كيف تقرأ دول الخليج التوازن الجديد في الشرق الأوسط؟

يُعد تراجع النفوذ الإقليمي لإيران فرصة تاريخية لدول الخليج. لكن هذه الفرصة لا يمكن استغلالها إلا باستراتيجية حذرة ومتعددة الطبقات. لم تعد أولوية الخليج مجرد تحييد التهديد الإيراني، بل أيضاً منع إسرائيل من ملء هذا الفراغ من جانب واحد، وتحقيق الاستقرار في اليمن، وضمان أمن الطاقة.
02/07/2025
image_print

بعد التصعيد العسكري الأخير بين إسرائيل وإيران، بدأ البحث عن توازن جديد في الشرق الأوسط. أعادت الهجمات المتبادلة بالصواريخ والطائرات المسيرة تشكيل علاقات القوة على المستويين الإقليمي والعالمي، بينما يشهد النفوذ الإقليمي الإيراني تراجعاً ملحوظاً. ومع ذلك، فإن هذا الوضع لا يعني تلقائياً فرصة لدول الخليج، المنافسة التقليدية لإيران. بل على العكس، تتابع الدول المصدرة للطاقة مثل السعودية والإمارات وقطر والكويت التحركات العسكرية المتزايدة لإسرائيل في المنطقة بحذر. لأن التوازن الجديد لا يقتصر على إضعاف إيران فحسب، بل يحمل أيضاً خطر فتح المجال الاستراتيجي لإسرائيل.

كيف يتغير ميزان القوى مع تفكك المحور الإيراني؟

تعرض المحور الإيراني الذي بنته طهران على مدى سنوات، من طهران إلى بيروت، لضربات متتالية في الفترة الأخيرة. مع انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، فقدت إيران أهم حليف لها في دمشق. أما في لبنان، فقد تراجعت حركة حزب الله إلى الدفاع بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية والانهيار الاقتصادي. بينما تراجعت قوة التنظيم في السياسة الداخلية اللبنانية، فقد ضعفت أيضاً قدرته على توليد المبادرات الإقليمية بشكل كبير.

في اليمن، بدأت جماعة الحوثي، الذراع الأهم لإيران، تدفع ثمناً باهظاً بسبب هجماتها في البحر الأحمر. العمليات الجوية التي قادتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بدعم ضمني من إسرائيل، ألحقت أضراراً كبيرة بقدرات الحوثيين من حيث الصواريخ والطائرات المسيرة. واستهدفت مراكز لوجستية ومستودعات أسلحة وهياكل قيادية، مما قلل بشكل كبير من خطر الهجمات المباشرة التي تهدد دول الخليج.

لكن الكسر الاستراتيجي الحقيقي حدث عندما استهدفت الأراضي الإيرانية مباشرة. ضربت الولايات المتحدة، بالتنسيق مع إسرائيل، منشآت حيوية مثل نطنز وفوردو المتعلقة بالبنية التحتية النووية الإيرانية. وهذا التطور يعني بالنسبة لإيران ضعف الردع وطرح تساؤلات حول القدرة الدفاعية.

رغم كل هذه التطورات، لا تزال دول الخليج مثل السعودية والإمارات غير راغبة في التدخل المباشر في الميدان. وعدم دعمهم لعملية برية واسعة النطاق ضد الحوثيين في اليمن هو انعكاس واضح لهذه السياسة الحذرة.

أسباب الموقف الحذر لدول الخليج

هناك أسباب متعددة الطبقات وراء عدم نزول دول الخليج إلى الميدان. أولها هو المخاوف الأمنية. هجمات الطائرات المسيرة التي نفذها الحوثيون عام 2019 ضد منشآت الطاقة في بقيق وخريص في السعودية، ألقت المنطقة في موجة صادمة. كشفت هذه الهجمات مدى هشاشة الرياض، بل وأسواق الطاقة العالمية أيضاً. لا يريد قادة الخليج المخاطرة بتكرار سيناريو مماثل.

السبب الثاني هو تعقيدات توازنات الميدان في اليمن. لا تزال الحكومة اليمنية الرسمية موجودة في مناطق مثل مأرب وتعز. لكنها ليست وحدها في الميدان. فقد أنشأت عناصر سلفية مدعومة من الإمارات تسمى “العمالقة” هياكل تحكم خاصة بها في مناطق واسعة. بالإضافة إلى ذلك، فإن المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم مباشرة من أبوظبي، ينافس الحكومة في الشمال من خلال السعي لتحقيق الاستقلال في عدن والمناطق المحيطة بها. يجعل هذا الهيكل المجزأ تنفيذ عملية عسكرية منسقة ومركزية في الميدان شبه مستحيل.

اختلافات في الرؤية بين السعودية والإمارات

رغم مشاركتهما مخاوف مشتركة تجاه إيران، إلا أن مواقف السعودية والإمارات في الملفات المختلفة للشرق الأوسط لا تتطابق دائماً. حتى في ساحة اليمن، تدعم الرياض الحكومة المركزية بشكل أكبر، بينما تفضل أبوظبي في بعض الأحيان الاستثمار في جهات محلية أو غير حكومية.

هذا التمايز لا يقتصر على اليمن. ففي السودان على سبيل المثال، اتخذت السعودية موقفاً يضع استمرارية الهيكل المؤسسي والدولة في الأولوية، بينما أقامت الإمارات علاقات أكثر مباشرة مع هياكل شبه عسكرية مثل قوات الدعم السريع. كما لوحظ اختلاف مماثل في ملف سوريا: بينما أجرت الرياض اتصالات مع النظام عبر الجامعة العربية بشكل محكوم، سارعت الإمارات إلى إقامة علاقات دبلوماسية مباشرة مع دمشق.

تُظهر هذه الاختلافات في الرؤية أن الخليج لا يمتلك هيكل قرار أحادي المركز، بل إن المصالح الجيوسياسية تُحدد بشكل مختلف لكل دولة.

القضية الأساسية لدول الخليج هي تحويل فراغ القوة إلى مكاسب دون خلق تهديدات جديدة. لأن ضعف عدو ما في الشرق الأوسط لا يعني دائماً الاستقرار. فقد يفتح الباب أحياناً أمام فوضى جديدة. الخليج يرى هذا ويعرفه، ولهذا يتقدم بحذر.

يُعد تراجع النفوذ الإقليمي لإيران فرصة تاريخية لدول الخليج. لكن هذه الفرصة لا يمكن استغلالها إلا باستراتيجية حذرة ومتعددة الطبقات. لم تعد أولوية الخليج مجرد تحييد التهديد الإيراني، بل أيضاً منع إسرائيل من ملء هذا الفراغ من جانب واحد، وتحقيق الاستقرار في اليمن، وضمان أمن الطاقة.

Bekir Gündoğdu

بكر غوندوغدو
باحث - كاتب. عمل على مستويات مختلفة في السياسة والمجتمع المدني والإعلام. يواصل العمل حاليًا كمحرر في مجال الإعلام الجديد وناشر على الإنترنت.
البريد الإلكتروني: [email protected]

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.