يروي كتاب “قرن الدكتاتوريات”، للكاتب آرثر كونتي، قصص مئات الشخصيات الدكتاتورية التي جلبت الويلات للبشرية. وقد ترجمه إلى اللغة التركية، الأستاذ إرغون غوزه، الذي توفي عام 2009. يسلط هذا الكتاب يسلط الضوء على الدراما السياسية في القرن العشرين بكل وضوح، كاشفا العديد من الأنظمة القمعية ووجوهها المظلمة وممارساتها، مثل الظلم، والذلة، والسرقات، والحماقات التي لا تصدق. كما أنه يفضح ديكتاتوريات القرن العشرين، من الألف إلى الياء، بأقنعتهم الدموية للغاية والتي كانت تبدو وسيمة في بعض الأحيان. وتعد دكتاتورية الأسد، واحدة من هذه الدكتاتوريات، وكانت من الأنظمة القليلة التي تمكنت من الحفاظ على وجودها من القرن الماضي إلى القرن الذي نعيش فيه اليوم. ومع انهيار وسقوط هذا النظام الوحشي والهمجي الذي حوّل الشرق الأوسط إلى زنزانة ضخمة، ودّعت المنطقة آخر الدكتاتوريات الكبرى.
بدأ حكم نظام الأسد في سوريا عام 1970 بعد انقلاب قام به حافظ الأسد، وتحول تدريجيًا إلى نظام قمعي بامتياز. ففي عام 1982، أمر حافظ الأسد بقتل 40 ألف شخص في حماة، وفي عام 1976، أصدر أوامر بقتل آلاف الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر. أما ابنه بشار الأسد، فقد واصل إرث والده الدموي، من خلال قتل مئات الآلاف من الناس باستخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية، دون تمييز بين النساء والأطفال. لم يقتصر نظام الظلم هذا على الإجرام والقتل الجسدي فحسب، بل حاصرت البلد بأسره حتى بات سجنا عملاقا. وكانت استراتيجية «الأسد أو نحرق البلد» تُطبق عبر قمع الشعب وحصاره، وإجباره على الهجرة. ونتيجة لذلك، تحولت البلاد إلى “مسلخ بشري” بكل معنى الكلمة. ففي بداية الثورة السورية، قال بشار الأسد لزوار من إيران والعراق ولبنان: «والدي لقنهم درسا أسكتهم ثلاثين عاماً، وأنا سألقنهم درساً لن ينسوه لمئة عام». والحقيقة أن الطاغية كان يعتبر هذه القضية دائماً صراعا طائفيا، ولم يكن مستعداً للتفاوض أو البحث عن حل وسط مع شعبه.
يعد سجن صيدنايا من أبشع رموز الظلم وأكثرها رعبا في سوريا. فهذا السجن، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بـ”المسلخ البشري”، أصبح رمزًا للتعذيب والوحشية، وترك جرحًا عميقًا في ذاكرة السوريين. وعندما فتحت أبواب صيدنايا على يد الثوار، ظهرت للعلن أهوال الوحشية التي كانت تجري داخله، ليشاهدها العالم بأسره بكل تفاصيلها وبشاعتها. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، قام نظام الأسد بممارسة التعذيب بشكل ممنهج في أكثر من 100 مركز للاعتقال في جميع أنحاء سوريا، تاركًا وراءه أماكن مليئة بالمقابر الجماعية. وتم العثور على عدد من هذه المقابر في الأراضي المحيطة بسجن صيدنايا، لتدخل تاريخ البشرية باعتبارها وصمة عار على جبين هذا النظام. وتشير الأرقام الموثقة لوحدها، أن نظام الأسد قام باعتقال ما لا يقل عن 500 ألف شخص، وأعلن “وفاة” المئات منهم في سجلاته الرسمية، إلا أن جثث هؤلاء الأشخاص ظلت مفقودة. وفي ضوء هذه الحقائق، يجب على جميع المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، أن تجري تحقيقات في سجن صيدنايا والسجون الأخرى، ويجب أن تُرفع قضايا ضد المسؤولين عن هذه الوحشية في المحاكم الدولية بأسرع وقت ممكن.
شهدت فترة حكم حافظ الأسد، ونجله بشار الأسد، بناء عشرات السجون، وتعرض أكثر من نصف سكان البلاد للقمع عبر آلة الرعب هذه. وأصبحت سوريا تحت حكم نظام مخابراتي، وانتشرت ذكريات الرعب من السجون في جميع أنحاء البلاد، ما جعل الشعب يفقد القدرة حتى على الكلام. كان الناس يخشون حتى من ذكر مفهومي الحرية والعدالة في الشوارع، أو في منازلهم. وكان الفهم السائد بينهم هو أن «الجدران لها آذان»، وهو ما قضى على ثقافة النقد في البلاد تماما. لم ينجُ من المسلخ وآلة القمع هذه أحد، فقد طالت اليساريين والليبراليين والمتدينين والديمقراطيين والشيوعيين والمسيحيين والدروز، والعلويين والسنة والأكراد والتركمان، أي جميع شرائح المجتمع. وكانت هناك قاعدة واحدة سائدة في البلاد: إما أن تطيع، أو أن تصمت.
هل قرأ أحدكم أو سمع قصة الكاتب السوري المسيحي الشهير ميشيل كيلو، عن طفل ولدته أمه في أحد سجون النظام؟ هذه القصة ليست مجرد قصة تخص سوريا فقط؛ بل إنها تلخص في نفس الوقت مأساة جميع الشعوب العربية من “المغرب إلى المشرق” والتي استمرت على مدار قرون. عندما تقرأ هذه القصة أو تستمع إليها، تشعر أن الموت والدمار الذي شهدناه في سوريا، رغم كل أبعاده المروعة، ليس أكثر رعبًا من المعاناة التي تعرض لها ذلك الطفل وأمه. كما أنك تشعر بأن ما يحدث الآن هو نتيجة طبيعية لما جرى في الماضي. وكأن الحياة تنتقم من صمت الجميع إزاء الظلم والإذلال الذي لحق بالبشر في تلك الأراضي. والمفجع أن هذا كان يحدث لشعب أهدى يومًا ما الأبجدية للعالم.
منذ استماعي لقصة ميشيل كيلو هذه، وأنا أعيش في داخلي حزنًا وخوفا لا يُوصفان. لا أستطيع أن أوقف نفسي عن التساؤل: “ماذا لو كنتُ أنا تلك الأم أو ذلك الطفل؟”. ويمكن اختصار القصة، لمن لا يعرفها، على النحو التالي: عندما كان ميشيل كيلو معتقلا في أحد سجون النظام السوري، طلب منه أحد السجانين ذات ليلة أن يروي قصة لطفل صغير في الزنزانة المجاورة. يرى كيلو أن هناك امرأة تبلغ من العمر حوالي 25 عامًا وطفلًا يبلغ من العمر حوالي 4 سنوات داخل زنزانة صغيرة مجاورة. وعلم أن المرأة كانت محتجزة كرهينة منذ ست سنوات لضمان استسلام والدها. وقد تعرضت للاغتصاب في السجن وأنجبت هذا الطفل هناك. يحاول كيلو أن يروي قصة للطفل، لكنه يعجز عن ذلك. لأن الطفل لا يعرف أبدًا أبسط التفاصيل عن الحياة خارج السجن. وعلى سبيل المثال، عندما يبدأ كيلو برواية قصة للطفل قائلا: “كان هناك عصفور..”، يسأله الطفل: “ما هو العصفور؟”. ويقول كيلو بعد هذه التجربة إنه لم يستطع يتحدث أمام ذلك المشهد. ويضيف أنه عندما دخل الحارس إلى الزنزانة فجأة وسأله عما إذا كان قد روى القصة، أجابه قائلا: “أخرجني من هنا، سأختنق”. وعندما سأل كيلو الحارس عن وضع الطفل، أخبره بأنه لم يخرج من الزنزانة قط، ولا يعرف العصفور أو الشجرة أو الشمس.
هذه ليست فقط قصة مأساوية عاشتها أم مع طفلها، بل إنها تجسد معاناة شعب كامل وما تعرض له من ظلم. تلك الأسئلة البريئة التي ترددت في زنازين سوريا المظلمة، ستترك أثراً عميقاً لا يُمحى في ذاكرة الإنسانية. هذه السجون التي انتهكت ودمرت فيها كرامة الإنسان، هي أبلغ دليل على الوحشية والمظالم التي مارسها نظام الأسد بحق شعبه.
هذا النظام هو نظام طائفي أقلوي لا نظير له في العالم. وسيطرت هذه الأقلية على البلاد من خلال الآليات العسكرية والاستخباراتية (المخابرات)، وأنشأت هيكلًا إداريًا شكليًا باستخدام بعض الشخصيات الرمزية المنتمية إلى الأغلبية والأقليات الأخرى. لكن في الواقع، كان النظام نفسه متهوراً لدرجة أنه غيّر الدستور في دقائق ليسلم البلاد من الأب إلى الابن؛ وكأن سوريا كانت مزرعتهم الخاصة. وبما أن النظام اعتمد على أقلية لا تزيد حتى عن 10 في المئة من السكان، وبعضهم كان ضده، لم يكن لديه خيار آخر؛ عسكرة الدولة وحكم الشعب بالخوف والقمع. ومع مرور الوقت، وخاصة في عهد الابن بشار الأسد، تحول النظام إلى عصابة صغيرة مكرسة لممارسة الضغط، ثم شرع في نهب موارد البلاد بحدّة وطمع مذهلين.
هناك حاجة لعشرات المجلدات من الكتب لفضح التاريخ القمعي لهذا النظام. وقد صدرت بالفعل العديد من الروايات والكتب التي تتناول هذا الموضوع، حتى أن بعض المسلسلات التلفزيونية المنتجة في نفس البلد كشفت إلى حد ما عن الجوانب الدموية والفاسدة للنظام. وفي هذا الصدد، تكشف رواية “القوقعة: يوميات متلصص”، للكاتب المسيحي السوري مصطفى خليفة، جانبًا بسيطًا مما يحدث في هذه الزنزانات. في كل صفحة من صفحات الرواية، تواجهكم مأساة كبيرة تهز أعماقكم. لكن بينما كانت هذه الروايات والأعمال الفنية تهدف إلى طمأنة الجمهور من جهة، إلا أنها تسببت من جهة أخرى في تعميق الخوف.
إن الوقوف ضد هذا النظام لم يكن مرتبطا فقط بفترة الانقسامات الطائفية التي ازدادت في أعقاب احتلال العراق. بل إن هذا الموقف يعود إلى ما قبل ذلك. لأن هذا النظام لم يكن له مثيل في العالم العربي. وكانت ثورة سوريا في جوهرها انتفاضة ضد البنية القمعية الدموية والفاسدة للنظام، أكثر من كونها تأثرًا بالسياسات الخارجية. ولهذه الأسباب كلها، ليس هناك مثيل للفرحة الكبيرة التي عمت الجميع بانهيار نظام الأسد. وهذه الفرحة لا يمكن أن تطغى عليها أصوات من يدعون المقاومة، ولا مقاربات العالقين في نظريات المؤامرة، ولا كلام من يلومون الشعب بحجة فلسطين.
في الختام، لم يكن نظام الأسد هو آخر الأنظمة العلمانية في الشرق الأوسط، ولا كان ديمقراطياً، ولا قومياً عربياً، ولا اشتراكياً، بل كان، في الواقع، أعتى الأنظمة الدموية والطاغية في تاريخ الشرق الأوسط، واستند إلى أقلية طائفية للحفاظ على سلطته، وعندما سقطت هذه الديكتاتورية التي حولت سوريا إلى سجن كبير، استفاقت جميع المجموعات الإثنية والدينية والفكرية في البلاد من نومها، ونجحت في تحطيم جدار الخوف. واليوم، مع سقوط نظام الأسد الظالم، يفتح السوريون صفحة جديدة، ويبدؤون في بث أمل جديد لسوريا مليئة بالعدالة والكرامة، وهي التي طالما حلموا بها. إذا كان سيتم بناء سوريا جديدة، فإن هذا البلد سيضمد كل جراحه ويمضي نحو مستقبل تسود فيه الحرية والقانون وحقوق الإنسان. الظلم ينتهي حتما، لكن أمل البشرية لا ينضب أبدا.