في أعقاب الحرب الباردة، ظهر نظام عالمي أحادي القطب، ومع مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في التسبب بتآكل القانون الدولي من خلال تدخلاتها العسكرية أحادية الجانب، مما دفع البعض إلى تسمية هذه الفترة بعصر “القوة العظمى المارقة”. خلال هذه المرحلة، سعت الولايات المتحدة إلى فرض نظام عالمي جديد أحادي الجانب، مستغلة تفوقها العسكري والتكنولوجي والاقتصادي، بالإضافة إلى دورها الحاسم في المؤسسات الدولية. وقد سجل التاريخ غزو أفغانستان عام 2002 وغزو العراق عام 2003 كأولى الأفعال التي كشفت بوضوح عن هوية الولايات المتحدة كـ”قوة عظمى مارقة”، تلاها توسع العمليات العسكرية في اليمن وباكستان والسودان.
في ولاية دونالد ترامب الثانية، لم تكتفِ الولايات المتحدة بممارسة ضغوط غير قانونية على الدول الحليفة والمنافسة عبر حروب تجارية فحسب، بل أظهرت أيضاً نزعة تحريفية صريحة من خلال سياسات تهدف إلى ضم كندا وغرينلاند وبنما. كما أن دعمها غير المشروط للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، وتصعيد هجماتها العسكرية المباشرة على اليمن مؤخراً، واستمرارها في إبقاء خيار التدخل العسكري ضد إيران على جدول الأعمال، عزز مكانتها كـ”قوة عظمى مارقة” تتجاهل القانون الدولي بشكل ممنهج وتتسبب في زعزعة الاستقرار العالمي.
الهدف الأساسي من هذا المقال هو تحليل الديناميكيات البنيوية والاستراتيجية والأيديولوجية التي تدفع الولايات المتحدة إلى موقع “القوة العظمى المارقة”، ومناقشة حدود هذا الموقع في إطار مفاهيمي. الحجة الرئيسية للدراسة هي أنه، في ضوء ديناميكيات النظامين الدولي والإقليمي الحاليين، فإن أي تدخل عسكري محتمل من قبل الولايات المتحدة ضد إيران لن يدفع فقط حدود قدراتها العسكرية والاقتصادية إلى أقصى حد، بل سيجعل أيضًا موقع “القوة العظمى المارقة” غير قابل للاستدامة بنيويا. هذا الوضع سيؤدي إلى تعميق أزمة الشرعية للولايات المتحدة على المستوى الدولي، فضلاً عن مواجهتها خطر التمدد الاستراتيجي المفرط.
مفهوم القوة العظمى المارقة في سياق تحول السياسة الخارجية الأمريكية
في أدب العلاقات الدولية، استُخدم مصطلح “الدولة المارقة” (rogue state) لوصف الدول التي تنتهك القانون الدولي، وتتحدى المعايير العالمية، وتهدد النظام القائم. إذا كانت الدولة التي تنتهك القانون الدولي، وتتحدى المعايير العالمية، وتهدد النظام القائم هي قوة عظمى، فيتم توسيع هذا المفهوم ليتحول إلى صيغة “القوة العظمى المارقة”. تشير “القوة العظمى المارقة” إلى نمط سلوك الدولة التي تنتهك القانون الدولي بشكل منهجي ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على النطاق العالمي، وتوظف المعايير الدولية كأدوات، وتضع استخدام القوة فوق الاعتبارات الشرعية. تستغل هذه الفاعلات تفوقها العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لتشكيل النظام العالمي وفقًا لمصالحها، مما يخلق أزمة شرعية خطيرة في المجتمع الدولي ويؤدي إلى عدم استقرار منهجي.
في فترة ما بعد عام 2000، كانت هناك ثلاثة عوامل ديناميكية أساسية حاسمة في دفع الولايات المتحدة إلى موقع “القوة العظمى المارقة”:
أولاً، مع انتهاء الحرب الباردة، وفَّر النظام أحادي القطبية الذي نشأ تفاوتًا مطلقًا في القوة لصالح الولايات المتحدة، مما قلل من حاجة واشنطن إلى الالتزام بالقانون والمؤسسات الدولية. أدى الفراغ البنيوي الذي نتج عن انهيار الاتحاد السوفيتي إلى غياب قوة موازنة قادرة على الحد من تدخلات الولايات المتحدة، مما شجع على استخدام القوة من جانب واحد.
ثانياً، بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، أعادت الولايات المتحدة تعريف أولوياتها الأمنية بشكل جذري، ورسمت استراتيجيات تتعارض مع القانون الدولي مثل “عقيدة الضربة الاستباقية”. لم تكن غزوات أفغانستان (2002) والعراق (2003) مجرد التطبيقات الأولى لهذه الاستراتيجية الجديدة فحسب، بل ساهمت أيضًا في تكوين تصورات قوية داخل المجتمع الدولي بأن الولايات المتحدة تنتهك المعايير الدولية. وبالمثل، فإن العمليات العسكرية واسعة النطاق التي نفذتها في اليمن والسودان وباكستان كانت مؤشرات عززت هذا التوجه الاستراتيجي.
أخيرًا، فإن محاولة الولايات المتحدة تبرير مهمتها العالمية عبر خطاب “تصدير الحرية” و”الديمقراطية” قد غذَّى ادعاءً هيمنيًّا متفوقًا على المستوى الأيديولوجي. لكن هذا الخطاب، عندما اقترن في الممارسة بانتهاك القانون الدولي، تعمَّق التناقض بين ادعاء القيادة المعيارية للولايات المتحدة وأفعالها، وأصبح أزمة الشرعية حتمية. هذا النفاق الأيديولوجي أصبح أكثر وضوحًا خاصة في عهد ترامب، مع سياسات مراجعية صريحة (مثل نزعات الضم تجاه كندا وجرينلاند وبنما).
اعتمدت الولايات المتحدة على تفوقها البنيوي في القوة، والفرص الاستراتيجية، والمهمة الأيديولوجية، لتتحول إلى موقع “القوة العظمى المارقة”، لكن التغييرات الأخيرة في التوازنات الدولية والإقليمية تكشف حدود هذا الموقف. خاصة أن محاولة تدخل عسكري محتمل ضد إيران تُظهر أن الفجوة تتسع بين القدرة القوية للولايات المتحدة والواقع المنظومي، وأن استدامة موقع “القوة العظمى المارقة” أصبحت أكثر صعوبة. مثل هذا التدخل لن يعمق فقط مخالفة الولايات المتحدة للقانون الدولي، بل سيزيد من عزلتها المتعاظمة عالميًّا وفقدانها للشرعية.
ضعف القدرة الدفاعية الإيرانية وأسبابه
في عهد ترامب الثاني، زادت الضغوط العسكرية من محور الولايات المتحدة وإسرائيل على إيران بشكل ملحوظ. وتتحدث مصادر قريبة من ترامب وإسرائيل بقوة عن احتمال تنفيذ عملية عسكرية ضد إيران في الفترة الأخيرة. هذا التطور يُظهر أن الولايات المتحدة وإسرائيل مستعدتان لاتباع استراتيجية أكثر عدوانية ضد إيران في فترة تشهد تصاعد التوترات الجيوسياسية في المنطقة. على الرغم من بدء المحادثات المباشرة بين إيران والولايات المتحدة بعد سنوات طويلة، وتحقيق تقدم كبير في هذا المجال، إلا أن فكرة العملية العسكرية ضد إيران لا تزال تحظى باهتمام واضح في بعض مستويات الإدارة الأمريكية.
يمكننا الحديث عن ثلاثة عوامل رئيسية تحافظ على خيار العملية العسكرية ضد إيران على الطاولة:
أولاً، تبنت إيران في مطلع الألفية الجديدة ضمن عقيدتها الأمنية الجديدة استراتيجية تعطي أولوية لمواجهة أي هجوم محتمل خارج حدودها الوطنية. ومع ذلك، فإن الهجمات التي شنها إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، خاصة في منطقة الشام، أضعفت بشكل كبير الوحدات العسكرية التابعة لإيران بالوكالة في الشرق الأوسط، مما جعل إيران في وضع أكثر ضعفاً. إن إضعاف هذه القوات الوكلاء، التي كانت أحد الأهداف الاستراتيجية لإيران، هزّ بشكل خطير قدرتها الدفاعية في المنطقة وتركها في وضع هش.
ثانيًا: أدت استراتيجية الحروب بالوكالة التي طورتها إيران منذ مطلع الألفينيات، وسياسة “الهلال الشيعي”، إلى إثارة مخاوف عميقة وعدم ثقة لدى الأنظمة المحافظة في المنطقة. ونظرًا لأن هذه الأنظمة لا تمتلك القدرات العسكرية والصناعية الكافية لموازنة نفوذ إيران، فقد تبنت التقارب مع إسرائيل كاستراتيجية لضمان أمنها. ومن خلال الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل، حولت هذه الأنظمة إسرائيل – العدو الأكبر لإيران – إلى عنصر رئيسي في أمنها. ونتيجة لذلك، مكن هذا التحالف إسرائيل من تعزيز قدرتها على المناورة في مساحات واسعة من المنطقة، خاصة في الخليج، كما عزز موقعها الاستراتيجي الإقليمي.
أخيرًا: مع الفترة الثانية لترامب، وصل تيار من الصقور إلى السلطة في الولايات المتحدة. إن كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية الحالية يظهرون حماسًا شديدًا لتبني سياسات تدخلية واسعة النطاق في المنطقة، معتمدين على القدرات العسكرية والصناعية للولايات المتحدة، تمامًا كما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر. يعكس هذا النهج رغبة الولايات المتحدة في الاستمرار باستخدام تفوقها العسكري كأداة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية العالمية.
ملف إيران وحدود “القوة العظمى المارقة”
على الرغم من أن الأوساط الأمريكية والإسرائيلية تطرح بقوة الخيار العسكري تجاه إيران، إلا أن تحليلًا يعتمد على الديناميكيات الإقليمية والعالمية يُظهر أن التحركات الحالية على الصعيدين العالمي والإقليمي تُضعف بشكل جاد احتمال حدوث عملية عسكرية مكثفة. عند الأخذ في الاعتبار العوامل الإقليمية والعالمية، يتبين أن احتمالية شن عملية عسكرية كبيرة ضد إيران تضعُف بشكل ملحوظ استنادًا إلى عدة عناصر رئيسية.
أولًا، تمتلك إيران قدرات عسكرية يمكن أن يكون لها تأثير مباشر على موازين القوى الإقليمية. حيث تشكل قدراتها في الحرب غير التقليدية، وترسانتها الصاروخية، وشبكتها الاستراتيجية مع القوى الوكلائية (على الرغم من بعض الضعف الأخير فيها)، خط دفاع قويًا أمام أي تدخل عسكري محتمل. وهذا من شأنه أن يجعل أي تدخل خارجي أكثر تعقيدًا وكلفة.
ثانيًا، يُسهم الهيكل الديموغرافي لإيران بشكل كبير في قدرتها على الحفاظ على حرب طويلة الأمد. على عكس العديد من الدول في المنطقة، تمتلك إيران قاعدة سكانية كبيرة وشابة، مما يعني وجود مجموعة واسعة من الأفراد القادرين على دعم مواردها العسكرية بشكل مستمر. إن هذه الميزة الديموغرافية تعزز قدرة إيران على الصمود طويل الأمد في حالة نشوب صراع عسكري محتمل. بالإضافة إلى ذلك، عند النظر إلى النفوذ الأيديولوجي والسياسي لإيران على الأقليات الشيعية المنتشرة عبر مساحة جغرافية واسعة في عموم الشرق الأوسط، والتي تم تهميشها من قبل الأنظمة المحافظة، يتضح بشكل أدق مدى قوة قدرة البلاد على تطوير مقاومة ضد التدخلات الخارجية وإنتاج ردود فعل فعالة.
أهم من ذلك كله، أن العمق الجيوسياسي لإيران هو عامل يعزز إلى حد كبير موقعها الاستراتيجي ونطاق نفوذها في المنطقة. فإيران، الواقعة في قلب الشرق الأوسط، تمتلك تأثيرًا استراتيجيًا كبيرًا ليس فقط داخل حدودها، ولكن أيضًا في مناطق جغرافية حاسمة مثل منطقة الخليج وبلاد الشام والقوقاز وآسيا الوسطى. هذا النطاق الجغرافي الواسع للنفوذ يُظهر أن أي عملية عسكرية تستهدف إيران لن تقتصر فقط على حدودها، بل ستؤثر مباشرة على جميع الديناميكيات الجيوسياسية في هذه المناطق. وهذا الوضع يكشف أن أي تدخل محتمل سيكون له تأثيرات أكثر تعقيدًا وبعيدة المدى على الفاعلين الآخرين في المنطقة والتحالفات وهياكل الأمن. كل هذه العوامل تُضعف احتمالية حدوث تدخل عسكري ضد إيران، وفي الوقت نفسه تتطلب أن تأخذ في الاعتبار ردود فعل القوى العالمية والفاعلين الإقليميين تجاه مثل هذا التدخل.
بالإضافة إلى العوامل المذكورة، فإن السياسة التي تبناها الولايات المتحدة مؤخرًا والمتمثلة في “القوة العظمى المارقة”، قد تركتها تواجه العزلة في عمليات عسكرية معقدة. خصوصًا غزوات أفغانستان (2002) والعراق (2003)، والتي كانت مليئة بدروس مهمة للولايات المتحدة بهذا المعنى. فقد عارضت بقوة دول مثل ألمانيا وفرنسا، الحليفتان التقليديتان للولايات المتحدة، وكذلك الحليفتان الإقليميتان تركيا والمملكة العربية السعودية، غزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين. وعلى الرغم من الآراء المعارضة القوية من حلفاء الولايات المتحدة، إلا أن غزوات العراق وأفغانستان أدت إلى عزلتها دوليًا على نطاق واسع، مما تسبب في مواجهة الولايات المتحدة لمشاكل كبيرة عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا. هذه العمليات، التي تذكر بتجربة فيتنام السابقة للولايات المتحدة، لم تتركها تواجه خسائر كبيرة عسكريًا فحسب، بل أيضًا اقتصاديًا ودبلوماسيًا.
مع حقبة ترامب، تعرضت علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين مثل كندا والمملكة المتحدة لاهتزاز شديد، كما بدأت مرحلة من المنافسة الاقتصادية الحادة مع الدول الأوروبية. هذه التطورات تؤدي إلى مواجهة الولايات المتحدة لعزلة أعمق بكثير على الساحة الدولية مقارنة بالماضي. في مثل هذه الأجواء السياسية، فإن خيار التدخل العسكري المكثف ضد إيران لن يشكل بالنسبة للولايات المتحدة أزمة عسكرية فحسب، بل سيخلق أيضًا وضعًا بالغ التعقيد من النواحي الدبلوماسية والاقتصادية يصعب الخروج منه. فتدخل عسكري يفتقر إلى حد كبير لدعم الحلفاء سيُضعف بشكل خطير كلًا من القدرة التشغيلية الميدانية والشرعية العالمية، مما قد يُعرّض الولايات المتحدة لأزمة متعددة الأبعاد.
وفي الوقت نفسه، فإن التوجهات التصحيحية للولايات المتحدة التي أصبحت أكثر وضوحًا، تشجع الصين على التحرك بحرية أكبر في بحر الصين الجنوبي، وتدفع روسيا إلى فعل الشيء نفسه في أوروبا الشرقية. إن السياسات القسرية للولايات المتحدة التي تضغط على النظام الدولي، تهيئ الظروف لفاعلين مثل الصين وروسيا لطرح ادعاءاتهما التصحيحية التاريخية بشكل أكثر وضوحًا وجرأة؛ مما يؤدي إلى تصعيد التوترات الجيوسياسية في هذه المناطق إلى مستويات أعلى. وهذا الوضع يُضعف بشكل خطير جهود الولايات المتحدة للحفاظ على توازن القوى العالمي لصالحها، ويساهم في تشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب بسرعة.
إن تحول الولايات المتحدة إلى موقع “القوة العظمى المارقة” قد تشكل على أساس التفوق البنيوي في القوة والفرص الاستراتيجية والخطاب الأيديولوجي، إلا أن التغيرات في الديناميكيات العالمية والإقليمية تحد بشكل كبير من استدامة هذا الموقع. إن أي تدخل عسكري محتمل ضد إيران سوف يجعل الهوة بين القدرات القوية الحالية للولايات المتحدة ووقائع النظام الدولي أكثر وضوحًا، وسيفتح الباب أمام أزمات جديدة في المجالات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية. علاوة على ذلك، فإن عزل الولايات المتحدة عن حلفائها وتسريع التحركات الجيوسياسية لفاعلين مثل الصين وروسيا سوف يضعف بشكل أكبر ادعاء واشنطن بالقيادة العالمية. في هذا السياق، فإن خيار التدخل العسكري المحتمل ضد إيران، حتى لو حقق مكاسب تكتيكية قصيرة الأجل، فإنه على المدى البعيد سيعجل بانهيار وضع “القوة العظمى المارقة”. وإدراكًا لهذه الحقيقة، فإن صانعي القرار الأمريكيين سوف يفضلون الحل الدبلوماسي على شن عملية عسكرية شاملة ضد إيران.