وكالة الأناضول
في مدينة غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس قبل سقوطها عام 1492، يعكف مسلمون إسبان على تعزيز حضور الإسلام وترسيخه على هذه الأرض، مستفيدين من دروس الماضي، ومتمسكين بجذورهم الروحية والثقافية.
فبعد حظره ثقافيا وديمغرافيًا في الأندلس خلال حقبة “الملوك الكاثوليك” (1469-1516)، عاد الإسلام إلى شبه الجزيرة الإيبيرية من خلال موجات الهجرة واعتناق عدد متزايد من الإسبان للدين الإسلامي.
وتشهد إسبانيا ارتفاعًا لافتًا في عدد المسلمين، إذ تزايد عددهم خلال 25 عامًا ليتجاوز 2.5 مليون نسمة، بحسب تقرير صادر عن اتحاد الجماعات الإسلامية في إسبانيا في ديسمبر/ كانون الأول 2024.
وتُعد مدينة غرناطة وجهة رئيسية للمسلمين في البلاد، حيث يعيش فيها أكثر من 44 ألف مسلم، منهم نحو 20 ألفًا من المواطنين الإسبان، وفقًا لبيانات الاتحاد.
وبينما يشكل المغاربة النسبة الكبرى من مسلمي المدينة، تبرز أيضًا فئة من الإسبان الذين اختاروا الإسلام عن قناعة شخصية، ويرون فيه هوية جديدة وامتدادًا لتاريخ قديم.
– نعمة وتحدٍّ
وقال محمد أمين بوتيلا، وهو مسلم إسباني من أصول محلية، إن تجربة أن يكون المرء مسلمًا في إسبانيا تُعدُّ تجربة فريدة تحمل في طياتها نعمة وتحديات في آن معا.
وأضاف في حديث مع الأناضول: “أسلم والداي عندما كنت في عامي الأول. نشأت في أسرة إسبانية، وتربيت طوال حياتي على مبادئ الإسلام”.
وتابع: “تعود أصول عائلتي إلى مدينة أليكانتي (القنت) شرقي إسبانيا، وقد عشنا لفترات في إشبيلية وغاليسيا، قبل أن ننتقل إلى غرناطة، لرغبتنا في العيش وسط مجتمع مسلم أكثر تماسكًا”.
وأشار بوتيلا إلى أن مدينة غرناطة هي من أفضل الأماكن التي يمكن للمسلم أن يعيش فيها في إسبانيا، مؤكدًا أن الاندماج في المجتمع لا يخلو من تحديات.
وقال: “في إسبانيا، من السهل ألا تكون مسلمًا، فالثقافة المحيطة بنا تدفع الإنسان بعيدًا عن الإسلام بشكل طبيعي. لذا، فإن كونك مسلمًا هنا يتطلب وعيًا ذاتيًا وجهدًا مضاعفًا. عندما تتعرف على نعم الإسلام وتدرك الخير الذي يحمله، يصبح الأمر واضحًا في ذهنك، وتتبدد المخاوف”.
وأضاف: “في مجتمع لا تحيط به الثقافة الإسلامية، لا يمكنك أن تكون مسلمًا إلا بالإيمان. وهذا الإيمان يمنحك قوة وغنى روحيًا. نعم، يتطلب الأمر جهدًا إضافيًا، لكن الثواب يكمن في صميم الإسلام نفسه”.
– ترسيخ الإسلام
ولفت بوتيلا إلى أنه يعمل حاليًا في المسجد الكبير بغرناطة، وقد عمل سابقًا كدليل سياحي، مما أتاح له التعرف على المسلمين الزائرين من مختلف أنحاء العالم، والاطلاع على تجاربهم الروحية في زيارة معالم الأندلس الإسلامية.
وأضاف: “لغرناطة تاريخ عريق في الإسلام، لكنها فقدته منذ أكثر من 500 عام. بالنسبة للكثيرين، قد يبدو ذلك مجرد ذكرى جميلة. أما نحن، فنؤمن أن على المسلمين اليوم أن يستلهموا من التجارب الجيدة التي ساهمت في ترسيخ الإسلام واستقراره في الماضي.”
وتابع بالقول: “نسعى إلى تثبيت وجودنا كمسلمين في هذه الأرض، وعلينا أن نتعلم من التاريخ ونتجنب الأخطاء التي قادت إلى الانهيار. نحن نعيش في زمن مختلف، وظروف مختلفة، وواقع مختلف”.
وأردف: “لا يكفي أن نغرق في رومانسية استعادة الماضي، بل يجب أن نكون واقعيين. نعم، نحن نرى أنفسنا امتدادًا لذلك التاريخ الإسلامي في الأندلس، لكننا أشخاص مختلفون ونواجه تحديات مختلفة. علينا أن نستلهم الجوانب المشرقة من تاريخ الأندلس، لا أن نحاول نسخها حرفيًا.”
كما عبّر عن سعادته بأجواء شهر رمضان المبارك في المدينة، حيث تقبل العائلات المسلمة على صلوات الجماعة في المساجد والتجمعات العائلية وموائد الإفطار الجماعي.
– مصدر فخر
بدوره، قال إسماعيل بيريز، وهو مسلم إسباني وُلد في أسرة مسلمة، إن أكبر ما يفتخر به هو أنه جزء من الجيل الثاني من الإسبان الذين اعتنقوا الإسلام.
وأضاف: “نشأت في غرناطة، المدينة التي تحتضن إرثًا إسلاميًا مذهلًا، سواء من حيث التاريخ أو العمارة أو الثقافة”.
وتابع: “الحمد لله، بنينا هذا المسجد (المسجد الكبير في غرناطة)، وهو أول مسجد في أوروبا يتم تشييده بمبادرة من المجتمع المسلم المحلي. يزورنا مسلمون من كل مكان، نصلي معهم، نفطر معهم، ونقيم شعائر رمضان بروح مليئة بمشاعر الإخاء والتضامن”.
– الإسلام ليس جديدًا
وأشار بيريز، إلى أنه لا وجود حاليًا لأي جماعة تنحدر من نسل المسلمين الأندلسيين القدامى في غرناطة أو إسبانيا عمومًا.
وقال: “كانت غرناطة آخر مدينة دافع عنها المسلمون قبل سقوط الأندلس بالكامل. ما يحدث اليوم هو عملية تجديد للإرث الإسلامي، وليس استعادة حرفية للماضي. فالمسلمون هنا جدد، لكن الإسلام ليس جديدًا”.
كما أكّد بيريز في ختام حديثه أن المجتمع المسلم في غرناطة يعيش في وضع جيد ومستقر، ولا يواجه أي مشكلات تُذكر.
وشدد على أن هدف المسلمين حاليا في غرناطة هو ترسيخ هذا الحضور الإيماني وتعميقه في الأجيال القادمة.