سلاح مَنْ يجب أن يلقيه “بي كي كي”؟

إلقاء التنظيم الذي يحمل اسم "بي كي كي" للسلاح يعني أن الكفار، وليس الأكراد، هم الذين سيلقون سيوفهم. بعد ذلك، يمكن للأكراد أن يحملوا في أيديهم سلاحهم الخاص بدلاً من سلاح يورغو، ويوجهوا فوهة هذا السلاح، جنبًا إلى جنب مع الأتراك والعرب، نحو أعدائهم الحقيقيين. وعندها فقط، يكون موضوع الأكراد وكردستان مطروحا في سياق مختلف تمامًا، ويصبح قابلا للنقاش. لم يعد هناك أي احتمال للوجود أو البقاء في بلدنا ومنطقتنا، ليس فقط للتنظيمات ذات الصياغة البعثية مثل "بي كي كي"، بل وأيضاً لأي سلطة أقلية وقمعية متغربّة أو لأي من الأدوات المنافقة التابعة للهلال الشيعي، بعد ما جرى سوريا، أو لأي دولة صهيونية بعد غزة. سوف نستعيد خطوة بخطوة كل ما فقدناه قبل مئة عام، وسنمضي قدمًا، ونداوي جراحنا المفتوحة. ولا شك أن إدراك هذا الأمر هو فوق كل النظريات والأيديولوجيات والسياسات.
16/01/2025
image_print

في صباح يوم ضبابي وسط العاصمة البريطانية لندن، ركبنا سيارة أجرة. ومن المصادفة، كان السائق من ولاية شانلي أورفة التركية. قال إنه يعيش في لندن منذ عشر سنوات، وانتقل إليها مع عائلته. عمل لفترة كسائق خاص، ثم اجتاز اختبارات للحصول على رخصة قيادة سيارات الأجرة السوداء الشهيرة في لندن. كان الاختبار صعبًا للغاية، حيث يتعين على المرء حفظ كل شوارع لندن مثل نظام ملاحة حي. كانت الرحلة طويلة، وكانت هناك ازدحامات مرورية، وكنا نستمع إلى سائق أورفلي يعشق عمله.  ثم قال: “أخي، ماذا يحدث في تركيا؟ أنا لا أتابع كثيرًا. بالأمس تلقيت توبيخًا من أحد الزبائن. كان ذلك أثناء عملية “الانفتاح” أو “عملية الحل”. فقلت له مستغربًا: “ما الذي تقصده؟ وما علاقة هذا بتركيا؟”، فأجاب السائق: “عندي زبون يوناني غني، كنت آخذه كل يوم من بيته إلى عمله منذ عدة سنوات. يحبني كثيرًا، وأنا أسميه العم يورغو، إنه رجل طيب جدًا. كنا نتبادل الحديث كل صباح. لكنه كان عصبيًا قليلاً أمس. جلس وبدأ يتصفح الصحف التي يشتريها كل صباح. كان هناك ازدحام في الطريق، وكان قليل الكلام، ثم فجأة بدأ يضرب الصحف على النافذة بيننا وهو يصرخ: ‘ماذا تفعلون، من سألتم، كيف يمكنكم تسليم الأسلحة؟’، وكان يضرب على النافذة ويصرخ غاضبًا. لم أفهم ما الذي حدث. فسألته: يا عم يورغو، ماذا حدث؟ هل أخطأت في شيء؟’. فقال غاضبًا: ‘وماذا يجب أن يحصل أكثر من ذلك. يقال إنكم تسلمون الأسلحة، نحن من أعطيناكم هذه الأسلحة، كيف يمكن أن تسلموها دون إذن منا؟ سلاح من تسلمون أنتم يا هذا؟’، لم أكن أفهم ذلك ما يقصده. العم يورغو اللطيف لم يكن يتحدث هكذا أبدًا. قلت له: عن أي أسلحة تتحدث أنت يا عم؟ ومن يسلمها وإلى أين؟’. ففتح إحدى الصحف وأشار إلى خبر يتحدث عن اتفاقية الحل مع تنظيم “بي كي كي”، وتسليم الأسلحة، ويتضمن تصريحات لعبد الله أوجلان. تبيّن أن العم يورغو يتحدث عن هذا الأمر.  كانت مواضيع سياسية لم أهتم بها حقا، ولم أكن على علم بها أبدا. وعندما تباطأ المرور، التفت إليه وقلت: يا عم، والله ما لي علاقة بتلك المواضيع، أنا مشغول بلقمة عيشي، لماذا تغضب مني؟’، فغضب وقال: ‘كيف يمكن أن تكون غير مهتم، ألست كرديا، كنت قد اخترتك لأنك كردي، لقد تلقيتم دعمنا طيلة سنوات، ثم قررتم بيعها إلى الأتراك، لا تأتِ إلى هنا مرة أخرى. سوف أبحث عن سائق آخر’. طوال الطريق إلى مكان عمله لم يتكلم، وعندما وصل، دفع المال وغادر دون أن يودعني.  ثم قال سائقنا: ‘يا أخي ما الذي يحدث لليونيين؟ لم أفهم، ولم أكن أعرف أنهم يحبون الأكراد إلى هذا الحد’. كان سائقنا الأورفلي شخصًا بسيطًا، أو بالأحرى كان من أبناء الأناضول الأنقياء. وبعد التوبيخ الذي تلقاه من العم يورغو، كان يشعر بالحزن فقط لأنه فقد زبونًا جيدًا.

تذكرت حينها حديثًا مع عم أرمني في نفس سن العم يورغو، التقيت به في أرمينيا. كان يرسم ويبيع لوحات فنية في سوق الفن في العاصمة يريفان. كان الابن الوحيد لعائلة من ولاية وان التركية، وقد هاجر إلى يريفان. عندما اكتشف العم كيفورك أننا جئنا من تركيا، أبدى اهتمامًا خاصًا بنا، ودعا أولاده ليعرفنا عليهم، وبدأ يروي لنا قصصًا من الماضي. وبعد فترة، دعانا إلى منزله. كانت زوجته من ولاية يوزغات التركية، وقد أعدت لنا أطباقًا رائعة ولذيذة من المطبخ اليوزغاتي. كانت عائلة من الأناضول بكل معنى الكلمة، لدرجة أننا نسينا لوهلة أننا في يريفان. في مكتبة العم كيفورك، كانت هناك كتب لعبد الله أوجلان. فقلت له، وأنا أمزح: “يا عم، يبدو أنك تقرأ كتب شخص كردي”. ضحك وقال: “يا أخي، كان قد حصل لدي فضول في وقت من الأوقات حول ما يقوله، وما الذي يدافع عنه”.  ثم أضاف: “لقد لم جماعتنا أيضا في التنظيم، لنرى إلى أين سيحلّق بهم”. فقلت له: “ومن هم جماعتكم؟”، فردّ ببساطة: “إنهم أبناء قريتنا القديمة”، وأضاف: “يركب بعضهم الحافلات بين الحين والآخر ويأتون إلى يريفان للعماد في الكنيسة. يقولون إننا في الأصل أرمن. في النهاية، غضب قساوستنا وقالوا لهم: سوف تثيرين غضب تركيا، لا تأتوا إلى هنا مرة أخرى. انقطعت زياراتهم الآن. هناك يزيديون يأتون إلى هنا أيضا. يقولون إنهم استقروا في القرى التي هجرها الأكراد. أثناء قدومهم إلى هنا، يقولون إنهم من الأكراد، ولكن عند وصولهم، يقولون إنهم يزيديون”. ظل العم كيفورك يتحدث، ثم قال: “تعالوا لأريكم جبل أرارات”. ركبنا سيارة ابنه وكنا نسير نحو جبل آغري. كانت كتابة “1915” مكتوبة في كل مكان في يريفان، على كل ساحة أو نصب تذكاري أو مبنى، وحتى على أعمدة الكهرباء. وبينما كنا نتحدث أثناء الطريق، قلت له مترددا: “يا عم كيفورك، هل يمكنني أن أسألك سؤالاً؟”، فقال: “تفضل”. قلت له: “إنني أرى كتابة ‘1915’ في كل مكان. تركيا أطلقت عملية الانفتاح تجاه الأرمن، وعبد الله غُل زار أرمينيا، وقال أردوغان: ‘آلامنا مشتركة، دعونا ننهي هذا العداء’. كيف ستنتهي قضية 1915 هذه؟”. نظر إلى الطريق طويلا،  ثم التفت إلي وبدأ يقرأ قصيدة “دعني أصرخ” للشاعر محمد أمين يورداكول، ببطء وتركيز. 

ثم أدار وجهه وسكت. ولم يتحدث حتى وصلنا إلى وجهتنا. وأنا أيضًا سكت. كنا نراقب جبل آغري، ثم بدأ ابنه يروي لي مكانة هذا الجبل في الميثولوجيا الأرمنية. كان يشرح أن أول جيل نزل من سفينة نوح كان من الأرمن، وأن جبل أرارات كان جبلهم المقدس. لم نتطرق إلى هذه المواضيع مرة أخرى مع العم كيفورك حتى عدنا، لكن ابنه قال: “بالنسبة لكبارنا، هذا الموضوع هو جرح لا يلتئم”.

كنت قد واجهت جرحًا آخر لا يلتئم في العاصمة الفرنسية باريس. عندما خرجنا من محطة مترو، رأينا مطعمًا عليه كتابة “إسطنبول كباب”، فدخلنا مباشرة. عندما قلنا إننا جئنا من إسطنبول، أبدى كل من المالكين والنُوادل اهتمامًا خاصًا بنا وأظهروا ابتسامات ودية. للأمانة، كان الكباب لذيذًا للغاية. بعد قليل من الحديث، اكتشفنا أن مالكي المطعم ينحدرون من عائلة كلدانية هاجرت من ولاية ماردين التركية. أما النوادل، فكانوا من الشباب الأكراد من ولايات ماردين، وديار بكر، وشرناق. قدموا لنا الكثير من المساعدة. حتى أن أحد الشباب، وهو من ديار بكر، أخذ إذنًا واصطحبنا كمرشد إلى بعض الأماكن في المدينة. أظن أنه كان قد هرب من الجبال (صفوف تنظيم بي كي كي) إلى هنا. كان يؤدي الصلاة، وكان صائمًا ذلك اليوم ليوفي نذرا من أجل روح والدته. كان راضيًا عن أصحاب عمله. وقال: “هنا معظم المحلات مملوكة لأشخاص من الأرمن أو الكلدان أو السريان. إنهم يساعدوننا هنا، ويوفرون لنا العمل، ويسيرون إجراءاتنا في شؤون الإقامة وما إلى ذلك، هنا في فرنسا لديهم معاملة خاصة مع المسيحيين-السريان والكلدان والأرمن القادمين من عندنا، ويقدمون لهم الكثير من الإمكانات يا أخي”. في اليوم التالي، عندما زرنا المطعم مرة أخرى، تحدثنا مع مالكيه. أخبرنا الأخ الأصغر بشكل مفصل عن الكلدانية. بين كلامه، كان يذكر بعض العبارات مثل: “الأكراد هم همج، والأتراك هم لصوص، والعرب هم قردة الصحراء”، ثم كان يعيد ترتيب كلامه قائلاً: “لكن في الحقيقة، كلنا كلدانيون، وكلنا من نسل النبي إبراهيم”. لم يكتفِ بذلك، بل قال: “الإسلام واليهودية سينتهيان قريبًا، وسيصبح الجميع كلدان”. تدخلت في الحديث وسألته: “لماذا لا تحب الأتراك، الأكراد، والعرب؟”. كنت قد سهوت حينها. فبدأ في سرد تاريخ ألف سنة، وتحدث عن أن العرب والأكراد والأتراك قد ذبحوا الكلدان، والآشوريين، والسريان، واليزيديين عبر العصور، وأنهم ارتكبوا المظالم والإبادة الجماعية ضدهم. كان يتحدث بلا انقطاع وكأنه حفظ ذلك عن ظهر قلب. استمعنا له بكل صبر، وفي النهاية قال: “هكذا هو الأمر يا أخي، جرحنا عميق ولن يلتئم أبدًا”.

كان الجرح عميقا. أينما ذهبنا، كنا نواجه جرحًا آخر أعمق. في بلغاريا، كان مرشدنا شخصا من أصل بلغاري مهاجر، وقد حدثنا عن بعض الأمور. قال إنه في عام 1988، بدأ النظام الشيوعي بقيادة تودور جيفكوف في بلغاريا فجأة بمعاداة الأتراك البلغار، وحظر اللغة التركية، وأجبر الناس على تغيير أسمائهم التركية إلى أسماء بلغارية. حتى ذلك الوقت، كان الأتراك البلغار يعيشون معًا، وكانوا يقومون بالزواج المختلط، ولكنهم فجأة وجدوا أنفسهم أمام خيارين؛ إما النفي أو الذهاب إلى معسكرات مثل بيلينا، دون أن يفهموا ما يجري. وكان ذلك المرشد من بين مئات الآلاف من الأتراك الذين اضطروا للهجرة إلى تركيا في تلك الفترة. كان حينها طفلًا صغيرا. قال لنا: “كانت هناك عائلة بلغارية في نفس المبنى الذي كنا نسكن فيه. أمي كانت صديقة مع زوجة الرجل، وكنت أنا أيضًا صديقًا لأطفاله. لم تكن هناك أي مشاكل بيننا”. وأصاف: “كنا مقربين جدًا لدرجة أننا كنا ندخل منازل بعضنا البعض دون استئذان، وكان آباؤنا أصدقاء مقربين تخرجوا من نفس المدرسة. عندما بدأ جيفكوف في تنفيذ هذه السياسة، كنا أطفالًا، لكن الكبار بدأوا يشعرون بالقلق. ومع ذلك، استمررنا في حياتنا وكان جيراننا يعيشون كما كانوا. في مساء أحد الأيام، تم الإعلان في الأخبار عن حظر اللغة التركية، وأنه يجب على الجميع تغيير أسمائهم التركية إلى أسماء بلغارية. كنا جالسين على المائدة، وأمي وأبي كانا يستمعان بصدمة إلى الأخبار. بعد فترة، رن جرس الباب، وركضت لفتحه. كان القادم هو جارنا العم تودور، وكان يحمل بندقية في يده – لا أبالغ كان يحمل في يده بندقية – (هكذا أكد لنا ذلك الصديق). فقلت له: تفضل يا عم، ادخل إلى البيت. فقال لي بصوت حاد: “نادي والدك بسرعة”. لم أره قط هكذا من قبل. ذهبت وأنا خائف قليلا وطلبت من والدي أن يأتي. وعندما رأى والدي تودور، قال له بنفس الود المعتاد: ‘أهلاً يا جار، تفضل’. لكن العم تودور كان يوجه البندقية صوبنا، وقال بعنف: “لقد استمعت إلى جيفكوف، عليك أن تزيل اسمك من الجرس فورًا. اعتبارًا من الغد، عليك أن تغير أسماء أفراد عائلتك كلها. وإلا، سيكون الأمر سيئًا، هل فهمت؟”. ثم لم ينتظر حتى رد والدي، وذهب مباشرة إلى منزله وأغلق الباب بعنف. لقد وقفنا هناك، أنا وأمي وأخوتي، في الباب في حالة من الصدمة. هل كانت هذه مزحة؟ هل كان العم تودور يستهزئ بهذا القرار التافه بهذه الطريقة؟ قال والدي لعلها مزحة، ولكن في اليوم التالي، وفي الأيام التي تلتها، اكتشفنا أن الأمر لم يكن مزحة. بدأ العم تودور والجيران البلغاريون الآخرون في نفس المبنى، بل حتى الجيران في الحي، في اتخاذ موقف ضدنا فجأة. ونسوا علاقات الصداقة والجيرة المستمرة منذ سنوات طويلة، وبدأوا في التصرف بشكل عدائي علانية تجاهنا. وتدريجيا، ازدادت حالات الإبلاغ، والتهديد المباشر، وقطع العلاقات. كنت حينها طفلًا أحاول فهم ما يحدث، لكنني لن أنسى أبدًا الدهشة والخوف الذي كان يراود كبارنا. كما أنني ما زلت لا أفهم كيف تحول هؤلاء الأشخاص الذين كانوا أصدقاء وعائلة لأعوام طويلة إلى أشخاص قاسيين وممتلئين بمشاعر الانتقام في ليلة واحدة. كانوا دائمًا يقولون إنهم سيأخذون ثأرهم من العثمانيين. ولكننا، نحن الذين نعيش في تلك الأرض منذ زمن طويل، كنا قد نسينا الدولة العثمانية، أما الجرح الذي فتح في قلبي تلك الليلة، فلا أستطيع نسيانه حتى اليوم…

هكذا روى لنا ذلك الصديق تلك الأحداث. قال إن عائلته كلها استقرت لاحقا في إسطنبول، وكان صديقنا قد تأثر بصدمة الطفولة تلك، فاهتم كثيرًا بدروس اللغة التركية في المدرسة، وفي النهاية اختار تخصص اللغة التركية وآدابها في الجامعة. بعد تخرجه، التحق بالخدمة العسكرية في التسعينات. خدم في شرناق كضابط احتياط. وفي يوم من الأيام، بينما كان يروي لي ذكرياته في الجيِ، اقترب مني وهمس قائلاً: “قتلنا الكثير من الأكراد”. فسألته مستغربًا: “كيف يعني؟”. فأجاب: “شاركت في العديد من العمليات العسكرية، كنا نقتل الأكراد ونقطع آذانهم، وكان القادة يكرموننا”. فقلت له، مستغربًا مثلما فعل هو عندما رأى العم تودور؛ “ماذا تقول أنت؟ ماذا يعني أنك قتلت الأكراد؟ قل بي كي كي بدلًا من ذلك”. فقال: “لا، أنا أعرف تلك المنطقة جيدًا، كلهم من بي كي كي. وأصلا هم لا يعرفون حتى اللغة التركية”. عندها ذكرته بالقصة نفسها التي عاشها، وقلت إن دولتنا مثل الدولة البلغاري، كانت تمنع الناس من قول “أنا كردي” أو من التحدث بلغتهم الأم، أي الكردية، وإن هذا التنظيم قد ذهب إلى الجبال للقتال بحجة هذه السياسات، ثم سألته: “ألا تعرف ذلك؟”. فأجاب: “ما العلاقة؟”. ولم يستطع أي يقيم أي علاقة بين الأمرين. بالنسبة له، كان التحدث بلغة غير التركية، أو التحدث بلغة أم وعدم تعلم التركية، سببًا كافيًا للقتل، وكان يفتقر تمامًا للتعاطف. بالنسبة له، كان أفضل كردي هو الكردي الميت، ولم يكن يريد سماع أي جملة خلاف ذلك. وحتى البلغار لم يكن يحمل تجاههم هذه الدرجة من الكراهية. ثم قال: “أنا من أنصار أتاتورك، ولا نسمح بتقسيم الوطن الذي تركه لنا كأمانة”. كان يتحدث عن أتاتورك وكأنه جار له من البلقان، وكان الوطن بالنسبة له حديقة مملوكة فقط لهؤلاء الجيران الذين يعتقد أنهم أنقذوها وأنشأوها لوحدهم. لم يكن يعلم شيئًا عن الأناضول أو الشرق الأوسط أو النضال الوطني أو كيفية تأسيس الجمهورية.  أو بالأحرى، لم يطرح أي تساؤلات عن أي شيء مما تم تلقينه له. وبينما كان يتبنى وطنًا وشعبًا احتضناه، لم يكن يدرك أنه كان يحاول خنقهم وتقسيمهم. تودور جيفكوف لم يحظر اللغة التركية فقط، بل حظر التفكير بعقل الأتراك. لم يكن ليخطر ببال أي تركي أن يفكر حتى في حظر الصفات الفطرية لشخص آخر. وفي نفس الأيام، كان أحد الضباط البلغار المتقاعدين قد قال هذا الشيء في مقهى كان صديقنا يترجم لنا. بعد أن نظر إلينا من الطاولة المجاورة، سألنا: “هل جئتم من تركيا؟”، وعندما أجبنا بنعم، قال: “ليتكم تأتون أنتم إلى هنا مرة أخرى”. وأضاف: “العثمانيون لم يتدخلوا في ديننا أو لغتنا، بفضل الأتراك حافظنا على هويتنا لقرون. ثم جاء الروس وجعلونا شيوعيين وأبعدونا عن ديننا، والآن الأوروبيون يمحون ثقافتنا بالكامل. أجدادنا أخطأوا عندما ثاروا على العثمانيين وطردوا الأتراك”. كان مترجمنا البلغاري المهاجر يترجم هذه الكلمات بفخر، فقلت له: “انظر، هذا ما كنت أحاول أن أشرحه لك، الوجود التركي في التاريخ كان بسبب قدرته على الحفاظ على هوية أخرى وحكمه العادل. عندما يتخلى عن هذه الخصائص، لا يستطيع أن يكون تركيًا مهما قال إنه تركي”.  ولكن بالطبع، لم يفهم صديقنا هذا الأمر أيضا. السم الكمالي كان قد أثر عليه، بالطبع لم يكن يخص التركي في نفسه، بل كان قد اختلق مفهومًا غريبًا لمقولة “أنا تركي”، وألبسها ثوبًا مختلفًا للذين لا يرتدونه، وكان يروج لفكرة تدميرهم من خلال سياسات الدولة بشأن البقاء والوجود. لهذا السبب، كان الوجود والبقاء دائمًا مهددين بالنسبة لمثل هؤلاء.

مررت بنفس النقاش العقيم مع أحد أعضاء “بي كي كي” في سويسرا، داخل مقهى تركي، بعد أن تعرفت عليه وتحدثت معه بالصدفة. بدلًا من “طوبى لمن يقول أنا تركي”، كان هذا الشخص يقول “طوبى لمن يقول أنا كردي”. كان لدى الشخص الذي كان أمامي نفس الغربة عن الجذور، ونفس الهوية المصطنعة، ونفس غياب الفهم. كانت أسماء الهويات الطبيعية قد تحولت إلى مفاهيم أصنام، وتم خلق جيل من الجاهلية يركز على العرق ويعبد هذه الكلمات. قال لي: “الاحتلال التركي استعمر كردستان لقرون، وارتكب إبادة جماعية ضد الأكراد، والأكراد يدافعون عن وطنهم ضد المحتلين. في كردستان المقسمة إلى أربع أجزاء، سيستمر النضال حتى تقوم حرب تحرير وطنية ضد الإمبرياليين المستعمرين الأتراك والعرب والفرس، وحتى يتم تأسيس كردستان الكبرى الموحدة. الأكراد هم أصحاب كردستان منذ السومريين. هناك 60 مليون كردي بلا دولة. لقد تم اغتصاب حقوقهم لقرون، وتعرضوا للتهميش، لكنهم دائمًا ما كانوا مقاتلين شرفاء يصمدون ويقاومون”. استمعت له بصبر. كانت قصة مريحة جدًا، تفسر كل شيء دفعة واحدة. كانت تشبه تلك الصور على أغلفة المجلات الغربية التي تظهر شبابًا أكرادًا وفتيات كرديات جميلات في زي المقاتلين، وكأنك ترى نسرا جبليًا مسلحا. كان الأمر لوهلة يدفعك لترك كل شيء والانطلاق نحو الجبال. مثل صديقي البلغاري المهاجر، كان هذا أيضا يتحدث عن الأكراد كأنهم أصحاب الأرض الحقيقيين في كل مكان عاشوا فيه. وكأنهم يوزعون ميراث الحقول العثمانية، ويروون كيف أن إخوتهم قاموا بخيانتهم وأخذوا حقوقهم. لقد وصل به الأمر إلى نقطة الحديث عن ممارسات الإنكار والصهر والقمع التي تعرض لها الأكراد، حتى وصل إلى هذه الفكرة. فقلت له: “خذ مسطرة وابدأ إن أردت في تقسيم حصص الأكراد، ولكن انتبه؛ الحقول التي لا تخصكم لن تقتربوا منها مجددًا.. وبالمناسبة، إذا كان أولادنا سيخاطبون بعضهم في المستقبل عبر مترجمين، فأنتم من سيتحمل تكلفة الترجمة. لم يكن قد فكر في أي من النتائج المنطقية لما كان يدافع عنه. وكان قد قرأ مؤخرا كتب ستالين عن “حق الأمم في تقرير مصيرها”، فضلا عن كتب إسماعيل بيشكجي. 

مع تقدم الحديث، بدأنا نغوص في مواضيع أكثر عادية. كان قد حصل على حق اللجوء في سويسرا بدعوى أنه تعرض للظلم لأنه كردي. في المقابل، كان يساعد الشرطة السويسرية أحيانًا، خاصة في قضايا مكافحة مافيات المخدرات. وقال إنه عندما تراجعت قضيتهم، استثمر في تركيا. وكان يمتلك منزلًا صيفيًا في بودروم ويقضي عطلاته هناك، ويدرس أولاده في مدارس خاصة، ووفقا له، كانت الأسعار مرتفعة جدًا. وكانت زوجته تنفق الكثير من المال. كانوا يريدون الذهاب إلى مكان آخر لقضاء العطلة الصيف المقبل. كانت والدته متدينة جدًا، وتغضب منه كلما رأته لا يصلي أو يشرب الخمر. قال إنه كلما يزور تركيا، يذهب إلى قريته ليعيش لحظات من الحنين إلى الماضي.  وإنه ربما يبني منزلا هناك. كان يعتقد أن أوروبا أصبحت غير صالحة للعيش. أما أولاده، فكانوا مدمنين على الألعاب، ولا يفارقوا هواتفهم أبدًا. فيما يخص مشاكل الحياة اليومية، كان صديقي يبدو عقلانيا تمامًا، لكنه عندما يتعلق الأمر بقضية كردستان التي تم تدريسها وتلقينها له على مدار عقود، كان يفقد العقلانية، ويصير شخصًا لا يمكن التحدث معه. من أجل أهداف لن تتحقق في العالم الحقيقي، وربما لأنه شعر أنها لن تتحقق، أقام دولة في عالم الخيال وكان يحكمها بكل تفاصيلها وتاريخها وثقافتها وسياساتها.  كان يقول: “الجميع لديهم دول، فلماذا لا نملك نحن دولة؟” فقلت له: “تركيا هي دولة الجميع، البعض منا يعاني من ألم عدم القدرة على أخذ مكان في التاريخ، والبعض الآخر يعاني من سلب مكانه في التاريخ”. بالطبع، لم يفهم قصدي.

كان قد أنشأ كردستان في عقله باستخدام نوع من الذكاء الصناعي، وأصبح يناقش علاقاتها مع تركيا وسوريا والعراق والغرب وإسرائيل وإيران وروسيا. لم يكن لدينا أرضية حقيقية للنقاش. كنت قد سألت أحد قادة تنظيم إيرا السابقين في أيرلندا عن هذه المعضلة الطوطولوجية المكررة التي تنغلق على ذاتها وتؤكد نفسها باستمرار من خلال خيالاتها الخاصة. سألته: “كيف خرجتم أنتم من هذه الدوامة الطوطولوجية؟ كيف تركتم مقاومة استمرت مئة عام؟ ماذا فعلتم بالأسلحة؟”. كان هذا القائد صديقًا لبوبِي ساندز الذي توفي نتيجة إضراب عن الطعام في السجن عام 1981، وكان هو أيضًا قد شارك في المقاومة. كما شارك في الوفد الذي قاد مفاوضات مع الدولة البريطانية، وبدأ اليوم يعمل في مشاريع إعادة تأهيل المقاتلين الذين خرجوا من السجون. قال لي بهدوء: “الحرب ليست غاية، الحرب هي أداة السياسة. الأسلحة يتم استخدامها فقط عندما لا يبقى هناك أي خيار آخر. وإذا فتحت طرق أخرى، تصبح الأسلحة هذه المرة عائقًا أمام الحلول. يعني إذا كان همكم هو الحل، فالأمر هكذا”. ثم تحدث عن تجارب الجبهة الساندينية في المكسيك، وتنظيم إيلن في كولومبيا، وتنظيم إيتا في إسبانيا. كان يبدو أنه فهم سبب سؤالي، فاستمر في الحديث قائلا: “يجب عليكم أن تجدوا حلا للقضية الكردية عندكم بدون أسلحة. لأن الأسلحة لا تضر فقط من يحملها، بل أيضًا تسمم الأجيال القادمة. نحن لا نزال نواجه نتائج ذلك إلى الآن. يجب أن تتخلى دولتكم وكذلك التنظيم عن القومية. الحرية والديمقراطية هما دواء أقوى من القومية بالنسبة لأي مجتمع. إذا تشكل مناخ كهذا، فإن كل شيء جامد سوف يتبخر. الكلمات هي وسيلة أفضل للتواصل من أصوات الأسلحة”.

ورغم أنه كان من الصعب عليّ أن أضطر للاستماع إلى هذه النصائح البسيطة التي هي في الأصل جزء من فطرتنا، من مسلح في تنظيم إيرا، إلا أنني تذكرت عجزي في سويسرا وفكرت أنه ربما تكون هذه الصيغ البسيطة قادرة على فك النفوس المتصلبة والعقد المتشابكة. الحظر يفرق، والحرية توحد. ولكن إذا حاولتم إنشاء أمة جديدة من خلال نهب الدولة واستخدام صيغ فرانكوفونية مفروضة عليكم، ثم تفرضون عليها هوية تركية مجردة بعناية من الإسلام والتاريخ، وأسلوب حياة عرقي وديني خاص بكم، فإن هذه القميص سيصبح ضيقًا بهذا الشكل، وسوف يضطر أمثالنا لأن يفسروا عكس هذا الهراء من خلال قول كلمات منطقية لبقايا هذه الجاهلية العنصرية التي ينتجها. حياتنا مضت في حل كومة المشاكل التي وضعها هؤلاء بين قوسين لاستهلاكها. 

تذكرت حينها جميل مريج عندما قال: “هذا البلد سفينة تتسرب إليها المياه منذ الثورة الفرنسية”.

“على متن سفينة آخذة في الغرق؛ لا فائدة من التسلق فوق الصاري أو الاستلقاء على الشفير.. هذا البلد سفينة تتسرب إليها المياه منذ 1789. في عام 1789، لم يتم القضاء على الأرستقراطيات الغربية، والنظام الاجتماعي الإقطاعي فحسب؛ 1789 هو انتصار البرجوازية وناقوس الموت للشرق العجوز.. إن الدولة العلية التي كانت تتلقى الضرائب من الملوك على مدى قرون، لم تعد تملك في يديها الضعيفة سيف الفتح، بل وعاء المتسول. أناس من مختلف الألوان ينتظرون بفارغ الصبر ذلك اليوم السعيد الذي يقاتلون فيه مع بعضهم البعض… وأخيراً، التفكك. الرجل المريض لا يزال يحتضر.

منذ أن انفصلت الرزمة المرقعة المركبة من المكونات الإثنية المتناحرة في الإمبراطورية عن أماكن الغرزات، أصبحنا نحن أعداءً لأنفسنا. لا ماضي لنا، ولا نعرف تاريخنا. والدين في سرير الموت. لم تولد بعد أي أيديولوجية قادرة على جمع الناس.

جميل مريج / جورنال – المجلد الأول

جميل مريج كان على صواب. وفي نهاية المطاف كانت لغة القومية والدولة القومية وتقرير مصير الأمم وما إلى ذلك، نتاج الثورة الفرنسية، وأدى انعكاسها علينا إلى إنشاء دويلات عشوائية دينية عرقية على الأراضي العثمانية. الجرح الذي لا يلتئم لدى يورغو، وتودور، وكيفورك وغيرهم، كان في الواقع جرحا فتحوها بأنفسهم نتيجة خيانتهم بتحريض من الغربيين. كما حدث أثناء الغزو الصليبي؛ أثناء الحملة الصليبية الأخيرة عندما كانت الإمبراطورية العثمانية تتمزق، وعندما تهافتوا للقاء البريطانيين والفرنسيين والروس وهم يحملون الزهور في أيديهم والأسلحة على خصورهم، كان هذا جرحًا عميقًا انفتح في قلوب المسلمين الفقراء المذهولين واليائسين والمتروكين لوحدهم والذين لم يمسوهم منذ ألف عام. أما نحن، فلم نتمكن من شرح جرحنا الحقيقي بطريقة جيدة مثلما فعلوا. 

الآن يتم التحريض مرة أخرى، لكن هذه المرة على طلب إقامة دولة عشوائية جديدة على ظهر الأكراد الذين هم فعلاً شعب مسلم وبريء ونقي، وأبناء نفس الدين وأخوة وأصدقاء حقيقيون. والأسوأ من ذلك، هو أن التحريض يتم بدوافع معادية للعثمانية. إن المآسي والمظالم التي وقعت نتيجة لسياسات الإنكار التي اتبعتها جمهورية تركيا، بعد الدولة العثمانية، من خلال إجراء ما يشبه عملية جراحية للعين باستخدام فأس لمنع حدوث تفكك مماثل مرة أخرى، أصبحت الآن تستخدم كمبرر مشروع لإنشاء هذه المدينة العشوائية، وليس للتوبة أو الرجوع عن الخطأ. والحقيقة أن كل إرادة تتحدث باسم الأكراد، وتقاتل، وتدافع عن حقوق الأكراد بالسلاح، ليست صيغة تضمن في نهاية المطاف الوجود التاريخي للأكراد لصالح الأكراد حقاً.  بل على العكس من ذلك، قد ينتهي الأمر بتحويل الأكراد إلى أعداء لإخوانهم إلى الأبد وتحويلهم إلى أقلية، ومصدر جديد للمشاكل في المنطقة، مثل الهويات الشيعية والعلوية والأرمنية.

لذلك، من الضروري أن نستخلص الدروس من الآلام والصراعات التي حدثت في التاريخ القريب، وألّا نفتح جروحًا جديدة لا تلتئم، بل أن نعمل على تضميد الجروح الموجودة، ويجب أن يكون هذا الهدف الأساسي دائمًا. قد قد يكون أولئك الذين يريدون إشراك الأكراد في تجارب مثل الكارثة الأرمنية، والمشروع الإسرائيلي، ودكتاتورية الأقلية النصيرية في سوريا، راضين وسعداء بذلك، ولكن كل جملة يتم تركيبها باستخدام التعبيرات المنفرة على التعبيرات المنفرة التي تخفض الأكراد إلى مستوى الأقلية، والمستخدمة في مصطلح الأكراد، الذي يستخدم الآن تقريبًا كاسم لقبيلة أو منظمة متجانسة، يجب أن تخيف الجميع باحتمال تحويل الأكراد إلى ضحايا جدد للشرق الأوسط، وليس فقط التأثير على وضعهم في التاريخ.

سواء كان التنظيم المعروف باسم “بي كي كي” هو من صناعة يد خفية في بداياته، أو نتيجة للتحالفات اللاحقة بين سوريا وإيران وروسيا وفرنسا، أو هو شبكة من الإرهاب والتهريب تحت إشراف الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل اليوم، أو كان تعبيرًا عن إرادة الشعب الكردي في الدفاع عن نفسه وكسب حقوقه من خلال المقاومة، يجب أن يتوقف هذا التنظيم بكل أشكاله ويعلن النهاية ويبتعد عن الأكراد ويتركهم يعيشون بحرية. ويمكنه أن يفعل ذلك من خلال الاحتفال تحت مسمى الانتصار في تحقيق هدفه بالكفاح المسلح، أو باعتباره مرحلة من عدم قدرته على تحقيقه بالكامل واستمرار مسيرته بلا سلاح. وفي جميع الحالات، يجب أن يتم الأمر أولًا بالابتعاد عن الأكراد، والتخلي عن احتكار الحديث باسمهم، وبدلًا من إجراء صفقات بين العواصم وكأنه زعيم قبيلة، يجب أن يُفتح المجال للشعب الكردي ليعيش كأي شعب آخر، بحرية وبتنوع اجتماعي وتنوع جماعي، ضمن توازن وانسجام.

من الأجدر أن لا يتم تبديد كل الطاقة التحفيزية المحملة للشعب الكردي في محاولة لتحقيق أمة خيالية تنتهي إما بصرف هذه الجهود عبثًا أو تحويلها إلى أداة في يد القوى الأجنبية، بل يجب أن يتم التفكير في رؤية جديدة وفكرة مفاهيمية جديدة، بحيث يتم إعادة صياغة الأتراك، والأكراد، والعرب، والشعوب القوقازية والبلقانية ليس كقبائل عرقية منفصلة، بل كأمة واحدة متعددة، تتناغم وتتكامل، وتصبح جزءًا من الديناميكية التأسيسية لتاريخ جديد يعيد تشكيل الشرق الأوسط، وأوراسيا، وأفريقيا، وأوروبا.

نعم، ربما ارتكبت تركيا، أخطاء كبيرة في مسيرتها الوجودية، المبنية على وجودٍ قسري فوق جسد الإمبراطورية العثمانية. لكن في النهاية، تجربة الديمقراطية والحداثة من خلال الحفاظ على الهوية الإسلامية، والقدرة على الخروج من اختبار الوصايات والحروب الأهلية عبر مسار ديمقراطي وتحقيق التحول بدون إراقة دماء، لا تزال تقدم تجربة نموذجية لجميع المجتمعات الإسلامية. من الممكن تطوير هذه التجربة وتعميقها وتحقيق مزيد من التقدم فيها. والسياسة، كوسيلة خالية من العنف والصراعات المسلحة، هي بالضبط الأداة التي يجب أن تستخدم لتحقيق هذا الهدف.

في بعض الأحيان، لا يدرك الناس أو المجتمعات قيمة الأشياء إلا بعد فقدانها. لا بد من أن ندرك أن تركيا وكل الديناميكيات التي أسستها، بما في ذلك الأكراد، تحمل تاريخًا مشتركًا وقضية بقاء واحدة. لذا، يجب أن نتذكر أن أي جهة تسعى وراء وصاية، سواء كانت من الشرق أو الغرب، هي في الواقع تساهم في حفر قبرها بنفسها.

لا نعلم ما إذا كان “بي كي كي” سيتمكن من إلقاء الأسلحة الكثيرة التي تم حشوها في يديه وعقوله لمدة أربعين عامًا في آن واحد. بعد أن انطلق للانتقام من أجل أحداث 1915، و1922، و1925، و1937، والمنفيين، وسجن ديار بكر، والقرى المهجورة، وإطعام البراز للناس، وقطع الآذان، ثم بدأ بقتل أبناء الأناضول، وذبح كل من يخالفه، وتفجير المدنيين، بل حتى قتل آلاف الأكراد في عمليات إعدام داخلية ودفنهم في مقابر جماعية، ليكون بذلك صاحب تاريخ دموي. منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، بدأ التنظيم مسيرة تحت رعاية وإشراف رفعت الأسد، وضباط روس، ومستشارين فرنسيين، في دمشق، ثم تواصل مع الإنجليز، والإيرانيين، والأمريكيين، والإسرائيليين، وحتى مع اليونانيين، والأرمن، والصرب، والسريان والكلدانيين وغيرهم من الأطراف التي كانت على خلاف مع تركيا، ليقع في فخ علاقات العداء بالوكالة، الأمر الذي جعله يضل عن طريقه، وبالتالي فإنه إقناع مثل هذا التنظيم بأن هذه اللعبة قد انتهت صعب جدا. ولكن ليس مستحيلا. لأن غالبية الشعب الكردي باتت تنتظر أن تتخلص بسلاسة من وصاية هذا التنظيم، الذي أصبح بلا معنى ومبهمًا في نظرها. وهذا انتظار متفائل حتى لا تتعرض يد الأخوة الصادقة الممدودة من قبل الدولة للعض هذه المرة أيضاً. “ربما يأتي فيلم إلى المدينة، وتصبح فيها غابة جميلة”.

هذه اللعبة القذرة، التي تهدف إلى استمرار الحرب القذرة، يقودها مستغلّو القومية الكردية الذين يُحرّضون أطفال الأناضول بأساليبهم لتحقيق مصالحهم على حساب حياتهم المريحة في أوروبا أو دول أخرى، وفي الجهة المقابلة، هناك أولئك الذين يستفيدون من “مكافحة الإرهاب” كذريعة، ويدّعون أنهم يمارسون القومية التركية من خلال معاداة الكرد، وهم في الحقيقة تجار عرق آخرين، يظنون أنهم يحققون أهدافهم من خلال هذا العداء. والأهم من ذلك هو حماية أطفالنا من هذا السم الذي يلقنونه لهم، المتمثل في هويات عرقية علمانية متطرفة تحل محل الهوية التركية والكردية الأصيلة. إن مهمتنا الكبرى هي حمايتهم من شر هذا التطرّف العرقي العلماني الذي يهدد هوياتهم الأصلية.

ومن يحقق ذلك، كيفما كان، فإنه سيمثل إرادة حقيقية وطنية قومية تصنع التاريخ. أما من يفسد ذلك أو يعوقه، فسوف يدخل التاريخ بصفته عدو قديم لهذا البلد وللشعب بأسره.

حينها فقط يمكننا أن نفتح السجلات لننهي حساباتنا غير المكتملة، والتي تتعلق بالجروح الناتجة عن مقتل الملايين من المسلمين في البلقان، والقوقاز، وتريبولي، وفي صاري قاميش، وجناق قلعة، وصحراء سيناء، وكوت العمارة، والذين استشهدوا في العراق، وأفغانستان، وميانمار، وكشمير، والسودان، واليمن، وفلسطين، وسوريا، وغزة. حينها نكون قادرين على الثأر لملايين المسلمين الذين قُتلوا بوحشية، أي لحساباتنا العالقة. فلا أحد غيرنا يتوجع أو يشفق أو يحزن على أرواح ودماء المسلمين وأجساد أبنائهم الممزقة. لذا، ليس لدينا خيار سوى أن نتبنى همومنا الخاصة كقضايا لنا. 

مازال أمامنا الكثير من العمل لنقوم به. فقد انتهى العصر القديم والألاعيب القديمة. يجب أن يكون رباط الأتراك والأكراد والعرب المسلمين بعد اليوم دفاعا عن صلاح الدين والأندلس وبيبرس وياووز وإدريس البتليسي، وليس عن ويلسون، وستالين، وتشرشل، وسايكس بيكو.

إلقاء التنظيم الذي يحمل اسم “بي كي كي” للسلاح يعني أن الكفار، وليس الأكراد، هم الذين سيلقون سيوفهم. بعد ذلك، يمكن للأكراد أن يحملوا في أيديهم سلاحهم الخاص بدلاً من سلاح يورغو، ويوجهوا فوهة هذا السلاح، جنبًا إلى جنب مع الأتراك والعرب، نحو أعدائهم الحقيقيين. وعندها فقط، يكون موضوع الأكراد وكردستان مطروحا في سياق مختلف تمامًا، ويصبح قابلا للنقاش. لم يعد هناك أي احتمال للوجود أو البقاء في بلدنا ومنطقتنا، ليس فقط للتنظيمات ذات الصياغة البعثية مثل “بي كي كي”، بل وأيضاً لأي سلطة أقلية وقمعية متغربّة أو لأي من الأدوات المنافقة التابعة للهلال الشيعي، بعد ما جرى سوريا، أو لأي دولة صهيونية بعد غزة. سوف نستعيد خطوة بخطوة كل ما فقدناه قبل مئة عام، وسنمضي قدمًا، ونداوي جراحنا المفتوحة. ولا شك أن إدراك هذا الأمر هو فوق كل النظريات والأيديولوجيات والسياسات.

إن كرامة الأكراد مرهونة بعصبية الأتراك، وهاجس التقسيم لدى الأتراك، مرهون بكرامة الأكراد. وكل من يضع بينهما “و، أو نقطة، أو فاصلة”، بنوايا إثنية – عنصرية – قومية تركية أو كردية، فهو عدونا جميعا.

الآن، حان الوقت لنصرخ بشعر محمد أمين يورداكول:

“أنا روح تعتبر أبسط إنسان أخًا لها;

لدي إيمان بإله لا يخلق العبيد;

الفقير الذي تحت الخرق يجرحني;

وُلدت لأكون ثأر المظلومين.

ينطفئ البركان، لكن لهيبي لا يخفت;

تمر العاصفة، لكن رغاوىّ لا تنطفئ.

دعني أصرخ، فإن سكتّ أعلن أنت الحداد؛

لا تنس أن الأمة التي لا يصرخ شعراؤها،

هي كطفل يتيم تحول أحباؤه إلى تراب؛

والزمان يريها أسنانه التي تقطر دما،

لا رحمة ولا قانون لهذا القطيع البائس؛

فقط عين بنظرات صارمة، فقط قبضة قاسية!”.

(محمد أمين يورداكول، دعني أصرخ)

Ahmet Özcan

أحمد أوزجان:
اسمه الحقيقي هو سيف الدين موت. خريج كلية الإعلام بجامعة إسطنبول (1984-1993)؛ عمل في مجال النشر والتحرير والإنتاج والكتابة. مؤسس دار نشر يارن (Yarın) وموقع (haber10.com) الإخباري. أحمد أوزجان هو الاسم المستعار للكاتب.
المجلات التي شارك فيها:
إيمزا (1988)، يرْيُوزُو (1989-1992)، ديغيشيم (1992-1999)، هَافْتَايَا بَاكِيش (1993-1999)، أولْكِه (1999-2001)، تركيا ودنياده يَارِن (2002-2006).
كتبه الصادرة: من أجل جمهورية جديدة / الدولة العميقة وتقاليد المعارضة / سيمفونية الصمت / شب يلدا / التفكير من جديد / الجغرافيا السياسية للاهوت / انسحاب العثمانيين من الشرق الأوسط / رسائل مفتوحة / من لا قضية له ليس رجلا / الإيمان والإسلام / دعونا نقدم الزهور للمتمردين المهزومين / التوحيد والعدالة والحرية / الدولة والأمة والسياسة
الموقع الإلكتروني: www.ahmetozcan.net - www.ahmetozcan.net/en
البريد الإلكتروني: [email protected]

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.