهما تدريجياً لدى الشباب، حيث تظهر أزمة تُوصف بمفاهيم مثل الربوبية والإلحاد والعدمية، تشير في الواقع إلى اللامبالاة تجاه الدين والقيم الدينية. هل تتفقون مع هذا الرأي؟ وكيف يمكن للإسلام أن يقدم إجابة لبحث الشباب المعاصر عن المعنى؟
الجواب: من المؤكد أننا نشهد تحولات كبيرة في جميع المجالات تقريباً فيما يتعلق بالشباب. ومن الواضح أن علاقة الشباب بالدين وصلت إلى نقطة تحول جديدة. ولكن هل الشباب يبتعدون حقاً عن الدين؟ إذا كانوا يبتعدون، فهل يتحول هذا “الابتعاد” إلى قطيعة؟ وإذا تحول، فبأي أساس يمكننا تأكيد ذلك؟ هل تؤدي هذه القطيعة المفترضة، كما يُزعم على نطاق واسع في السنوات الأخيرة، إلى الربوبية أو الإلحاد أو اللاأدرية؟ علاوة على ذلك، هل تتحول إلى عداء للإسلام بدافع الإسلاموفوبيا؟ أم أنه على العكس من ذلك كله، في عالمنا الذي تهيمن عليه أزمات المعنى، هل يمكن اعتبار هذا بمثابة بحث الشباب عن المعنى؟ أو هل يمكن اعتبار هذا التحول بمثابة عملية تساؤل وتشكيك؟ بل هل يمكن لهذه الأسئلة والتشكيكات أن تقود الشباب إلى إيمان تحقيقي؟ والأهم من ذلك، هل يمكن تحويل هذه الأسئلة والتشكيكات لدى الشباب إلى رحمة؟ إذا كان ذلك ممكناً، فما هي السبل والمناهج والأساليب لتحقيق ذلك؟ نحن نفتقر إلى بيانات مستندة إلى أبحاث شاملة يمكن أن تجيب بوضوح على هذه الأسئلة. يمكنني الإجابة على هذه الأسئلة بناءً على عدد محدود من الدراسات الكمية والنوعية المتاحة لدي، وبعض رسائل الماجستير والدكتوراه التي أُنجزت، وخبراتي الشخصية سواء في مهامي الرسمية أو في إطار أعمال معهدنا، ولقاءاتي مع الشباب، ومحادثاتي معهم، وكشخص يتلقى أسئلة الشباب الصعبة، أن أقول بضع كلمات.
في الواقع، الجزء الأكبر من مشكلة علاقة الشباب بالدين يتعلق بنا نحن الكبار. يتعلق الأمر بالعالم الذي أعددناه لهم. يتعلق الأمر بأنظمة التربية الخاطئة والناقصة ونظام التعليم. يتعلق الأمر بنظام الأسرة وسلوكيات الوالدين الخاطئة. يتعلق الأمر بنا نحن المعلمين والمدرسين. يتعلق الأمر بفقدان الأشخاص الذين يجب أن يكونوا قدوة لدورهم الريادي. ربما تكون أكبر مشكلة هي أننا لم نكن ناجحين في هذا الصدد مثل آبائنا. لم نكن مخلصين ومتفانين مثل الجيل السابق في نقل معتقداتنا وقيمنا إلى الجيل التالي. في النهاية، بغض النظر عن السبب، في جميع الأحوال، لا أعتبر التغيرات والتحولات التي نمر بها في سياق الشباب والدين بمثابة ابتعاد عن الدين أو قطيعة معه، أو موجة من الربوبية أو الإلحاد أو اللاأدرية، أو انتصار للإلحاد الفلسفي الذي حدث في بداية القرن. أنا أنظر إلى هذا على أنه بحث جديد عن المعنى من قبل الشباب، وعملية تشكيك وتساؤل جديدة. لكن عندما لا يجدون إجابات على هذه الأسئلة، أعتبرها برودة وعدم اكتراث، ومحاولة لحل أزمة المعنى والتغلب على الأزمة الروحية. أرى هذه الأسئلة والتشكيكات على أنها اعتراضات جديدة على فهمنا للدين وبعض خطاباتنا وممارساتنا الناتجة عنه. كما ذكرت في السؤال السابق، ربما يكون الاتجاه نحو الانفصال عن الروحانية المجتمعية بمثابة محاولة لبناء الروحانية الفردية أو أزمة ناتجة عن عدم القدرة على تحقيق ذلك.
السؤال الثامن: تحدثتم عن هيمنة “الإدراك البصري” على الوعي الحديث. كيف يمكن للتعاليم الإسلامية أن تعيد التوازن بين إدراك القلب والعقل في عالم يركز على الشاشات؟ وما الإطار الذي يمكن أن تقدمه الأخلاق الإسلامية للمعضلات الأخلاقية التي تطرحها تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية؟
الجواب: يمكننا القول إن حضارة جديدة تسمى “حضارة الشاشة الافتراضية” قد نشأت وتغلغلت في البشرية. بلا شك، لا يمكننا إنكار الفوائد التي جلبتها هذه الحضارة للبشرية مثل تسهيل الوصول إلى المعلومات وزيادة فرص التواصل. ولكن لهذه الحضارة “ما تأخذه” بقدر “ما تقدمه”. لأن هذه الحضارة تحول جميع أفرادها إلى مشاهدين سلبيين. نقطة الانطلاق الكبرى لهذه الحضارة ليست العقل؛ بل العين. وفعلها الأكبر ليس التفكير؛ بل النظر. ليس المراقبة؛ بل المشاهدة. العين في هذه الحضارة تتحول من أداة تأمل ومراقبة إلى أداة رغبة وشهوة. وللأسف هذا يولد الأنانية وعدم الاكتفاء واللامبالاة والعنف. في هذه الحضارة، يبني الإنسان علاقته مع نفسه ومع الآخر ومع الكون ليس عبر الحقيقة؛ بل عبر الصورة والمظهر. هذه الحضارة تجعل الإدراك البصري مسيطراً على حياة الإنسان. هيمنة الإدراك البصري تضعف إدراك العقل، وتجعل إدراك القلب يواجه نوعاً من الموت. عندما يسود الإدراك البصري، يصبح الإنسان قادراً على إدراك كل حقيقة عبر الصورة. بهذا الإدراك الناقص، يصبح من شبه المستحيل للإنسان أن يعرف ربه، ويؤمن به، ويؤسس علاقته معه. الإدراك البصري يحول الأخلاق أيضاً. علاوة على ذلك، هيمنة الإدراك البصري تعرض الإنسان لـ”موت الإدراك”. أكبر خطر يواجهه الإنسان اليوم، أكبر موت، هو موت الإدراك.
أود أولاً أن أوضح أننا لا نستطيع مقاومة هيمنة الإدراك البصري بلغة دينية مبنية فقط على الثواب والعقاب، والأمر والنهي، والحلال والحرام. لا نستطيع إنهاء هذه الهيمنة بأوامر ونواهي مجردة. ولا نستطيع الوقوف ضد هيمنة الإدراك البصري بفهم لا يرى الأخلاق كعقل للأحكام. ولا نستطيع التغلب على هذا بنظام أخلاقي فقد فلسفة القيم، واختلت فيه هرمية القيم، واختلطت فيه القيم الغائية بالوسيلية. ولا نستطيع مقاومة هيمنة الإدراك البصري بلغة دينية خاضعة للإدراك البصري. ولا نستطيع حل هذه المشكلة بالوعاظ الرقميين والجماعات الافتراضية التي تنتجها هذه الصناعة.
في دراساتي، أقترح نوعين من الأخلاق لمقاومة هذا: أخلاق الإرادة وأخلاق الحياء. أخلاق الإرادة، كما ذكرت سابقاً، هي الحرية الحقيقية. والحياء في أخلاق الحياء ليس مجرد شعور بسيط بالخجل. أخلاق الحياء هي أخلاق حياة. يمكننا سرد المبادئ الأساسية والأهداف لهذه الأخلاق على النحو التالي:
البحث عن سبل العودة من مجتمع الصورة والاستعراض إلى مجتمع المعرفة والفكر والتأمل؛ تحرير الإنسان من هيمنة الإدراك البصري وتوجيهه نحو الإدراك الكلي؛ إثبات أن صورة الشيء ليست حقيقته؛ تحويل غاية عملية النظر من المتعة واللذة إلى الفهم والاعتبار؛ تغيير طريقة النظر والرؤية؛ تحويل النظر من فعل العين إلى تأمل يصاحبه العقل، وبصيرة يصاحبها القلب؛ رفع المشاهد إلى مستوى المراقب، والمتفرج إلى مستوى الشاهد؛ الفصل بين المشاهدة المجردة والمراقبة؛ رفع المتلصص الذي سقط في حالة التلصص والسعي وراء الفضول بطرق غير أخلاقية، إلى مقام الشهادة، أي تحقيقه لأخلاق مثالية؛ رفع المستعرض الذي يظن أن عرض نفسه براعة، إلى مقام المشهود، أي توعيته بأنه مراقب من قبل خالقه في كل لحظة؛ توجيه النظرة المادية إلى النظرة الأسمائية. النظرة المادية هي نظرة مادية، نظرة ملكية. ترى الشيء مجرد شيء. لا ترى الأسماء السامية التي يحملها الشيء. أما النظرة الأسمائية فهي نظرة روحانية، نظرة ملكوتية. ترى الأسماء التي يحملها الشيء؛ بل بالأحرى، النظرة الأسمائية ترى الشيء كعلامات، والعلامات كآيات، والآيات كأمانات. صاحب النظرة المادية لا يعرف الحياء ولا يستحي. يرى الشيء ملكاً له. يريد أن يمتلك ما يراه. أما صاحب النظرة الأسمائية فيستحي بتذكر الأسماء التي يحملها الشيء ومالك الأسماء السامية.
السؤال التاسع: في سياق التجديد الإسلامي، هل تعتقد أن قضايا الجماليات والفنون قد أُهملت في المجتمعات الإسلامية؟ كيف يمكن إحياء الجماليات الإسلامية اليوم؟ هل من الممكن تصور مجتمع مسلم جديد يميز بين التدين الحضري والتدين الريفي، ويستوعب إمكانيات الحياة العصرية؟ بأي أدوات وعلى أي أرضية يمكن تحقيق ذلك؟ ما الذي يجب أن تقدمه الجماعات المدنية والمؤسسات التعليمية والقطاع العام في هذا الصدد، وما الرؤية والاستراتيجية التي يجب اتباعها؟
الجواب: موقعنا اليوم في مجال الفنون الإسلامية، بل وفي مجال الفنون والجماليات بشكل عام، يحتاج إلى مساءلة جذرية وتفسير عميق. إن حضارةً أبدعت أعمالًا راقية ورفيعة في معظم مجالات الفن — من العمارة إلى الموسيقى، ومن الأدب إلى الإيبرو، والخط والمنمنمات — ووَضعت الجماليات في صدارة تمثيلها الثقافي، تستدعي كثيرًا من النقد لما تُنتجه من أعمال اليوم. كما هو الحال في جميع المجالات تقريبًا، فإن المصدر الوحيد لوجهات النظر الأساسية للمسلمين في مجال الفن هو الإسلام. إن التركيبات التي يستخدمها الله سبحانه وتعالى عند التعبير عن وجوده وذاته، تعبّر عن أن كل الموجودات قد خُلقت “في أحسن تقويم”، وهذا يُعدّ انعكاسًا لحُسن توجّه صفات القدرة والجمال الإلهية.
بالمناسبة، أود أن أشير إلى الفرق الأساسي بين مفهوم “الحُسن” ومفهوم “الإستطيقا” (aistesis). الحُسن يعني الجميل، والصحيح، والخير. أما الإستطيقا فتعني فقط الإحساس والإدراك. في الأول هناك إمكانية للجمال المستقل عن الإحساس، بينما في الثاني يرتبط الجمال حصريًا بالإحساس. في الإستطيقا، الجمال بدون إنسان، بدون إدراك، لا معنى له. أو بتعبير أكثر وضوحًا، الجمال يظهر ويتحقق ويوجد فقط بوجود الشخص الذي يرى الجمال، أي الإنسان. أما في مفهوم الحُسن، فإن الجمال دائمًا خير، سواء عرفه الإنسان أم لا، رآه أم لا، وحتى لو لم يكن موجودًا هناك.
التجوال في أشكال الفن العليا يعبر قبل كل شيء عن الانفتاح الكامل على الحكمة الإلهية، وعدم النظر إلى الكون من منظور سطحي فقط، بل عن الرغبة والجهد لفهم عمقه وجوهره. من خلال صفتي الجمال والبديع، يكشف لنا الله تعالى أعمق معاني الوجود. لا شك أن كل اسم من الأسماء الحسنى التسعة والتسعين، التي تعرف بأسماء الله الحسنى، يعبر في الواقع عن الاعتدال، والتوازن، والواقع المتناغم والمهذب، وجوانب مختلفة من الإرادة الإلهية التي لا ينبغي تجاهلها عند تشكيل الحياة.
في الفنون الإسلامية، الإطار الرئيسي يوضح كيف تتجسد مشاعر الجمال في الفنون المادية، وكيف تتجذر في اللغة والأدب. الهياكل الفنية التي يبرزها العالم الإسلامي دون إهمال عوالمه المحلية تعكس في الواقع تصورات تلك المجتمعات عن الله والحضارة. يقال إن فتح إسطنبول يجب البحث عنه في قباب سنان أكثر من مدافع محمد الفاتح. في الواقع، اليوم أمام هذا الإرث العظيم الذي يُنظر إليه على أنه ديكور تاريخي، عندما ندرس منتجاتنا الفنية، لا يمكننا إلا أن نرى الحب الكامن في كل منها، ومشاعر تجاوز الواقع، والرغبة في التقرب من الوجود الإلهي.
في كل مرة نتحدث فيها عن الذكريات العظيمة، والإرث المرموق، فإن السؤال الذي ينتظرنا حتمًا هو: لماذا لم نعد ننتج كل هذا بنفس النقاء والمضمون؟ الوضع الفوضوي الذي وقعت فيه أمة تمكنت عبر التاريخ من الحفاظ على مهارات بناء الحضارة في سياقات مختلفة، يستسلم اليوم لخطاب أكثر جمودًا من كونه تنمويًا، وأكثر عرضًا من كونه ثريًا بالمحتوى.
الفن الإسلامي يشير إلى كتالوج يُنتج بعين القلب ويُدرك بنظرة العبرة. العمق الإسلامي يتجلى في منتجات اللغة والثقافة والفعل المنتجة في إطار الخير والجمال والصواب في مختلف مجالات الحياة. اليوم، الروحانية التي تُعبر عنها من خلال مسجد في العمارة، لا يمكن تحقيقها إلا بجهد فني. المشاعر المتجسدة في تكبيرات عطري أو في سليمية سنان تُظهر دائمًا تجليات فنية لمشاعر تركز على الله. في الواقع، الفارابي لم يكن مخطئًا عندما بحث عن توازن المجتمع في الموسيقى. ذلك التوازن الدقيق بين إيقاع الموسيقى وإيقاع المجتمع قد اختل اليوم. نماذج العمارة المشوهة، والبحث الفني المستسلم للأهواء التي تُغري النفس، والأعمال الضخمة التي تدعو إلى الفوضى أكثر من الهدوء… يجب مناقشة هذه الأمور. المشكلة كبيرة لدرجة أننا نواجه اليوم تدفقًا سيئًا من المشاحنات التي لا تتجاوز الإيذاء وكسر القلوب، والتي يمكنها في أي لحظة تحويل أي مناقشة أو نقاش عادي إلى وضع توتر جديد. لم نعد نخمد حربًا ببراعة الكلام، بل نُشعل في كل مرة فتيل معركة أو صراع جديد بما يسمى ببراعة الجدل.
إن إنشاء روابط فريدة مع ما هو إلهي في مختلف مجالات الفن، ونيل شرف النظر بعينيه، هي من الخصائص الأساسية للفن الإسلامي.
السؤال العاشر: في إحدى خطاباتكم، قارنتم بين غزة وغرناطة، وأشرتم إلى لامبالاة العالم الإسلامي تجاه القضية الفلسطينية. ما هي الأسباب الجذرية لعدم قدرة العالم الإسلامي على تحقيق الوحدة في مثل هذه الأزمات؟ كيف يمكن إثارة صحوة فكرية في هذا الصدد؟
الجواب: بينما أشاهد مآسي غزة، حيث تجري أكبر عمليات الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث، كإنسان وكمسلم، سألت نفسي كما يسأل الجميع: لماذا لا يستطيع مليارا مسلم إنقاذ مليوني أخ لهم؟ السؤال نفسه قادني حتمًا إلى سقوط حضارة الأندلس التي دامت ثمانية قرون. وجعلني أفكر في سبب عدم استجابة العالم الإسلامي آنذاك لصرخات مسلمي غرناطة، آخر معاقل الأندلس، تمامًا كما هو الحال اليوم مع غزة.
ورأيت أن التاريخ يعيد نفسه. كما أن الانقسام والتشرذم والخيانات الداخلية حرمت المسلمين آنذاك من هذه المسؤولية، فإننا اليوم نحرم منها بنفس الطريقة. إسطنبول آنذاك، والدولة العثمانية، تذرعت بضعف قواتها البحرية، بينما ترى إسطنبول اليوم نقصًا في دفاعاتها الجوية. دول شمال إفريقيا آنذاك لم تكن منقسمة فقط فيما بينها، بل تعاونت مع العدو. اليوم، الدول النفطية الصغيرة تربط وجودها بدعم الظالمين. زيارات ترامب لجمع الجزية أصابتنا جميعًا بالذهول، حيث جرت في ظل المذابح المتواصلة. إيران الصفوية آنذاك كانت في خلاف مع العثمانيين؛ وإيران اليوم للأسف تلعب دورًا في الصراعات الطائفية في العراق وسوريا واليمن. التشابه بين جم سلطان، الذي وقع أسيرًا لدى روما حينها، وقيادات اليوم التي أسرتها كراسي السلطة، يظهر مرة أخرى مدى قساوة تكرار التاريخ.
بالتأكيد، الصحوة الفكرية مهمة دائمًا. لكن غزة أظهرت أننا اليوم بحاجة إلى صحوة إنسانية وضميرية وأخلاقية تحقق لنا الحرية الحقيقية والاستقلال في الفكر والعقل.
السؤال الحادي عشر: أظهرت الثورة السورية والمقاومة في غزة أن الإسلام لا يزال القوة الحيوية الوحيدة المقاومة للأنظمة الظالمة. في الغرب على وجه الخصوص، خرج الملايين من مختلف الأديان والآراء في احتجاجات لسنوات لدعم غزة، وقاوموا حكامهم. هل يمكن لهذا الضمير العالمي أن يتحول إلى جبهة عدالة ورحمة عالمية تتجاوز الأديان المؤسسية؟ وفي مواجهة السياسات الحربية والفساد للقوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تهدد العالم والبشرية جمعاء، هل يمكن تنظيم جبهة إنسانية عالمية جديدة تستند إلى هذا الضمير والأساس الإبراهيمي الحنيف؟ وما الدور الذي يمكن أن يلعبه العالم الإسلامي والحركات الإسلامية في هذا الصدد؟
الجواب: خسرت البشرية الكثير في هذه المرحلة، لكنها حققت أيضًا مكاسب مهمة. لأن هذه الدولة أو الدول لم ترتكب الإرهاب والوحشية والجرائم فقط في غزة وبيروت، بل أيضًا في عقول وقلوب وأرواح جميع البشر. هذه المرة، لم تحرق النار المكان الذي اشتعلت فيه فقط، بل أحرقت أيضًا كل العقول والقلوب التي شهدت الأحداث. خلال هذه المرحلة، شهدت البشرية جمعاء الوحشية التي حدثت. جميع الأمهات والنساء شهدن صرخات أمهات ونساء غزة التي وصلت عنان السماء. جميع أطفال العالم شهدوا جثث الأطفال التي جُمعت من زوايا المدارس والمستشفيات ودور الأيتام ومخيمات اللاجئين في غزة.
ولهذا السبب، أظهرت لنا غزة كيف يمكن لأصحاب الضمير أن يتحدوا على القيم التي تجعل الإنسان إنسانًا، بغض النظر عن اللغة أو الدين. خلال هذا العام، رأينا كيف أن بعض الأصوات من أوروبا وأمريكا الشمالية واللاتينية وبقية العالم كانت مطابقة تمامًا لأصواتنا. هؤلاء الأشخاص ليسوا مسلمين، ولا ينظرون إلى القضية من منظورنا، لكنهم رأوا نفس الوحشية، ونفس الظلم، ونفس الأكاذيب. على سبيل المثال، بعض السياسيين الأيرلنديين والإسبان، وبعض صناع المحتوى الرومانيين، والمحامون الفرنسيون الذين قدموا شكوى ضد إسرائيل في المحكمة، والكاثوليك الإسبان والأيرلنديون الذين يرون أنفسهم ضحايا للنظام العالمي، وحتى العديد من الشباب الأمريكي، صرخوا بهذا الظلم للعالم أجمع.
شهدت هذه المرحلة صرخات شباب أصحاب ضمير قريب من الفطرة، حيث رفعوا أصواتهم ضد الظلم في الجامعات وحرم الجامعات. صرخت طالبة أمريكية خلال مشاركتها في مظاهرة سلمية: “نحن نعلم أن قادتنا لن يفعلوا شيئًا ضد إسرائيل. لذلك يجب أن نكون نحن من يفعل ذلك”. ابنتنا البالغة من العمر 26 عامًا، عائشة نور إزغي إيغي، التي كانت تدرس في الولايات المتحدة، استشهدت بطريقة غادرة في الضفة الغربية بعد أن استمعت إلى صوت ضميرها.
في الأوساط الغربية على وجه الخصوص، تحرك أشخاص لم ينالوا بعد شرف اعتناق الإسلام بالقول والقلب، ولكن ضمائرهم كانت حية. ظهر أشخاص أصحاب ضمير لدرجة أنهم كانوا على استعداد لحرق أنفسهم أمام مجلس الشيوخ الذي صفق للقاتل نتنياهو. كان هناك العديد من الأشخاص، الذين وقفوا في صف الحقيقة، مثل العالم الكندي الشهير الذي قال: “أقسم أن هؤلاء سيتسببون في موتنا من الخجل. سيجعلوننا ندمر أنفسنا من الخجل”.
حدث تطور ملهم بشكل خاص في تاريخ البشرية. عندما قدمت حكومة جنوب إفريقيا، المكونة من ضحايا الفصل العنصري، مسيحيين ومسلمين وسود، بجرأة وثقة عالية، قضية الإبادة الجماعية إلى محكمة العدل الدولية، ليصبح هذا مشهدًا عظيمًا للعبرة لكل البشرية. كان هذا بمثابة شرارة لمستوى جديد تطالب من خلاله الشعوب التي كانت مستعمرة سابقًا بحقوقها، وذلك بفضل الفكرة ما بعد الاستعمارية. بلا شك، كان هذا الوضع خسارة لإسرائيل وحلفائها، لكنه كان مكسبًا عظيمًا للبشرية.
وزيرة الخارجية الجنوب إفريقية ناليدي باندور (مسلمة، امرأة، محجبة، من السود)، صرحت أن بلادها تلقت تهديدات من أمريكا بسبب القضية التي رفعتها في لاهاي، ونقلت عن بعض السياسيين الأمريكيين قولهم إنه “إذا سمحنا بحدوث هذا لإسرائيل، فإن الدور سيأتي إلينا”، ثم قالت بثقة عالية هذه الجملة التاريخية التي تظهر كيف أصبحت غزة نقطة تحول وغيرت الأمور: “نعم، حتما سيأتي الدور إليكم أيضا”.
لكن هذا الضمير لم يتمكن من منع الشر المطلق بما يكفي لضمان قدم الدور إليهم أيضًا. ومع ذلك، أصبح شعلة أمل جديدة للبشرية. أعتقد أنه من الجدير بالتفكير والنقد الذاتي أن العالم الإسلامي والحركات الإسلامية في هذا الصدد تحركت بشكل منفصل بدلاً من التحرك مع الضمير الإنساني المستيقظ. علاوة على ذلك، خلال هذا العام، انقسم المسلمون إلى ثلاث فئات: 1. أولئك الذين وقفوا في صف الشر، 2. أولئك الذين صمتوا وحاولوا التأقلم مع الوضع، 3. أولئك الذين تحدثوا وحافظوا على القضية في الأجندة وقصروا جهودهم على إرسال المساعدات الإنسانية.
خلال هذه المرحلة، تعمقت الهوة بين الشعوب والحكام في ديار الإسلام. انتظرت المجتمعات المسلمة وتأملت أن تفعل السياسة شيئًا قبل أن تتحرك بنفسها. ظهرت شعوب تنتظر كل شيء من الحكام، وحكام يكتمون صوت شعوبهم، ودول تنتظر تدخل القوى العظمى. ومع ذلك، أود أن أذكر مرة أخرى أننا لا نستطيع تحميل كل اللوم والمسؤولية على الحكومات، ولا يمكننا قضاء وقتنا في الشكوى من الخيانات ولعن الخونة.
كل مؤمن ملزم بأن يكون على وعي بمسؤوليته أمام الله والتي لا يمكنه تحميلها للآخرين، وأن يفي بمتطلباتها. وفي يوم القيامة، لن تنقذ المبررات السياسية الواقعية أيا من السياسيين.
السؤال الثاني عشر: كيف تقيّم دور الحوار بين الأديان في مواجهة تصاعد الإسلاموفوبيا وتعزيز التفاهم المتبادل في المجتمعات الغربية؟ لقد ذكرتم أن مجموعات مثل داعش تسببت بتقديم صورة مشوهة عن الإسلام. وكيف يمكن للروايات الإسلامية الأصيلة أن تستعيد الخطاب العالمي حول الإسلام؟
الجواب: خلال الفترة من 28 إلى 30 نوفمبر 2014، وأثناء عملي في رئاسة الشؤون الدينية، زارني البابا فرانسيس وسألته: “أنت أول بابا يُنتخب من أمريكا اللاتينية. هناك انتشار للإسلاموفوبيا في جميع أنحاء العالم الغربي. بل هناك كراهية للإسلام وعداء للمسلمين آخذ في الانتشار. هل لديكم خطة أو مشروع لمنع ذلك؟”، فأجابني: “بالطبع، لدينا مشروع للحوار بين الأديان”.
فقلت له: “هذا مشروع طورته الكنيسة بعد الحرب العالمية الثانية لشرح عقيدتها. علاوة على ذلك، فإن المشروع يهدف إلى حل الخلافات بين المسيحيين أنفسهم. ولا يمكن قبول تطبيق هذا الأمر على الإسلام والمسلمين. لم تجلب أي من اجتماعات الحوار بين الأديان التي عقدت بعد التسعينيات أي فائدة. بل على العكس، أدت إلى نظرة سلبية في العالم الإسلامي. فقد أصبح مصطلح الحوار في عالمنا يحمل الكثير من الأخطاء”.
ثم سألني: “هل لديكم اقتراح؟” فأجبته: “نحتاج إلى منظور جديد وفهم جديد في ضوء المبادئ العالمية. اليوم، تحتاج البشرية إلى عقد جديد للرحمة. المكان الذي سيُوقع فيه هذا العقد هو القدس. لذلك، انطلاقًا من المراجع الإسلامية، أعددنا وثيقة بعنوان ‘معايير القدس العالمية’ التي تضع القدس في مركزها، مع الأخذ في الاعتبار تاريخ الديانات السماوية الثلاث الأخيرة، لإعلان بعض المبادئ الأساسية لأخلاقيات التعايش القائمة على احترام الإنسان والإيمان والمقدسات والفكر والثقافة والحضارة لضمير البشرية مرة أخرى. يمكننا تطوير تعاون جديد بناءً على هذا النص. دعونا ننشئ لجنة مشتركة تتعامل مع منهجية شكل جديد من العلاقات في إطار هذه المعايير. دعونا نناقش إمكانيات إيجاد حلول للمشاكل الأساسية للبشرية، مع الحفاظ على المبادئ الأصلية للأديان، والأخلاق، والإخلاص، دون إجراء مقارنة لاهوتية، ودون الوقوع في أخطاء مثل الحوار، مع بقائكم على ما أنتم عليه ونبقى نحن على ما نحن عليه. دعونا نتحدث عن الجوع والبؤس والجهل، ولنقف معًا ضد الظلم والقمع، ولنمنع انتهاكات حقوق الإنسان”.
تتكون وثيقة معايير القدس العالمية من 25 مادة تشمل العديد من المبادئ العالمية، من حرمة الحياة البشرية إلى خصوصية الحياة الخاصة، ومن الإنصاف والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص إلى الأخلاق والشفقة والرحمة، ومن إعمار الأرض القائم على الحضارة والذي يحيي ثقافة التعايش إلى احترام الهويات المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، تنص الوثيقة أيضًا على العديد من المبادئ العالمية، من الوعي بحقوق العباد في مجالات العيش المشترك إلى ثقافة المساعدة المتبادلة، ومن براءة الأطفال إلى حقوق المرأة. كما تحذر الوثيقة من العديد من المخاطر التي تدمر ثقافة التعايش وتهدد وجود البشرية، من العنف ضد المرأة إلى جميع أشكال العنف، ومن التعصب الطائفي إلى استغلال الدين.
السؤال الثالث عشر: عند النظر إلى المستقبل، ما هي رؤيتكم لـ”معهد التفكير الإسلامي” فيما يتعلق بإحياء النهضة الفكرية الإسلامية العالمية ومساهماته للإنسانية؟
الجواب: بلا شك آمالنا كبيرة؛ لكن لا يصح التعبير عن رؤية طموحة كهذه تتجاوز حدود معهد ما. ومع ذلك، يمكنني القول إننا بدأنا طريقنا ونحن ندرك جيدًا مجالات الأزمات الحضارية، وأزمات الفكر، وأزمات الأخلاق، ونعي التحديات العالمية التي نواجهها. رحلتنا العلمية والفكرية المستمرة منذ ست سنوات أثبتت أنه يمكن تحقيق الكثير عبر مؤسسة صغيرة.
شعارنا هو “إعادة تدفق النهر”. وهو يتمثل في تقديم مساهمة صغيرة لإعادة تدفق نهر الحضارة الإسلامية الذي انبثق من غار حراء في ضوء الوحي الإلهي، وسرعان ما أحاط بكل البشرية وأعطاها الحياة. دون تحريفه يمينًا أو شمالًا، أو حصره في قوالب ضيقة من العقلانية الأحادية والتأويلية الأحادية، أو إبعاده عن جوهره باسم ما يسمى “التنقية”، أو تجميده لعرقلة تدفقه، بل بجعله يتدفق في مجراه الطبيعي ليتطهر ويطهر.
في هذا الإطار، قمنا بتقييد أنفسنا بخمسة مجالات في أنشطتنا الأكاديمية وأبحاثنا، وهي: الأصول والمنهجية في الفكر الإسلامي، والأصول في العلوم الإسلامية، ووحدة العلوم في الفكر الإسلامي، والمقاصد باعتبارها أصلا وعلما مستقلا، والأخلاق والجماليات.
ولدينا خمسة شعارات أخرى، هي: التجديد في الفكر، والإحياء في العلم، والتوحيد في العلوم، والإصلاح في الأصول، وإعادة البناء في الأخلاق.
ما نعنيه بالتجديد في الفكر هو إحياء وتفعيل تقاليد الابتكار والبناء لدى أسلافنا، بدلاً من استمرار أنماط التفكير كما هي أو بتجميلها. هذا ليس تجديدا للدين، بل هو تجديد للفكر. وإعادة تأسيس العلاقة بين التجديد والاجتهاد.
ما نعنيه بالإحياء في العلم هو إحياء العلوم الإسلامية المستندة إلى الوحي. أي أن يخاطب كل علم إنسان اليوم ليمنح الاستمرارية للحضارة الإسلامية. وضمان إعادة بناء فقه اليوم وكلام اليوم. ومنح الاستمرارية لهذه العلوم دون فقدان تقاليدها.
ما نعنيه بالتوحيد في العلوم هو إعادة بناء العلاقة بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية وعلوم الوجود والطبيعة. وتجنب تصنيف العلوم إلى علوم دينية وغير دينية، أو علوم شرعية وغير شرعية. والقدرة على النظر إلى العلوم من منظور فكرة التوحيد.
ما نعنيه بالإصلاح في الأصول هو منهجية شاملة جديدة. ويتمثل في إنتاج المعرفة والفكر بمنهجية شاملة توحد بين التكوين والتنزيل، والعقل والنقل، والعالمي والمحلي، والثابت والمتغير، والقديم والجديد.
أما ما نعنيه بإعادة البناء في الأخلاق، فهو إعادة النظر في الأخلاق ليس فقط كعلم للسلوك، بل كمسألة وجودية للبقاء، من خلال وضعها في مركز جميع العلوم. لا أقصد فقط استنباط الأحكام، بل استنباط القيم، وفصل القيم الغائية عن الوسيلية، وإعادة بناء هرمية القيم، وإعادة بناء الأخلاق كعقل للأحكام الشرعية وكمقصد للمسائل الاعتقادية.
علاقات معهدنا بشكل خاص مع المؤسسات العلمية المماثلة في المناطق التي تربطنا بها أواصر المحبة، تزيد من آمالنا. كما أن العمل الذي نقوم به مع الشباب في مرحلة الدراسات العليا في بلادنا يبعث الأمل فينا جميعًا تجاه المستقبل.
** أشكركم أستاذنا على تخصيصكم وقتًا طويلاً للإجابة بكل لطف على أسئلتنا التي تضمن كل منها العديد من التساؤلات في ثناياها.
د. غورمان: وأنا أيضًا أشكركم. أتمنى أن يبقى هذا الحوار مفيدًا ومثمرًا في عالم قرّائنا.
——————————————————————
محمد غورماز (ولد عام 1959) هو دكتور وبروفيسور مختص في علوم الحديث. عين نائبا لرئيس الشؤون الدينية في تركيا في الفترة ما بين 2003 – 2010 ثم بعد ذلك أصبح رئيسًا للشؤون الدينية عام 2010 واستمر بهذا المنصب حتى عام 2017. تخرج من جامعة أنقرة كلية الإلهيات عام 1987 ثم ذهب إلى مصر للقيام بأبحاث في جامعة القاهرة لمدة عام. حصل على درجة الماجستير في مجال الحديث عام 1990 وكانت أطروحته بعنوان “موسى جار الله بكييف: حياته، آراؤه ومؤلفاته”. نال شهادة الدكتوراه عام 1994 برسالته “إشكالية المنهج في فهم وتفسير الحديث والسنة”. كما كانت أطروحته سببًا في حصوله على الجائزة الأولى للدراسات الإسلامية والأبحاث من قبل وزارة الأوقاف عام 1995. ثم ذهب إلى إنجلترا للقيام بأبحاث ودراسات استمرت لمدة عام. درَّس في جامعة أحمد يسوي – كلية الإلهيات بدولة كازاخستان (1995-1997)، ودرَّس أيضًا بجامعة حجة تبة – كلية التربية (2001-2003). شارك في إعداد مناهج معهد الإلهيات بجامعة الأناضول. له مؤلفات عديدة منشورة، منها ما يتعلق بعلم الحديث ومنها ما يتعلق بالدين والحضارة. كما ترجم وساهم في ترجمة كتب من العربية إلى التركية أيضًا. يتقن اللغتين العربية والإنجليزية.