ما هي اليهودية؟ – 1 / سومر–سام أور وطوفان نوح

14/09/2025
image_print

مرة واحدة وللأبد في التاريخ،

هناك بعض الأشياء في التاريخ تحدث مرة واحدة وللأبد، لكل الناس في كل الأزمنة. وهذه الأحداث الصادمة تترك آثاراً كونية وتاريخية، وتستمر وتتكرر. أي أن التاريخ يُعاش كنتيجة أو استمرار أو تجاوز لذلك الحدث الجذري. مثل الهزات الارتدادية لزلزال تكتوني عظيم.

هناك ثلاث نقاط تحوّل كبرى، أحداث صادمة وحرب داخلية في كيان الإنسان شكّلت التاريخ وما زالت ارتداداتها مستمرة حتى اليوم:

1- سومر–سام أور وطوفان نوح
أول حدث صادم معروف في التاريخ هو تفتت أول حضارة، والتي يسميها الغربيون بالسومرية، لكنها في حقيقتها حضارة سام أور (كلمة أور تعني مدينة: أوروك/العراق، أروحة/أريحا، نيبور، آشور/أشور، حابور، أورارتو، أورسالم، أورمية، مِصور… كلها منذ زمن سام أور كانت تعبّر عن المدن الكبرى). 

وإنّ هذه الحضارة كانت حضارة قوم نوح–أنوح–أنا (قوم سام أور) الذين تفرّقوا بالطوفان. أمّا سام، الذي يرد في التوراة على أنه ابن نوح (ومن اسمه جاءت لاحقاً تسمية الساميين)، في الحقيقة يعني الشمس (شَمَش–شَمس). وإنّ مدينة الشام أيضاً من نفس الجذر. و(نوح–أنوح–أن يعني السماء. بينما سين–آي وعشتار/ستارة–النجوم هم زوج وأبناء السماء. وفي كوزمولوجيا بلاد الرافدين استُخدمت هذه المفاهيم كأسماء ورموز معاً. وإنّ المعتقدات الوثنية نشأت من هذه الإيحاءات السماوية التي تُرجمت في الأرض إلى ملوك وأبطال مُقدَّسين مؤلَّهين).

إنّ مدينة أور القريبة من بغداد (وفي بعض المصادر تُقرأ إريدو) هي ما يسميها القرآن “أم القرى”، أي أم المدن، لأنها كانت تدير محيطها كما يدير النظام الشمسي الكواكب، ولذا ارتبطت بالشمس (المدينة الشمسية–العاصمة). بالإضافة إلى ذلك، فإنّ مدينة الشام اليوم أيضاً كانت في العصر الآشوري–البابلي تؤدي الدور المركزي نفسه، وما زالت تُعرف بالشام أكثر من “دمشق”. أي أن كل العواصم التالية هي “شام”. أما من لم يكن من أهل مدن (الساميين الأوائل) فقد سُمّوا أوراب–أُربان أي البدو. 

إنّ هذه المفاهيم كانت في الأصل توصيفاً للفارق بين الحضر والبدو. (السامي ليس عِرقاً. إنمّا هم أوائل أهل المدن، وأصل كل الحضارات. أي أن كل سكان المدن في العالم هم ساميون. فهذا الاستعمال يشبه ما حدث لاحقاً في آشور أو روما حين أصبح كل رعايا الإمبراطورية، من شعوب ولغات وأديان مختلفة، يُعرَّفون بأنهم آشوريون أو روم. أما الادعاء بأن اليهود والعرب فقط هم نسل الساميين، فهو كذبة عنصرية آريّة أوروبية. ومعاداة السامية كانت في الأساس شيطنة كاثوليكية استهدفت اليهود والعرب معاً، أي المسلمين أيضاً، خاصة في الأندلس. والحقيقة أن الأوروبيين، وكذلك الهنود والإيرانيون والأتراك والأكراد والصينيون والروس وغيرهم، هم أيضاً ساميون بهذا المعنى. أي أن تفكك حضارة سام أور وحربها الداخلية أدّيا إلى تشتت الشعوب في أماكن مختلفة وتكوّن هويات جديدة).

إنّ قصة الطوفان التي ترد في التوراة والقرآن هي حكاية انهيار حضارة سام أور وتفتتها. فشعوب كثيرة شرقية وغربية تفرّقت مع هذا الانهيار. أي أن هذا الحدث هو أول واقعة كونية عرفها البشر جميعاً. ولقد تبنّى علم الآثار الحديث كلمة “سومر” التي لم ترد في أي سجل قديم، فعلى الأرجح كانت قد اختُرعت لتجنّب نسب أول حضارة إلى الشعوب التي يسمونها سامية. لكن في الواقع لا وجود لشعب اسمه “الساميون”.

وإنّ شعب تلك الحضارة يُسمَّى في النصوص القديمة “كيانوغورو–كنجر”. (ومنها جاءت أسماء مثل تشانكيري وأنقرة، وهي مدن سكنوها بعد التشتت). وإنّ “كي أنوح غورو” تعني “مدينة شعب نوح ذوي الرؤوس السوداء أو البشرة السمراء”. أي أنهم غالباً كانوا من أصول إفريقية–حبشية، أي زنوج. وإنّ الدولة التي تُعرف بالحيثيين–إيتي (إثيوبيا) كانت جزءاً من نسل هؤلاء المتفرقين من سام أور. فهؤلاء هم “السود” الذين يرد عنهم في القرآن في سورة {هود/ 27 }  أن نخبة قوم نوح استهزأت بهم، ويرد عنهم الازدراء نفسه الذي ذُكِرَ في قصة ثمود ونبي الله صالح {الأعراف/75}. إذن، كراهية السود والأجانب والعنصرية كانت من أسباب فساد أول مجتمع حضري. (حتى أسماء مثل إفريقية–إفريغيا–أفروديت مرتبطة بوجود أفارقة في المشرق والأناضول. وإفريقيا كانت منذ العصور القديمة مصدراً سكانياً للهند وشبه الجزيرة العربية وإيران وبلاد الرافدين والأناضول).

تُقَدّم التوراة وعلم الآثار الحديث روايات متباينة، أحياناً للتصديق وأحياناً للتكذيب. فكتبة التوراة، الذين كتبوا نصوصهم بعد القرن الخامس قبل الميلاد، كانوا غرباء عن المنطقة. حيث سجّلوا روايات سمعوها في بابل وآشور وفينيقيا، لكن بشكل ناقص. فلغتهم العبرية في الأصل كانت لغة مكسّرة تعلموها لاحقاً من الأكدية والآرامية. 

وبحسب رواية التوراة فإنّ سبب التشتت كان بناء برج بابل وإحداث ضجيج كبير، لذلك غضب الإله وبلبل ألسنتهم ووزعهم في الأرض. لكن في صميم الأمر فهذا إشارة إلى حرب أهلية كبرى بعد انهيار سام أور. والواقع أن ذلك أدى إلى ظهور شعوب كثيرة لاحقاً في الصين والهند وإيران والقوقاز والأناضول وجنوب أوروبا ومصر وإفريقيا، بهويات جديدة لكن بسمات اجتماعية وثقافية متقاربة. وإنّ لغة سام أور نفسها لم تُفك رموزها كلياً حتى الآن، لكن تفرعت منها الأكادية والآرامية والأفستية والآشورية وغيرها. أي أن سام أور، قوم نوح، هم الجذر المشترك لكل الأجيال والحضارات اللاحقة، وإنّ صدمتهم الكبرى ما زالت ارتداداتُها قائمة حتى اليوم.

كان عدد من علماء الآثار منذ القرن التاسع عشر يبحثون في أرض سام أور (ميزوبوتاميا) لأغراض مختلفة: بعضهم أراد إثبات روايات التوراة، وبعضهم – من الماديين – أراد تكذيبها. لكنهم نسجوا من الألواح والنقوش التي وجدوها في سام أور وأكاد وآشور تواريخَ ناقصة ومبتورة. أما سكان المنطقة أنفسهم، سواء كانوا مسيحيين سرياناً أو كلداناً أو إيرانيين أو مسلمين، فلم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة هذه النقوش بلغتها الأصلية وفهمها. وبسبب هذا الإهمال، ظل تاريخ المنطقة وأديانها يُكتب دائماً إما على يد اليهود الغرباء أو على يد علماء الآثار الغربيين الذين نهبوا التراث وصاغوا السردية بما يخدم مصالحهم.

Ahmet Özcan

أحمد أوزجان:
اسمه الحقيقي هو سيف الدين موت. خريج كلية الإعلام بجامعة إسطنبول (1984-1993)؛ عمل في مجال النشر والتحرير والإنتاج والكتابة. مؤسس دار نشر يارن (Yarın) وموقع (haber10.com) الإخباري. أحمد أوزجان هو الاسم المستعار للكاتب.
المجلات التي شارك فيها:
إيمزا (1988)، يرْيُوزُو (1989-1992)، ديغيشيم (1992-1999)، هَافْتَايَا بَاكِيش (1993-1999)، أولْكِه (1999-2001)، تركيا ودنياده يَارِن (2002-2006).
كتبه الصادرة: من أجل جمهورية جديدة / الدولة العميقة وتقاليد المعارضة / سيمفونية الصمت / شب يلدا / التفكير من جديد / الجغرافيا السياسية للاهوت / انسحاب العثمانيين من الشرق الأوسط / رسائل مفتوحة / من لا قضية له ليس رجلا / الإيمان والإسلام / دعونا نقدم الزهور للمتمردين المهزومين / التوحيد والعدالة والحرية / الدولة والأمة والسياسة
الموقع الإلكتروني: www.ahmetozcan.net - www.ahmetozcan.net/en
البريد الإلكتروني: [email protected]

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.