كندا: أن تكون “جارًا” لأمريكا

التوتر الجديد بين الولايات المتحدة وكندا هو نتيجة لعوامل تاريخية متراكمة أعيد إشعالها في الوقت الحاضر. وعلى الرغم من القرب الجغرافي، والاندماج الاقتصادي العميق، والعناصر الثقافية المشتركة، كان هناك دائمًا إمكانية لحدوث توترات اقتصادية وسياسية بين البلدين. وأبرز مؤشر على ذلك هو الأزمات المتعلقة بالرسوم الجمركية والخطابات المتطرفة التي تتحدث عن ضم كندا، والتي تظهر من وقت لآخر.
14/03/2025
image_print

ماضي وحاضر ومستقبل العلاقات الكندية الأمريكية

دخلت الرسوم الجمركية المرتفعة التي قررت إدارة ترامب فرضها على الصين والمكسيك وكندا حيز التنفيذ في 4 مارس. وأعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو أن بلاده ستقوم بالرد بالمثل على هذه القرارات. وقال ترودو في تصريحاته: “ترامب يريد انهيار الاقتصاد الكندي لأن ذلك سيجعل من السهل تحويل بلدنا إلى الولاية الأمريكية الحادية والخمسين. لكن هذا لن يحدث أبدًا!” مؤكدًا أن سياسات الولايات المتحدة تشكل تهديدًا لاستقلال كندا. واختتم ترودو كلمته برسالة قوية حول الوحدة الوطنية، قائلًا: “نحن كنديون! سنتحد، وسنقف في وجه الأمريكيين، وسنكافح من أجل حقوقنا وسنفوز”، داعيًا الشعب الكندي إلى التضامن.

أصبحت العلاقات بين الولايات المتحدة وكندا متوترة للغاية بسبب هذه التطورات، وهي علاقات تغذت تاريخيًا على عوامل مختلفة مثل الجوار الجغرافي والتنافس الثقافي والاقتصادي والسياسي. وعلى الرغم من أن العلاقات بين البلدين كانت في كثير من الأحيان ودية واستراتيجية، إلا أن الأزمات المتعلقة بالرسوم الجمركية كانت موضوعًا متكررًا في الماضي. على سبيل المثال، قام ريتشارد نيكسون بفرض رسوم جمركية بنسبة 10% في أوائل السبعينيات بعد تخلي الولايات المتحدة عن معيار الذهب.

الخلفية التاريخية للعلاقات

بدأ التفاعل التاريخي بين كندا والولايات المتحدة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر مع توازن القوى بين المستعمرات. شهدت الأراضي الكندية الحالية صراعات بين المستعمرات الفرنسية والبريطانية. وأدى تفوق بريطانيا على فرنسا في أمريكا الشمالية إلى زيادة النفوذ البريطاني في كندا، بينما انفصلت الولايات المتحدة عن الحكم البريطاني بعد إعلان الاستقلال عام 1776 والحرب التي تلته (1775-1783). في ذلك الوقت، كانت كندا ملجأ للموالين للتاج البريطاني، مما جعلها أكثر محافظة وقريبة من بريطانيا.

في أوائل القرن التاسع عشر، اندلعت خلافات حدودية وإقليمية بين كندا والولايات المتحدة. أدت حرب 1812 إلى زيادة التوتر العسكري بين الجانبين، وعلى الرغم من عدم حدوث تغييرات حدودية كبيرة، إلا أن مشاعر عدم الثقة تعززت بين البلدين. وعند تأسيس كندا كاتحاد في عام 1867، كانت لديها ردود فعل دفاعية للحفاظ على هويتها ووحدتها في مواجهة سياسات التوسع الأمريكية المحتملة.

في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى الرغم من بعض التوترات السياسية، كانت الولايات المتحدة وكندا حليفين مهمين خلال الحربين العالميتين. بعد الحرب، انضم البلدان إلى اتفاقية الجات (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة) في عام 1947، مما أدى إلى تعزيز التكامل الاقتصادي في أمريكا الشمالية. كما أدت اتفاقية السيارات لعام 1965 إلى تسريع التكامل التجاري بين البلدين في قطاع السيارات.

وأدى دخول اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) حيز التنفيذ في عام 1994 إلى إزالة معظم الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، مما ساهم في زيادة صادرات كندا إلى الولايات المتحدة. ولكن قرار إدارة ترامب بشأن إعادة التفاوض حول نافتا بدعوى أنها غير مفيدة للولايات المتحدة، تسبب في زيادة التوترات التجارية بين البلدين. وفي عام 2020، تم استبدال نافتا باتفاقية الولايات المتحدة-المكسيك-كندا (USMCA)، التي شددت القواعد في قطاع السيارات وحقوق الملكية الفكرية.

جذور التوتر الحالي

قرار الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على كندا مرتبط بعودة السياسات الاقتصادية الحمائية الأمريكية. مع إعادة انتخاب ترامب، عادت سياسة “أمريكا أولاً” إلى الواجهة. وتعتمد هذه السياسة على الاعتقاد بأن الواردات، خاصة في القطاعات الرئيسية، تضر بالسوق الأمريكية. وتعتبر كندا الشريك التجاري الرئيسي للولايات المتحدة، ويعتمد اقتصادها بشكل كبير على التبادل التجاري. وقد تؤدي الرسوم الجمركية المرتفعة إلى خسائر كبيرة في قطاعات مثل الزراعة والسيارات والأخشاب. ردًا على ذلك، أعلن رئيس الوزراء الكندي فرض رسوم جمركية مماثلة على البضائع الأمريكية، مما قد يعطل التبادل التجاري بين البلدين.

من ناحية أخرى، كما أعلن رئيس وزراء كندا، فإن خطة إدارة ترامب لجعل كندا “ولاية تابعة للولايات المتحدة” قد بقيت على مستوى الخطاب، لكنها تعكس قلقًا تاريخيًا. ففي القرن التاسع عشر، قامت الولايات المتحدة بسلسلة من الخطوات لتوسيع أراضيها نحو الغرب والشمال. وعلى الرغم من أن الضم القسري لكندا لم يحدث أبدًا، إلا أن القوة السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة جعلت الكنديين يطورون بشكل متكرر رد فعل لحماية سيادتهم الوطنية والحفاظ على هويتهم الخاصة. يتم الحفاظ على هذا الانعكاس بشكل خاص من خلال انتشار الثقافة الأمريكية عبر السينما والتلفزيون والوسائط الرقمية في السوق الكندية. وبالتالي، يمكن للخطاب العدواني لترامب أن يغذي مخاوف تاريخية كامنة في كندا. إن التنوع الثقافي واللغوي في كندا (خاصة السكان الناطقين بالفرنسية في منطقة كيبيك) ونظامها السياسي الأكثر ميلًا إلى الديمقراطية الاجتماعية، يختلفان عن التقاليد السياسية الأمريكية الأكثر ليبرالية وتركيزًا على الرأسمالية ونظام الحزبين. وقد عزز هذا الاختلاف حساسية غالبية الشعب الكندي تجاه الحفاظ على الهوية الوطنية.

مجالات التنافس الثقافي والاقتصادي

المنافسة الثقافية كانت دائمًا موضوع نقاش مهم بين الولايات المتحدة وكندا. كون الولايات المتحدة واحدة من أكبر منتجي الترفيه والإعلام في العالم، فإنها تشكل ضغطًا مستمرًا على الناشرين والفنانين الكنديين. تحاول الحكومة الكندية حماية البث المحلي وصناعات الموسيقى والسينما من خلال برامج الدعم الاقتصادي وتطبيق الحصص، وذلك بهدف الحفاظ على الثقافة الوطنية. ومع ذلك، فإن دخول شركات الإعلام الأمريكية بسهولة إلى السوق الكندية عبر المنصات الرقمية قد يضع منتجي المحتوى الكنديين في وضع غير تنافسي.

انعكاسات التنافس التاريخي على الحاضر

إن التركيز على الهوية الوطنية التي طورتها كندا تجاه الولايات المتحدة قد ازداد قوة في النصف الثاني من القرن العشرين. وتقدم كندا نموذجًا سياسيًا واجتماعيًا يختلف عن الولايات المتحدة في مجالات مثل نظام الرعاية الصحية، وسياسات مراقبة حيازة الأسلحة الفردية، وممارسات التعددية الثقافية. هذه الاختلافات تحافظ على مخاوف الكنديين من التشبه بالولايات المتحدة في هويتهم الجماعية.

من ناحية أخرى، تتمتع الولايات المتحدة وكندا بعلاقات تحالف وتعاون في مجال الأمن والدفاع المشترك ضمن حلف الناتو. وبالتالي فإن فرض رسوم جمركية صارمة على بعضهما البعض أو الإشارة إلى المنافسة السياسية، ربما يُنظر إليه على أنه أمر غير معتاد في كلا البلدين. وهذا التوتر الأخير سيسبب حالة من الدهشة والقلق بين الرأي العام وعالم الأعمال. وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة في كندا، والتي تعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكية كأقرب سوق خارجي لها، ستواجه مخاطر جسيمة.

توقعات حيال المستقبل

أولاً، على الرغم من أن إدارة ترامب قد تبنت موقفًا صارمًا، إلا أن الاعتماد التجاري بين الولايات المتحدة وكندا لا يزال مرتفعًا للغاية. لذلك، فإن إصرار الطرفين على سياسة تقييد التجارة من خلال فرض رسوم جمركية صارمة على المدى الطويل سيؤدي إلى إلحاق ضرر متبادل بالاقتصاد، خاصة بالنسبة للقطاعات التي لم تكن مستعدة لهذا الوضع. ومع تفاقم هذا الضرر، من المتوقع أن تتراجع إدارة ترامب عن موقفها وتبدأ مفاوضات جديدة لتخفيض الرسوم الجمركية. في الواقع، على الرغم من وجود أسواق بديلة لكل من كندا والولايات المتحدة، إلا أن العلاقات التجارية المتبادلة تظل ذات أهمية حيوية بسبب القرب الجغرافي والروابط التاريخية. في السياسة الداخلية الأمريكية، عندما تبدأ الانتقادات الموجهة لسياسات ترامب التجارية الصارمة في التصاعد، خاصة من قبل الشركات الكبيرة وقطاع الزراعة، فمن المحتمل أن تتراجع إدارة ترامب عن موقفها. أما على الجانب الكندي، فإن التصريحات الحادة لرئيس الوزراء، والتي تحمل رسالة سياسية قوية حول حماية السيادة والهوية الوطنية، من المرجح أن تعزز الدعم السياسي الداخلي على المدى القصير. ومع ذلك، فإن الحقائق الاقتصادية ستظهر على المدى الطويل أن مثل هذه التوترات غير قابلة للاستمرار.

من ناحية أخرى، تحاول كندا في السنوات الأخيرة تعزيز علاقاتها التجارية مع منطقة آسيا والمحيط الهادئ. على سبيل المثال، باعتبارها عضو رئيسي في الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، تهدف كندا إلى زيادة انفتاحها على أسواق آسيا. في حالة استمرار التوترات التجارية مع الولايات المتحدة، من المحتمل أن تقوم كندا ببناء علاقات تجارية أقوى مع اقتصادات كبرى مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية والمكسيك. ولكن، يبقى من غير الواضح ما إذا كان هذا التوجه كافيًا لتعويض الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الحواجز الجمركية الأمريكية.

الخلاصة

التوتر الجديد بين الولايات المتحدة وكندا هو نتيجة لعوامل تاريخية متراكمة أعيد إشعالها في الوقت الحاضر. وعلى الرغم من القرب الجغرافي، والاندماج الاقتصادي العميق، والعناصر الثقافية المشتركة، كان هناك دائمًا إمكانية لحدوث توترات اقتصادية وسياسية بين البلدين. وأبرز مؤشر على ذلك هو الأزمات المتعلقة بالرسوم الجمركية والخطابات المتطرفة التي تتحدث عن ضم كندا، والتي تظهر من وقت لآخر.

يُظهر المسار التاريخي أن كندا حساسة للغاية بشأن قضايا الهوية الوطنية والسيادة، في حين أن الولايات المتحدة قد تميل أحيانًا إلى تبني سياسات حمائية بدافع حماية مصالحها الاقتصادية. مع إعادة انتخاب ترامب، أدت سياسة “أمريكا أولاً” إلى دخول العلاقات التجارية مع كندا في مرحلة جديدة من الصرامة. من جهتها، تحاول كندا الرد على الولايات المتحدة من خلال تهديدات بالانتقام والبحث عن أسواق بديلة.

في السيناريوهات المستقبلية، من المتوقع أن تتصدر المشهد الجهود الدبلوماسية والمفاوضات المكثفة، بالإضافة إلى البحث عن سبل لتخفيض الرسوم الجمركية على المدى الطويل. فالاعتماد الاقتصادي المتبادل بين البلدين مرتفع لدرجة أن رفع الحواجز الجمركية بشكل دائم يبدو غير متوافق مع مصلحة أي من الطرفين. على الرغم من أن هذه المرحلة من التوتر ستستمر في إبقاء العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة وكندا متوترة لفترة من الوقت، إلا أن قوة الروابط الاجتماعية والاقتصادية ستجلب الطرفين على الأرجح إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى في المستقبل.

Ensar Kıvrak

أنصار كيفراك
وُلد في أنقرة عام 1992. تخرج من قسم العلوم السياسية والإدارة العامة في جامعة قوجة إيلي عام 2015. أكمل درجة الماجستير في العلوم السياسية في جامعة صقاريا عام 2018. حصل على درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 2024 بأطروحة بعنوان "الإمكانيات الاجتماعية السياسية للوطنية المُجرّدة من القومية: نقاش نظري". يعمل حاليًا كباحث في قسم العلوم السياسية والإدارة العامة بجامعة صقاريا. وهو متزوج وأب لثلاث بنات.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.