سقوط نظام التعذيب على رؤوس جميع حلفاء الأسد

لقد انهار نظام التعذيب الذي بناه الأسد. ومن الضروري أن نرى أن سوريا هي نموذج مصغر للنظام الإقليمي، وأن هناك من بقي تحت أنقاض النظام المنهار. كل عنصر ديموغرافي أو عرقي أو طائفي تحتويه سوريا، موجود في الشرق الأوسط أيضا، وكذلك العكس. وبالمثل، فإن كل مشاكل المنطقة تعتبر مشاكل لسوريا أيضاً. وفي هذا الإطار، كان الأسد يمثل الحلقة الأقل معنى في نظام التعذيب المنهار. وفي هذا الإطار، كان الأسد يمثل الحلقة الأقل معنى في نظام التعذيب المنهار. لا شك أن "تركيا" التي ظهرت في المسجد الأموي، تبعث على الأمل فيما يتعلق بإدارة هذه الفجوة وسدها. فمنذ عام 2012، أصبحت تركيا تهيمن على خريطة الأعصاب الجيوسياسية الإقليمية والعالمية في سوريا على وجه الخصوص، إلى جانب بنائها ملفا متكاملا حول هذا البلد.
يناير 3, 2025
image_print

كان نظام الأسد نظاماً من الشر المطلق خلقته ظروف الحرب الباردة بعد قيام إسرائيل. نحن نعرف أنظمة ترتكب المجازر والتطهير العرقي في أجزاء كثيرة من العالم. فها هي إسرائيل ترتكب إبادة جماعية أمام أعيننا. لكننا نعلم أيضا أن كل هذه الشرور يمكنها أن تستمر في ظل ظروف تاريخية معينة ولفترة زمنية محددة. على الأقل، نعلم أن العنف الذي يحدث له سياق وهدف سياسي، أي أنه في نهاية المطاف “أداة لسياسة ما”. ولعل ما يجري في فلسطين منذ قرن من الزمان، هو الأكثر فجورا وظلما من هذه المحاولات المعادية للإنسانية. ومع ذلك، حتى سياسات إسرائيل التي ترتكب المجازر يمكن وضعها على أرضية سياسية معينة ضمن توازن قوى غير متكافئ أبدا. فهناك قوة احتلالية إجرامية تسعى إلى تنفيذ مهمة سياسية مستحيلة، بدعم من أقوى دول العالم، وبتوجيه من انحراف عقائدي. وإلى اليوم، ما زالت غير قادرة على إقناع نفسها والعالم بأنها ستنجح. ويظل السؤال حول ما إذا كانت إسرائيل ستشهد عامها المئة، جادًا للغاية. لأنها لا تستطيع القضاء على الأمل رغم كل قوتها والدعم المقدم لها.

لكن في سوريا، كان من الصعب رؤية فسحة أمل بشأن مستقبل البلاد إلا عند قلة قليلة من الناس، حتى قبل بضعة أسابيع فقط، بما في ذلك الغالبية العظمى من السوريين الذين قدموا كل التضحيات على مدى سنوات. ولا مجال للاستغراب من عدم بقاء مكان للأمل في ظل نظام قائم على التعذيب بشكل مطلق ومتواصل دون انقطاع منذ أكثر من نصف قرن.

ويمثل نظام الأسد نموذجا لا نظير له في العالم، لدرجة أنه لا يمكن حتى مقارنته لا بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل، ولا بمحرقة هتلر، ولا بالهولودومور الروسية، ولا بمجازر سوهارتو.  إذ أن أمثلة العالم الأخرى تتعلق بمذابح استهدفت مجموعة عرقية معينة أو خطًا سياسيًا معينا أو مجموعة دينية بعينها، واستمرت لفترة ما قبل أن تنتهي في نهاية المطاف. كما أن هذه الإبادات الجماعية كانت مدفوعة بأهداف جيوسياسية دموية. لا شك أن حجم هذه المجازر والإبادة الجماعية كبير لدرجة أنه لا يمكن مقارنتها بما حدث في سوريا، وقد وصفت بأنها من اللحظات الأكثر ظلما ووحشية في تاريخ البشرية. لكن رغم كل هذا، لم يتحول أي منها إلى “نظام تعذيب” بشكل مطلق استطاع أن يحافظ على وجوده لأكثر من نصف قرن. وما نعنيه بنظام التعذيب هنا، هو أن التعذيب يمثل بداية النظام ونهايته، فليس له أي سمات أخرى معروفة.

لم يكن لنظام الأسد الذي استمر 61 عامًا أي وظيفة سوى التعذيب. لأن نظام التعذيب هذا لم تكن له علاقة لا بحماية السلطة داخل البلاد، ولا بوجوده في تقاطع جيوسياسي إقليمي. إنه نظام ظلم وانحراف يتلذذ بممارسة الشر، ويضطهد الناس لأنه سادي. كما أن أعماله القائمة على التعذيب ليست حتى مجرد أداة لسياسة غير أخلاقية. ولو أنه قرر وضع حد لنظام التعذيب هذا وفضّل إجراء التغيير، عندما مدت تركيا يدها إليه قبل سنوات، لربما كنا نرى اليوم سوريا مختلفة تمامًا، بل وحتى منطقة مختلفة أيضا. في تلك السنوات، اعتقد كثيرون أن الأسد، الذي رفض العرض التركي ولم ينصت لأصوات الشعب السوري، كان عالقا في مخططات داعميه، وأسيرا للتعصب الطائفي الذي أحاط به. ولكن إذا ما نظرنا إلى طريقة تخلي الأطراف الداعمة للأسد عن نظامه، فإننا نستطيع أن نفهم بشكل أفضل، بأن الأسد نفسه لم يتمكن من التخلي عن نظامه القائم على التعذيب والذي أدمن عليه، وأنه بهذا الانحراف السادي، لا يمكنه العيش إلا داخل هذا النظام.

شراكة سادية مع إيران وإسرائيل في نفس الوقت

إننا نعلم أن الأسد، كان من جهة يقيم علاقة وكالة ووصاية بكل معنى الكلمة مع طهران، وفي نفس الوقت تحول إلى أداة إسرائيلية مكتملة الأركان. وبينما كان يقيم مختلف أشكال العلاقات مع حزب الله، كان من جهة أخرى، مجرد دولة لتنفيذ العمليات بيد الجيش الإسرائيلي. وقد كشفت الوثائق الرسمية التي ظهرت للعلن في الأيام القليلة الماضية، أن التحليلات التي وصفت سوريا طيلة سنوات بـ “العدو الأكثر راحة بالنسبة لإسرائيل”، هي في الواقع ساذجة جدا. وتبين من خلال ما رأيناه مؤخرا أن النظام السوري كان مجرد أداة عادية لدى إسرائيل، وأنه كان نظامًا وظيفيًا جعل ميليشيات حزب الله والقوى الوكيلة لإيران تتواجد في المنطقة تحت رقابة إسرائيلية. ورغم أن طهران كانت على علم بذلك، إلا أنها ظلت تعتقد بأنها تتعاون مع دمشق في إطار “محور المقاومة”، الذي كانت تجد صعوبة حتى في إقناع نفسها بشأنه. كما اتضح أنها اكتفت بمشاهدة تل أبيب وهي تتلاعب بكل شيء تقريبا طوال هذه السنوات. بعبارة أخرى؛ أصبح الجميع، باستثناء المعسكر الذي يدعو إلى “الحوار مع الأسد”، يقرون بأن نظام الأسد لم يكن يهتم أبدا بالمعاني والوظائف التي عهدتها المنطقة والعالم إلى سوريا في معادلات الشرق الأوسط، وأن وظيفته الوحيدة هي مواصلة نظامه القائم على التعذيب.

كيف يمكن لنظام أن يستمر في الوجود بهذا المستوى وطوال هذه الفترة الطويلة فقط من أجل التعذيب؟ ولماذا يكون هناك نظام لا يتمتع بأي سمات سوى السادية ويتلذذ في تعذيب شعبه بمشاعر مازوخية منحرفة؟ لدينا بالطبع تحليلات حول سبب وجوده. كما أن هناك مقاربات مختلفة لشرح كيفية وجوده، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو الجيوسياسية. ولكن هل لدينا تفسير لماهية العالم الذي يعيش فيه المدافعون عن وجود نظام تعذيب كهذا؟ هل الطبيعة المازوخية للنظام السادي أكثر وحشية، أم العقلية التي تحاول بشكل محموم الدفاع عن استمرار نظام التعذيب الطائش وترشيده؟

لماذا لا يشعر المدافعون عن النظام السادي بالخجل حتى الآن؟

لماذا يجب أن تكون هذه الأسئلة هي شاغلنا نحن بالتحديد؟ لأننا نعيش في نفس البلد مع هؤلاء الأشخاص الذين دافعوا دائما عن نظام التعذيب وشعروا بحزن عميق عندما انهار هذا النظام، كما لو أنهم فقدوا أحد أبنائهم. لو تكن دماء الأطفال الذين قتلوا قبل 11 عاما في بانياس، ودرعا، وحماة، ودمشق، والغوطة، كافية لإغراق هؤلاء، بل إنهم تباهوا بالظلم والغدر والجشع رغم تلك المشاهد. فهل سيغرقون اليوم في مآسي سجن صيدنايا التي تئن السماء لقسوتها؟ ما الذي يفكرون فيه الآن يا ترى؟ هل يظنون مثلا أن وطأة الانهيار الذي شعروا به بسبب هزيمة الأسد، قد خفت قليلا عندما نظروا إلى الصور الواردة من المسلخ البشري في صيدنايا؟ هذه الصور التي تجعل الناس يشعرون بالقهر حتى أثناء النظر إليها، هل تمنح هؤلاء “شعورا يعوض إلى حد ما الانهيار الذي عاشوه بسبب سقوط الأسد”؟

من المؤكد أن السطور والتحليلات التي كتبناها منذ عام 2012 حول الأزمة السورية ونظام الأسد، لا تحمل معان كبيرة في هذه المرحلة. فلا يمكن لأي تحليل أن يقدم صورة أكثر واقعية من سقوط وانهيار هذا النظام. ولا يمكن لأي تقييم متعجرف لما قد يحدث بعد الآن، أو شكل المستقبل الذي ينتظر سوريا، أو النظام الإقليمي الذي سيتشكل لاحقا، أن يكون أكثر إثارة للرعب من نظام التعذيب هذا الذي تم القضاء عليه. لا شك أن الفوضى تعد من بين التطورات التي يتوقع حدوثها بعد كل الثورات. وهناك ما يكفي من الجهات الفاعلة والأسباب الجيوسياسية لحدوث فترة من الفوضى في سوريا. ولكن يمكننا أن نراعي مشاعر الأبرياء الذين رسمت البسمة في وجوههم لأول مرة بعد سنوات طويلة، وذلك عبر تجاهل المتشائمين الذين يحاولون نشر الخوف والرعب بتحليلات واقعية للمخاطر الجيوسياسية في محاولة منهم على الأغلب لتخفيف الوجع الذي يشعرون بها بسبب خسارتهم الأسد.

حقيقة الثورة السورية

الحقيقة الأهم التي لا ينبغي نسيانها هي أن التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب السوري لتحقيق ثورته كانت حقيقية بشكل كامل حتى النهاية. المحبة النابعة عن حفاوة استقبال الناس للثوار في جميع المدن بعد سقوط الأسد، وهروب شبيحته المنتمين لشتى الأعراق، وانسحاب الروس، هي بكل تأكيد رأس المال الوحيد الذي تملكه سوريا الآن، وحتما سيكون هناك فاعلون كثر سيسعون إلى تلويثه. لكن من الواضح أن طاقة أياً منهم لن تكون قوية بما يكفي لخنق سوريا لفترة طويلة. وكما أظهرت الأحداث في النصف الأول من القرن الماضي، فإن سوريا بلد يصعب جداً تقسيمه، وفي نفس الوقت يعاني من مشكلة في الاتحاد. إنها تشبه، من جهة، بنية العراق، التي لا تتجزأ ولكنها تواجه صعوبة في البقاء موحدة. فمن أراد تقسيم العراق عرقياً اصطدم بالجدار الطائفي، ومن أراد تقسيمه على أسس طائفية فشل في حل مشكلة تقاسم الموارد الاقتصادية. وفي نهاية المطاف، وبعد 15 عاماً من الاحتلال وخسارة مئات الآلاف من الأرواح، اتفقوا على نظام هش لتقاسم السلطة. بالطبع، هذا النظام بعيد جدا عن تقديم بنية معقولة. لكنه رغم ذلك تحول إلى بنية اتفقت عليها جميع الأطراف المنهكة، لأنه منح بصورة حقيقية “وقفا لإطلاق النار ونظاما للتقاسم” في سبيل التحول الديمقراطي ونيل صفة الدولة الناضجة. ويمكن القول إن وضع سوريا أفضل بكثير من العراق في هذا الصدد.

هل تواجه سوريا التقسيم؟

إن تقسيم سوريا ومن ثم حكمها في وضعها المجزأ سيكون أمراً صعباً للغاية، وهو الأسلوب الأكثر تكلفة من حيث التنفيذ وفقاً لصيغة التعايش المشترك. وغني عن القول أن جميع الجهات الفاعلة في هذا المجال تعرف ذلك أفضل من أي الجميع. ومن الواضح أنه ستكون هناك جهات فاعلة إقليمية ستهدد النظام القائم في سوريا ما بعد الأسد الذي كان قد تحول منذ اليوم الأول إلى قوة وكيلة بيد القوى التي كانت تقف وراء صموده، وربما يسعى الفاعلون الذي خسروه إلى إيجاد قوى وكيلة جديدة لهم في هذا البلد. لن يكون من السهل العثور على هذه القوى الوكيلة الجديدة، وحتى لو عثروا عليها، فإنها لن تكون مفيدة وقابلة للاستخدام مثل الأسد. علاوة على ذلك، ومهما كان نظام الأسد فاسداً وأجوف، فقد تضاءلت بشكل كبير قدرات روسيا وإيران من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية لتحمل تكاليف عملياتهما في سوريا خلال الفترة الأخيرة. وبالتالي، ليس من الممكن أن تكون موسكو أو طهران جاهلتين بطبيعة “السندات الفاسدة” التي استثمروا فيها على مدار السنوات. لكن كان أمام الروس والإيرانيين خياران: إما الاعتراف بأنهم قاموا باستثمار جيوسياسي غير عقلاني، أو الاستمرار في دعم الأسد لإقناع أنفسهم، والمنطقة، والعالم لفترة من الوقت، بأنهم أظهروا عبقرية جيوسياسية من خلال الحفاظ على وجود الأسد. وهذه المشاهد ليست الأولى بالنسبة لطهران ولا لموسكو.

في الواقع، مع سقوط نظام الأسد، عادت المعسكرات الإقليمية التي سادت في الأشهر الأولى من الربيع العربي لتتشكل من جديد: معسكر أنصار الوضع الراهن الذي يجمع الخليج وإيران ومصر وإسرائيل على خط مماثل، ومعسكر المطالبين بالتغيير. من الصعب جدًا القول أن هذه المعسكرات تتمتع بنفس القدر من القوة بعد 12 – 13 عاما. وسوف تضع الثورة السورية كل هذه الجهات الفاعلة في أزمة شرعية كبيرة جدا. لأن تحقق رغبة الحشود الكبيرة من الشعب بسوريا في التغيير، وهي حقيقة واضحة، سيضع كل هذه الجهات الفاعلة وسط “اختبار إجهاد الشرعية”. لكن هذه المرة، لن يكونوا قادرين على محاربة التغيير بسهولة وفعالية كما كانوا قبل 13 عامًا، وسوف يضطرون للتحرك عبر استفزازات محدودة في البداية. وحتى في أسوأ السيناريوهات، فمن المرجح أن يشعروا بأن الطاقة الناتجة عن محاولة خنق الثورة السورية، ستنعكس عليهم.

وهنا، سيكون استمرار دور تركيا الاستباقي على الأرض دون تردد هو العنصر الأكثر أهمية في إرساء نظام سلمي في سوريا. من المعلوم أن هذه الجهات الفاعلة بذلت قصارى جهدها لجعل تركيا تدفع الثمن لأكثر من 10 سنوات، والخطوة الأهم التي ستمنعها من استهداف الثورة السورية، يمكن أن تتخذها أنقرة عبر استخدام كل قدراتها وأدواتها المتاحة لإرساء النظام في سوريا. وبعيداً عن التوقعات الساذجة، فإن نقل الخبرات والقدرات اللازمة لتعافي سوريا، بصورة سريعة ومكثفة، يعد الطريقة الأكثر واقعية وضرورية لتحقيق مصالح تركيا الجيوسياسية والحفاظ على السلام الإقليمي.

نظام التعذيب الذي أسسه الأسد، كان نظاما قائما على الفصل العنصري. ويمكن لسوريا الجديدة أن تحافظ على استقرارها بقدر امتلاكها لنظام تكون فيه الغالبية العظمى من السكان هي صاحبة الأرض، وتتمتع فيه جميع المكونات بالحصص التي تستحقها. بمعنى آخر، لم يعد بإمكان أي طرف بعد الآن أن يقيم كيانا مستقرا ومستداما من خلال تأسيس نظام قائم على الفصل العنصري، لا في عموم سوريا ولا في أي منطقة من مناطقها. إن اكتساب سوريا لنظام أكثر لامركزية، وظهور كيانات مصطنعة تطورت خلال الأزمة في السنوات العشر الماضية، هي رغبات مختلفة؛ الأولى يمكن تفعيلها بموافقة الشعب السوري. أما الثانية، فهي تحويل أراضي دولة منهارة إلى أجزاء مبعثرة عبر شتى أنواع المساومات من قبل كيانات مختلفة، كبيرة وصغيرة، مثل “داعش” و”حزب الله” و”بي كي كي” وغيرها من التنظيمات، وفي أوقات مختلفة.

لذلك، سوف تضطر هذه المجموعات لأن تفهم بأن كل ما حققته من مكاسب في بيئة نظام الأسد التي جرت سوريا بأكملها إلى الكارثة، هي مكاسب مؤقتة وليست بنيوية، تماما مثلما اضطر حزب الله لقبول ذلك فعليا. وسيتعين عليها الاختيار بين مواجهة هذا الواقع والتحول إلى جزء خجول من الثورة السورية، أو اختراع “دويلات” عديمة السكان في “مناطقها المحررة”. ولا شك أن توجهها نحو الخيار الثاني لن يمنحها وضعًا مستدامًا. لأن “الشعب” الذي فشل النظام في إيجاده لن تتمكن هذه القوى العميلة من إيجاده أيضًا.

“بي كي كي/قسد” عبء على الأكراد

وبعبارة أكثر وضوحا، لن يكون من الممكن لا بالنسبة إلى “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية) ولا تنظيم “بي كي كي” (حزب العمال الكردستاني)، العثور على “شعب” مناسب وكاف لمساحة الحكم والسلطة التي يحلمان بها. علما أن “قسد” ستصبح، بعد رحيل الأسد، محكومة بالتكلفة السياسية أو العواقب بسبب “بي كي كي”. لقد انتهت صلاحية الخطاب الرخيص لتنظيم “بي كي كي”، والذي يقول إن “داعش موجود، وسيظل موجودًا إلى الأبد”، مثلما انتهى الخطاب الهستيري الذي يقول إن “الرجعية موجودة، وستظل موجودة إلى الأبد”، الذي كان يردده الكماليون دائما لدرجة مملة. فأولئك الذين لا يستطيعون حتى تخيل تركيا بدون “بي كي كي”، ويتغذون على الخوف، أصبحوا الآن في مرحلة لا يمكن لهذا النوع من الخطاب أن يستمر فيها. إنهم لا يبالون على الإطلاق بما فعلته المخابرات، كما في الثمانينات والتسعينات، تجاه الأكراد السوريين. وفي الجوهر، تستغل هذه العقلية الحرب ضد داعش، وتحولها إلى وثيقة تأمين في الغرب، مقابل كونها أداة رخيصة في الحرب ضد الثورة السورية. ويبدو من الصعب أن يكون لهذا العقل أي وظيفة سوى أن يشكل عبئاً على الأكراد. وعلى الرغم من كل شيء، لا يزال هناك مجال لبعض العناصر الأقل اغترابًا والأكثر ارتباطًا بسوريا، داخل هذا الكيان، لكي تكون جزءًا من سوريا. وتُعتبر الثورة السورية ورحيل الأسد الفرصة الأخيرة لهذه العناصر للانخراط في عملية التطبيع هذه.

لا توجد أبدا أرضية يمكن أن تستند إليها الولايات المتحدة لترسيخ وجود “قسد” في سوريا، والذي أصبح تراجيكوميديا. لأنه يبدو من الصعب أن يكون لـ”قسد”، سوريا خاصة بها. وبالمثل، لن يحظى تنظيم مسلح لا نعلم أي مصدر لشرعيته سوى القوة العسكرية وواشنطن بسمعة طيبة عبر صفة “الديمقراطية”. وأخيرًا، من غير الممكن أن يبقى لدى كيان فقد سوريا، أي جميع العناصر (الكردية والعربية) غير التابعة لـ”بي كي كي”، أي “قوة” ذات معنى على المدى المتوسط والطويل.

قبل فوات الأوان، سيكون الخيار الأكثر صوابًا بالنسبة لـ”قسد”، أي “بي كي كي”، هو اتخاذ خطوة نحو التحول إلى السياسة والتسوية لأول مرة في تاريخ التنظيم. لكن، إذا ما نظرنا إلى عقلية “بي كي كي” التي تعتمد على مفهوم “الملكية بالتناوب” منذ سنوات، فمن المحتمل أن يبحث عن جهة فاعلة أخرى ليحول إليها “الملكية” التي في يده مرة أخرى بعد الشعور بالضغط، بدلاً من السعي نحو التسوية والتوجه نحو السياسة. والعثور على مثل هذه الجهة الفاعلة لن يكون سهلا هذه المرة. لأنه من غير السهل أن تنتهي أزمة الوعثاء التاريخية وآلامها لدى كيان عفا عليه الزمن ويتنقل منذ عقود بين روسيا وسوريا وإيران والولايات المتحدة، ولا يعادي سوى تركيا. وربما لن يكون من الخطأ القول إن “بي كي كي” يتعرض للاختبار للمرة الأخيرة، فهو يسعى وراء وهم إقامة سلطة تنظيم غير ذات معنى في منطقة صغيرة جدًا من الأراضي، يسكنها عدد قليل من الأكراد، الذين يشكلون جزءاً صغيراً من سكان سوريا، دون أن يتردد في تدمير مستقبل جميع الأكراد في سوريا.

يخشى “بي كي كي” من وجود تركيا (وسوريا) تصان فيها كرامة الأكراد بشكل حقيقي ويتمتعون فيها بالمساواة مع جميع المواطنين. في المقابل، هناك جهات تخشى من أن تتحول تركيا إلى دولة ديمقراطية حقيقية وتكتسب دستورا ديمقراطيا يليق بمكانتها. ومن غير المستغرب أن يتعاون هذان الطرفان في هذه المرحلة. من غير المقبول أن تُهزم بلادنا مرة أخرى على يد الجهات الفاعلة للقرن العشرين وعقليتها. فنحن نعلم جيدا وعن ظهر قلب أدوار تلك الجهات وحقيقة خطابها ومنطقها ومستوياتها الأخلاقية عن ظهر قلب منذ سنوات. إن المساعي التي بدأت في نطاقها الخاص من أجل الحل النهائي للمشكلة في الفترة الأخيرة يجب أن تُملأ بمحتوى حقيقي لتصل إلى حل نهائي، وهذا سيكون ذا قيمة كبيرة بالنسبة لتركيا بقدر انهيار نظام البعث. لأن الأساطير والمخاوف التي نشأت حول القضية الكردية، إذا ما تم السعي إليها بصدق، ليست تابوًا أقل فسادًا من نظام الأسد الذي ذهب إلى مزبلة التاريخ في 11 يومًا. ومن الممكن حلها بشكل أسرع من المتوقع من خلال التغلب على المخاوف والتابوهات التي تعود إلى قرون مضت، بشجاعة وأخلاق وضمير. يكفي أن يتم إدراك أن الذين ظلوا لسنوات يروجون للقوة الوهمية لنظام الأسد وحجمه ومهابته هم نفس المحتالين الذين اخترعوا التابوهات والمخاوف في القضية الكردية.

كل الأنظمة القديمة انهارت مع الأسد

لقد انهار نظام التعذيب الذي بناه الأسد. ومن الضروري أن نرى أن سوريا هي نموذج مصغر للنظام الإقليمي، وأن هناك من بقي تحت أنقاض النظام المنهار. كل عنصر ديموغرافي أو عرقي أو طائفي تحتويه سوريا، موجود في الشرق الأوسط أيضا، وكذلك العكس. وبالمثل، فإن كل مشاكل المنطقة تعتبر مشاكل لسوريا أيضاً. وفي هذا الإطار، كان الأسد يمثل الحلقة الأقل معنى في نظام التعذيب المنهار. لأن عملية انهيار الأسد تمت خلال 11 عامًا بالإضافة إلى 11 يومًا. لم يكن الأسد هو الذي قاوم طيلة 11 عاما، ولم يكن هو الذي سقط خلال 11 يوما. وبالتالي، لم يكن الطرف المنهار هو نظام الأسد لوحده بالطبع. فإلى جانب الأسد، خسرت في سوريا أيضًا جميع القوى التي جعلت النظام يصمد حتى هذا الوقت. ولابد من إدارة الفجوة السياسية التي سيحدثها هذا الانهيار بطريقة بعيدة كل البعد عن السذاجة. لأن مستوى الترشيد الجيوسياسي للقوى الخاسرة سيتم تحديده من خلال كيفية إدارة هذه الفجوة بشكل استباقي.

لا شك أن “تركيا” التي ظهرت في المسجد الأموي، تبعث على الأمل فيما يتعلق بإدارة هذه الفجوة وسدها. فمنذ عام 2012، أصبحت تركيا تهيمن على خريطة الأعصاب الجيوسياسية الإقليمية والعالمية في سوريا على وجه الخصوص، إلى جانب بنائها ملفا متكاملا حول هذا البلد. وأصبحت أنقرة الآن أكثر دراية بأي عصب يمكن أن تحرك أي منطقة وفي أي وقت. وبالتالي، يجب أن تكون فاعلًا استباقيًا في الجغرافيا السياسية السورية بوصفها لاعبًا تتقن الذاكرة العضلية. إن إنشاء الفترة التي سيتم فيها تحقيق الاستقرار وتعزيزه في سوريا هو حق تركيا ومسؤوليتها في الوقت نفسه. كما أن الطريق نحو ضمان شعور الجماهير السورية بالأمان يمر أيضًا عبر أنقرة ذات فعالية. ومن المؤكد أن المشاركة النشطة في مجال الأمن،  بشكل خاص، وخلافًا للاعتقاد السائد، ستقدم مساهمة إيجابية في علاقات تركيا مع جميع الأطراف الإقليمية الفاعلة أيضا.

Taha Özhan

طه أوزهان
يشغل أوزهان منصب مدير الأبحاث في معهد أنقرة، وعمل كأكاديمي زائر في جامعة أكسفورد خلال عامي 2019-2020. وشغل منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء، وأصبح نائبًا في البرلمان التركي في الدورتين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين، ورئيسًا للجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، بين عامي 2014 و2016. وفي الفترة بين عامي 2009 و2014، شغل منصب رئيس مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (سيتا)، وكان أحد مديريه المؤسسين في عام 2005. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، وآخر كتاب أصدره يحمل عنوان "تركيا وأزمة نظام سايكس بيكو".
البريد الإلكتروني: [email protected]

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Yazdır