أدت الحرب الأهلية في السودان التي بدأت في 15 أبريل 2023 إلى مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص، وإلحاق دمار كبير بالبلاد، ونزوح ملايين الأشخاص، وظهور خطوط صدع للصراع يستحيل إغلاقها. الحرب الأهلية التي اندلعت بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وتوسعت مع انضمام مجموعات مختلفة، تستمر في التسبب في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم. وقد باءت جميع الجهود الدولية ومبادرات الوساطة الرامية إلى وقف الحرب بالفشل. ولم يعطِ أحد أولوية للصراع الدائر وللتكلفة الإنسانية الهائلة الناجمة عنه بسبب الانشغال بالقضايا العالمية الأخرى. كانت الأمم المتحدة ومجلس الأمن “منشغلين” بأزمات أخرى. أما الاتحاد الأوروبي، فكان مهتمًا بإدارة موجة الهجرة المحتملة التي قد تصل إلى أوروبا بدلًا من التركيز على الصراع. وفضل الاتحاد الأفريقي أن يتصرف وكأن الصراع ليس على أجندته. أما الدول ذات الأغلبية المسلمة، فقد أظهرت عدم امتلاكها القدرة على التعامل مع قضايا متعددة في آن واحد، كما أن الحرب في السودان لم تكن حتى على أجندة معظمها. بلغت درجة اللامبالاة مستوى عاليًا لدرجة أنه لم يتم بذل أي جهد مشترك لتقديم المساعدات الإنسانية. وقد تحققت جميع المخاطر التي أشرت إليها في مقال كتبته في 4 يونيو 2024 بعنوان “قضية السودان والمخاطر المحتملة”.
كيف تم الوصول إلى اليوم؟
الخطوة الأولى لإيجاد حل صحي لأي مشكلة هي تحديد المشكلة وفهم العوامل التي ساهمت في ظهورها وتفاقمها، وذلك بتجاوز الافتراضات الأيديولوجية والنظر إليها بموضوعية. إذا أردنا تقديم ملخص زمني للأحداث، فإن عمر البشير، الذي حكم البلاد لأكثر من 30 عامًا، ترك منصبه في 11 أبريل 2019 بعد الاحتجاجات التي بدأت في 19 ديسمبر 2018، والتي انحاز خلالها الجنرالات إلى جانب المتظاهرين. كان هذا أول “تدخل” لوقف الاحتجاجات المدنية. وكان أحمد عوض بن عوف على رأس الإدارة العسكرية التي تشكلت آنذاك. ومع استمرار الاحتجاجات رغم وجود بن عوف، تم تنفيذ “تدخل” غير معلن ثانٍ بعد ثلاثة أيام، حيث تم تعيين عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان على رأس الإدارة العسكرية. ومع ذلك، وبسبب استمرار المتظاهرين في الخروج إلى الشوارع، تم تشكيل “مجلس السيادة” المكون من العسكريين والمدنيين بهدف تحقيق الشرعية السياسية المطلوبة.
بعد التوصل إلى اتفاق بين المدنيين الذين قادوا الاحتجاجات والعسكريين، تم التوقيع على “الإعلان الدستوري” في 17 أغسطس 2019. وفقًا لهذا الإعلان، بدأت “فترة انتقالية” كان من المتوقع أن تستمر 39 شهرًا، وذلك بعد أداء الجنرال البرهان اليمين الدستورية كرئيس لمجلس السيادة في 21 أغسطس 2019. ووفقًا للاتفاق، كان من المقرر أن يخدم الجنرال البرهان لمدة 21 شهرًا، ثم يتولى عضو مدني رئاسة مجلس السيادة للـ18 شهرًا المتبقية. في 21 أغسطس 2019، تم تعيين عبد الله حمدوك رئيسًا للوزراء، وتم الإعلان عن تشكيل مجلس الوزراء في 5 سبتمبر 2019. ومع ذلك، وبالرغم من مرور الموعد المحدد لنقل رئاسة مجلس السيادة إلى العضو المدني، تغير موقف الائتلاف الذي تشكل حول الجيش. ورغم وجود مادة صريحة في الإعلان الدستوري، تم التراجع عن نقل السلطة إلى العضو المدني.
في سياق الأحداث التي بدأت في عام 2019، تم تنفيذ “التدخل” الثالث في 25 أكتوبر 2021 بقيادة الجنرال البرهان، حيث تمت الإطاحة بالحكومة المدنية واعتقال بعض الوزراء. أعلن رئيس الوزراء حمدوك أنه لن يدعم “التدخل” ودعا الشعب إلى المقاومة. ونتيجة لذلك، تم وضع حمدوك قيد الإقامة الجبرية في 26 أكتوبر. في نفس اليوم، تم حل مجلس السيادة المكون من العسكريين والمدنيين، وتم إعلان حالة الطوارئ، وتم اعتقال رئيس الوزراء حمدوك والوزراء. علما أنه وفقًا للإعلان الدستوري الذي تم التوقيع عليه في 17 أغسطس 2019، كان من المفترض أن يتولى عضو مدني رئاسة مجلس السيادة في مايو 2021، وأن تنتقل إدارة البلاد إلى المدنيين بعد 18 شهرًا.
منذ تأسيسه، كان السودان يدار إلى حد كبير من خلال “تدخلات” عسكرية، وعلى الرغم من هذا التقليد المتجذر، استمر الجيش في البحث عن الشرعية. وللتغلب على أزمة الشرعية، تم التوقيع على بروتوكول جديد للفترة الانتقالية في 19 أبريل 2022 خلال اجتماع واسع ضم العسكريين والمدنيين. تضمنت البنود الرئيسية لبروتوكول الفترة الانتقالية: الإفراج عن السجناء السياسيين، وخلق مناخ سياسي ديمقراطي، ومشاركة جميع الأطراف في عملية صنع القرار، والالتزام بأحكام اتفاقية جوبا، وتعيين رئيس وزراء مدني، وتشكيل مجلس وزراء (20 وزيرًا) يمثل جميع ولايات السودان، وإعداد دستور جديد، وإدماج قوات الدعم السريع في الجيش، وضمان الديمقراطية والحكم المدني والفيدرالية والعدالة الانتقالية، وإنهاء الفترة الانتقالية بإجراء انتخابات في مايو 2024. ومع ذلك، مثل جميع النصوص السابقة التي وقعتها الأطراف، لم يتم تنفيذ هذا النص.
قد تكون هناك تفاصيل مهمة تتعلق ببداية الصراع. لكن التقييمات الخارجية ترى أن الحرب تقوم في الأساس على تقاسم السلطة، والصراع على النفوذ، ودمج القوى، ورغبة الهياكل المنظمة المتبقية من عهد البشير في عدم التخلي عن السلطة وتدخلها في العملية. من الخطأ اعتبار الحرب مجرد “صراع على السلطة الشخصية” بين زعيمين. الحرب هي صراع يقوم على جهود السودان، التي يدار إلى حد كبير من قبل العسكريين منذ استقلاله، لتحديث نفسه، وإعادة بناء الدولة، ومستقبل الهياكل العسكرية، والبحث عن عمل ديمقراطي، والصراع على النفوذ بين القوى الإقليمية.
الأطراف المتحاربة
من المعروف أن الحرب الأهلية المستمرة في السودان تدور بشكل عام بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. في الواقع، ما يحدث في السودان هو حرب أهلية يقودها طرفان رئيسيان، ولكنها تشمل العديد من الأطراف الأخرى. المجموعة الأولى تضم القوات المسلحة السودانية، مجموعة مناوي، وكتيبة البراء بن مالك (حركة تضم عناصر من عهد البشير)، وقوات درع السودان (دارفور)، وفصيل مصطفى تمبور، ولجان المقاومة السودانية (الجناح المسلح)، ومجموعات سودانية مدعومة من إريتريا، وفصيل موسى هلال (قوات تابعة لزعيم قبيلة المحاميد، موسى هلال). والمجموعة الثانية تتكون من قوات الدعم السريع. بالإضافة إلى ذلك، هناك مجموعات أخرى تقاتل ضد القوات المسلحة السودانية ولكنها لا تتحالف مع قوات الدعم السريع، مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبدالعزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد النور. على الرغم من أن بعض المجموعات المدنية ليست طرفًا مباشرًا في الصراع المسلح، إلا أنها تلعب دورًا مهمًا في جهود حل الصراع. تشمل هذه المجموعات تنسيقية تقدم (تحالف سياسي يضم رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك)، والجبهة الثورية، وغرف الطوارئ، والبرلمان، والمجموعات النسوية السياسية والمدنية (منسم)، والمنظمات غير الحكومية، وبعض الأحزاب السياسية.
المفاوضات والبحث عن حلول
على الرغم من انخفاض مستوى الاهتمام والتركيز والمشاركة، كانت هناك بعض المحاولات لتحقيق وقف لإطلاق النار. يمكن تصنيف هذه المحاولات في عدة مبادرات، منها مفاوضات جدة، ومبادرة جيران السودان، ومبادرة الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية للتنمية، ومفاوضات المنامة، ومحادثات جنيف.
أولى محاولات البحث عن حل كانت مفاوضات جدة التي بدأت بمبادرة من السعودية والولايات المتحدة. تم عقد هذه المفاوضات مرتين. الأولى بدأت في 6 مايو 2023 وانتهت في 24 يوليو 2023. كان الهدف الرئيسي من هذه المحادثات هو الوصول إلى وقف لإطلاق النار يسمح بتوصيل المساعدات الإنسانية ويضمن حماية المدنيين. ومع ذلك، وعلى الرغم من بعض الجهود المبذولة في هذا الصدد، لم يتم تحقيق أي نتائج. حتى أن قضايا مثل إنشاء آلية لوقف القتال وبدء عملية سياسية لحل الأزمة لم تتم مناقشتها. بعد أن غادر وفد القوات المسلحة السودانية المفاوضات للتشاور مع القيادة وعدم عودتهم، غادر وفد قوات الدعم السريع أيضًا بعد انتظار ثلاثة أسابيع في جدة، مما أدى إلى فشل الجولة الأولى من المفاوضات. الجولة الثانية من مفاوضات جدة بدأت في 25 أكتوبر 2023 وانتهت في 3 ديسمبر. شاركت في هذه الجولة الإمارات العربية المتحدة والهيئة الحكومية الدولية للتنمية، ولكن على الرغم من المناقشات الطويلة، لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار.
ثانيًا، على الرغم من عدم وجود بحث فعلي عن حل، عقد جيران السودان اجتماعًا في مصر في يوليو 2023. شاركت في هذا الاجتماع مصر وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا وإثيوبيا وإريتريا. ومع ذلك، لم ينتج عن هذا الاجتماع أي مقترحات أو خطوات ملموسة.
ثالثًا، كانت مفاوضات المنامة هي المحادثات التي أسفرت عن نتائج ملموسة. تم عقد هذه المفاوضات بين 7 يناير و26 يناير 2024 بمشاركة البحرين والإمارات العربية المتحدة ومصر والولايات المتحدة والسعودية. حضر المفاوضات قادة من المستوى الثاني يمثلون القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. وقع الطرفان على وثيقة تحدد المبادئ والأسس لحل شامل. تقدمت المحادثات بشكل يتضمن خطوات لوقف القتال. تم تنظيم اجتماع جديد بين الطرفين، ولكن بسبب عدم حضور ممثل القوات المسلحة السودانية الكباشي، الذي استخدم مشكلة في طائرته كذريعة لعدم الحضور، انتهت المفاوضات دون تحقيق أي نتائج.
رابعًا، بناءً على طلب قائد القوات المسلحة السودانية، بذلت الهيئة الحكومية الدولية للتنمية جهودًا لعقد اجتماع مباشر بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. كان من المقرر عقد الاجتماع في مدينة عنتيبي بأوغندا بحضور قادة الطرفين وممثلي الهيئة الحكومية الدولية للتنمية، ولكن بسبب عدم حضور قائد القوات المسلحة السودانية، لم يتم عقد الاجتماع.
خامسًا، كانت المحادثات الأخيرة بين الطرفين في جنيف. بناءً على دعوة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للسودان رمطان لعمامرة، تم عقد سلسلة من الاجتماعات في جنيف بين 10 و19 يوليو 2024. على الرغم من وصول وفد القوات المسلحة السودانية إلى جنيف، إلا أنه لم يشارك في المحادثات، والتي جرت بين الأمم المتحدة ووفد قوات الدعم السريع. ركزت المحادثات بشكل رئيسي على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين.
سادسًا، كانت المحادثات الثانية في جنيف. تم عقد هذه المحادثات بدعوة من الولايات المتحدة وبمشاركة السعودية وسويسرا والإمارات العربية المتحدة ومصر والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. بدأت المحادثات في 14 أغسطس 2024، وكانت الأولوية المباشرة هي تحقيق وقف لإطلاق النار وحماية المدنيين وإنشاء آلية مراقبة. ومع ذلك، وبسبب عدم مشاركة القوات المسلحة السودانية، لم يتم التوصل إلى أي نتائج.
أحدث الجهود في إطار البحث عن حلول كانت المبادرات التي قدمتها تركيا. نظر كل من الطرفين بشكل إيجابي إلى جهود تركيا، خاصة في ضوء تجربتها الناجحة في الوساطة بين إثيوبيا والصومال. ومع ذلك، فإن الأحداث الجارية في سوريا أدت إلى إبعاد السودان عن دائرة الاهتمام المباشر، ولم تسفر الجهود التركية حتى الآن عن نتائج ملموسة، على الأقل في الوقت الحالي.
لماذا فشلت هذه المبادرات؟
تعد أسباب فشل المبادرات والجهود السابقة التي ذكرناها أمرًا بالغ الأهمية لتحسين تخطيط الجهود المستقبلية. ويمكن التركيز على سبعة أسباب رئيسية:
- عدم رغبة الأطراف المتحاربة في الحل: عند النظر إلى المحادثات التي جرت والنتائج التي تمخضت عنها، يصعب تحديد أي من الطرفين كان أكثر استعدادًا للتوصل إلى حل. السؤال المهم هنا هو ما إذا كان هذا التردد طبيعيًا أم أن عوامل خارجية لعبت دورًا. في هذا الصدد، يُشار غالبًا إلى تأثير عناصر نظام البشير السابق على القوات المسلحة السودانية. من الضروري تحليل هذا التأثير بعناية لضمان تقدم جهود البحث عن حل.
- الدعم العسكري والاقتصادي المستمر من الدول الأجنبية: استمرار الدعم الأجنبي للأطراف المتحاربة كان عاملًا رئيسيًا في تعقيد الوضع. كان من الضروري أن تظهر هذه الدول استعدادًا لدعم الحل، ولكن لا توجد معلومات تشير إلى أن هذا الموضوع تم تحليله أو تقييمه بشكل كافٍ.
- مشاكل في جهود الوساطة: تم تنفيذ جهود الوساطة من قبل جهات ضيقة النطاق، ولم تحظَ بقبول كامل من الطرفين، بل أثيرت شكوك حول حياديتها، كما عانت من مشاكل في “الاتساق”. على سبيل المثال، بينما يتم اعتبار مصر طرفًا في الصراع، يتم تنظيم اجتماعات حل الأزمة على أراضيها. وتنطبق تقييمات مماثلة على كينيا.
- التحليل الخاطئ للصراع على أنه صراع بين جنرالين فقط: هذا التحليل لوحده غير دقيق. هناك العديد من المجموعات المختلفة ضمن الأطراف المتحاربة، ويتم تجاهل تأثيرها. يمكن تصميم المفاوضات على مرحلتين: أولاً، التركيز على تحقيق وقف إطلاق النار، ثم الشروع في عملية تفاوض سياسي تشمل الأطراف غير المتحاربة أيضًا.
- عدم قيام الوساطة بالضغط الكافي على الأطراف: فضلت الجهات الوسيطة نهجًا يسمح للأطراف المتحاربة باختيار المنصة التي تناسبها، بدلًا من ممارسة ضغط قوي لإجبارها على التوصل إلى حل.
- تأثير عناصر نظام البشير والهياكل المنظمة: يُزعم أن هذه العناصر لا تزال تتمتع بنفوذ قوي داخل القوات المسلحة السودانية وهي أيضًا طرف في الصراع.
- المواقف غير المعلنة: من المهم مراعاة المواقف التي لم يتم التصريح بها علنًا، والتي قد تكون قد أثرت على فشل المفاوضات. بدون فهم هذه المواقف، يصعب تحديد من يرغب في الحل ومن لا يرغب فيه، مما قد يعيق التخطيط للمستقبل.
في قضية خطيرة مثل الحرب، حيث تكون حياة الناس على المحك، من المهم أيضًا ملاحظة أن بعض الجهات تتخذ مواقف بناءً على اعتبارات أيديولوجية، مما يعقد عملية البحث عن حلول.
إذا انتهت الحرب، هل ستتوقف الصراعات؟
عند النظر إلى مستوى التصعيد الذي وصلت إليه الحرب وتنوع الفصائل المشاركة في الصراع، يصبح من الواضح أن إنهاء الحرب وحده لن يكون كافيًا لتحقيق سلام دائم. السلام الدائم يتطلب حلًا سياسيًا قائمًا على الانتخابات يشارك فيه جميع الأطراف. في حال عدم تحقيق ذلك، يمكن توقع أن الفصائل التي ستُعتبر خاسرة في الحرب ستستمر في القتال بأشكال مختلفة، ربما على شكل مجموعات أصغر تعتمد على الغضب المتراكم لمواصلة الصراع. لذلك، يجب أن تهدف المفاوضات أولاً إلى تحقيق وقف إطلاق النار وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
تشير الخبرات الميدانية إلى أن انتصار أحد الطرفين، سواء كان القوات المسلحة السودانية أو قوات الدعم السريع، لن يؤدي إلى استقرار السودان. علاوة على ذلك، في ظل التوازن الحالي للقوى، يبدو تحقيق انتصار مطلق لأحد الطرفين شبه مستحيل. إذا انتصرت قوات الدعم السريع، فقد تلجأ عناصر النظام السابق إلى حرب العصابات. أما إذا انتصرت القوات المسلحة السودانية، فستواجه على الأرجح عشرات الجماعات الجديدة المشابهة لقوات الدعم السريع. لذلك، من المهم أن تكون هناك رؤية سياسية واضحة تحدد الهدف الرئيسي للمفاوضات. بمعنى آخر، يجب تطوير منظور رئيسي للحل يهدف إلى تحقيق مشاركة سياسية شاملة لجميع الأطراف.
كيف يمكن إدارة مشكلة عناصر نظام البشير؟
بين عام 2019 وبداية الحرب في 15 أبريل 2023، تم التوقيع على وثيقتين من قبل الأطراف المعنية تتعلقان بانتقال إدارة البلاد إلى المدنيين وإجراء انتخابات. ومع ذلك، فإن السبب الرئيسي وراء عدم رغبة العسكريين في التخلي عن السلطة يعود إلى التحالف المستمر بين قيادة القوات المسلحة السودانية والعناصر المنظمة التي كانت في السلطة خلال عهد البشير. هذا التحالف هو استمرار للتوترات التي ظهرت خلال وبعد حكم البشير. يمكن تعريف هذه المشكلة على أنها مشكلة تمثيل بين الحكومة المركزية والأطراف، والفجوة بين النخبة الحاكمة والشعب. يعتبر شعور جزء كبير من الشعب بعدم وجود تأثير حقيقي لهم في إدارة البلاد مشكلة كبيرة. لا توجد معلومات تشير إلى أن الحكام الحاليين قد فهموا هذه المشكلة أو حاولوا إيجاد حلول لها.
في الواقع، كان تنحي البشير عن السلطة نتيجة لمحاولة استمرار التحالف المذكور في إدارة البلاد بشكل مختلف، وليس فقط نتيجة للاحتجاجات. أما محاولة دمج المدنيين في السلطة لمنع الاحتجاجات، فقد انتهت في أكتوبر 2021. ما حدث يمكن تفسيره على أنه رغبة العسكريين في التركيز على السياسة والاقتصاد بدلًا من الأمن القومي، ورغبتهم في الحفاظ على الامتيازات التي حصلوا عليها. بعد استيلاء الجنرال البرهان على السلطة، كان أحد أول إجراءاته حظر حزب المؤتمر الوطني، الذي كان يحكم خلال عهد البشير، بسبب الاحتجاجات. هذا القرار فتح الباب أمام عناصر نظام البشير للتأثير على الضباط المتوسطين والكبار في القوات المسلحة السودانية، ويُعتقد أن هذا الوضع كان له تأثير في استمرار الحرب.
كيف يجب أن تكون المبادرة الجديدة؟
حاليًا، لا توجد مبادرة نشطة تهدف إلى وقف الحرب وتحقيق السلام. ومع ذلك، هناك بعض الجهود التي تبذلها تركيا. لتجنب فشل المبادرات الجديدة كما حدث مع سابقاتها، يجب تحليل التجارب السابقة بعناية. بعد مناقشة واسعة، أشرنا أعلاه إلى العوامل الرئيسية التي نعتقد أنها أثرت على المفاوضات. ومع ذلك، لا يزال هناك ما يمكن فعله، ويجب التركيز على النقاط التالية:
أولاً، يجب تبني نهج جديد في الوساطة يختلف عما تم القيام به حتى الآن. هذا النهج الجديد لا يتطلب فقط وسيطًا جديدًا، بل يتطلب أيضًا طريقة جديدة في التعامل مع الأزمة. السمة الرئيسية لهذا النهج هي إشراك الأطراف المتحاربة بالإضافة إلى العناصر المدنية التي ليست طرفًا في الصراع في عملية التفاوض. في حين أن جانب وقف إطلاق النار يهم الأطراف المتحاربة، يجب ألا ننسى أن جذور المشكلة هي سياسية إلى حد كبير. لذلك، من المهم إشراك العناصر السياسية في العملية. وبالتالي، يجب أن يكون التركيز على إنشاء إطار سياسي وليس فقط على تحقيق توازن بين المنتصرين والمهزومين في الصراع العسكري أو مناطق السيطرة داخل البلاد. ولذلك، بالإضافة إلى المفاوضات مع الأطراف المتنازعة للتوصل إلى وقف إطلاق النار، ينبغي أيضاً الشروع في عملية سياسية مدنية موازية. ومن الممكن صياغة المفاوضات بهذه الطريقة.
ثانيًا، يجب أن تتم المفاوضات بشكل سري قدر الإمكان لبناء الثقة بين الأطراف والحد من تأثير الجهات “الخفية” التي تتدخل في العملية. بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة إلى تنسيق دولي أكثر فعالية لممارسة الضغط على الأطراف المتحاربة وداعميها الخارجيين. يجب أن تعمل الوساطة الدولية على تشكيل رؤية سياسية واسعة للنظام ما بعد الحرب، بمشاركة قوية من المجموعات المدنية السودانية. كما يجب أن تقدم الوساطة الدولية الاعتراف السياسي والشرعية للأطراف المتحاربة فقط مقابل تنازلات قابلة للتطبيق. كما يجب تفعيل قنوات الاتصال الخلفية. هذه القنوات يجب أن تشمل جميع الجهات الفاعلة التي تمتلك قوة سياسية حقيقية في السودان.
في النهاية، وبسبب ديناميكيات عصرنا، لا يمكن حل أي صراع بالسلاح وحده. كما أنه من المستحيل إنهاء الصراعات دون وجود منظور سياسي للحل. السودانيون يعرفون هذا جيدًا بسبب ما حدث في جنوب السودان واتفاقية جوبا ودارفور. لذلك، فإن اقتراحًا سياسيًا سليمًا هو شرط أساسي. المشكلة التي نواجهها الآن هي الاختيار بين استمرار “السودان القديم” بمعادلات غامضة لإعادة تأهيله، أو بناء “سودان جديد” تعكس فيه إرادة الشعب في الحكم. إذا لم نتناول القضية من هذا المنظور، واستمررنا في قراءتها من منظور الصراع العسكري فقط، فمن المرجح أن النتيجة ستكون استمرار المأساة الإنسانية وثغرات الأمن، أو مجرد تأجيلها مؤقتًا.