فيدرالية دجلة والفرات

إن فتح بلاد الشام مرة أخرى يشبه فتحها على يد صلاح الدين الأيوبي وياووز، وعلى كل إنسان شريف أن يقوم بما يقع على عاتقه حتى تكون الخطوة التالية مشابهة أيضا. قد تكون ساعة قدرنا متعبة، لكنها بعد اليوم ستدور حتما بفرحة الأفراح. هذا هو إيماننا ورجاؤنا. ففي النهاية، كل إنسان هو إنسان بقدر إيمانه ورجائه.
يناير 3, 2025
image_print

’مما لا شك فيه أن سزائي قره قوتش، رجل عظيم في الفكر والعمل، وهو ”مفكر سياسي إسلامي“ بالإضافة إلى كونه شاعرًا عظيمًا. الحقيقة التي تفيد بأن المسلمين في جميع أنحاء العالم هم ”أمة واحدة“ (الأمة الإسلامية) وجميع الأراضي الإسلامية هي ”بلد واحد“ (البلد الإسلامي)، تشكل أساس ومنطلق آراء قره قوتش السياسية. إن قره قوتش هو الشخص الذي عبّر  بأقوى طريقة عن هذه المفاهيم الأساسية وضرورة أن يعمل المسلمون في أجواء من التضامن والوحدة بروح الأخوة الحقيقية.

أعاد سزائي قره قوتش النظر في هذه المسألة في سلسلة من المقالات التي كتبها عام 1974، وتناولها في مقال بعنوان ”المثل الأعلى للوحدة“ على النحو التالي: ”إن الذين يظنون أن المثل الأعلى للوحدة الإسلامية هو حلم، أو مدينة فاضلة، هم واهمون. فالعين ترى والقلب يسمع أن الوحدة والاجتماع أصبحا الشرط الوحيد لوجود العالم الإسلامي. الويل لمن لا يرى هذه الحقيقة!“ (س. قره قوتش، الصور “Sûr“، ص 92)

ويلفت المقال نفسه الانتباه إلى التناقض في أن الدول الأوروبية، التي لم تستطع أن تجتمع على مر التاريخ، بل على العكس من ذلك خاضت حروباً مروعة ودموية فيما بينها، تبحث عن أسس مصطنعة لـ”الوحدة“، بينما المسلمون الذين عاشوا تحت راية دولة قبل خمسين عاماً فقط، يعتقدون الآن أن الوحدة حلم، ويقول: ”قبل أن تستكمل أوروبا وحدتها، يجب على المسلمين أن يستكملوا وحدتهم لكي تمكنوا من البقاء“.

ويسبق هذا المقال في كتابه ”الصور“، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1975، مقال آخر بعنوان ”من الجزء إلى الكل“، حيث يقترح فيه إنشاء ”فيدراليات إقليمية“ بين الدول الإسلامية من أجل تحقيق ”الوحدة“، قائلا: “إن الدول الإسلامية تواجه ضرورة توحيد القوى، والتكاتف من خلال توحيد جميع القوى المادية والروحية، وبالتالي التصدي للهجوم! وإلا، إذا حدث مثل ما يحدث اليوم، فسوف يبحثون عن طرق للقضاء عليها الواحدة تلو الأخرى… وقد أصبح من الضرورة الدفاعية الحتمية إنشاء فيدراليات إقليمية مثل الفيدرالية الإسلامية لشمال أفريقيا، المكونة من مصر وليبيا وتونس والمغرب والجزائر، والفيدرالية الإسلامية لغرب أفريقيا، المكونة من نيجيريا وما حولها من الدول الإسلامية، الفيدرالية الإسلامية لدجلة والفرات، المكونة من تركيا وسوريا والعراق، والفيدرالية الإسلامية لجنوب آسيا، المكونة من إندونيسيا وماليزيا وباكستان وأفغانستان مع ضم الفلبين بعد تحريرها“. (س. قره قوتش، الصور “Sûr“، ص 90 – 91)

(شعبان أباك، الفيدرالية الإسلامي لدجلة والفرات أو الأخوة التركية السورية العراقية وسزائي  قره قوتش، مجلة المشترك – 2021)

كتب الراحل سزائي قره قوتش هذه السطور في سبعينيات القرن الماضي، أي في السنوات التي لم يفكر فيها أحد في مناقشة الحدود التي رسمتها سايكس – بيكو. ففي فرمان التنظيمات الصادر عام 1838، تم منع “إطلاق صفة الكافر على الكفار”. وجاءت اتفاقية لوزان 1924، لتحظر استخدام اسم الدولة العثمانية عند الحديث عن هذا البلد. وفي الثلاثينيات، تم حظر الصفات مثل الإسلام، والعرب، والمسلم التركي، والكردي، والعلوي. كان قره قوتش، منذ ستينيات القرن الماضي، مثقفًا شجاعًا دأب على خرق كل هذه المحظورات مدافعا عن الوحدة الإسلامية، والقضية الإسلامية، وبعث الإسلام، بأسلوب متواضع وهادئ وحازم، وتحدث بكلماته الخاصة دون أن يكترث لأحد. كانت مقالاته وقصائده الشعرية أيضا تمثل تعبيرا راسخا عن استقامة هذا المؤمن الذي لم ينحرف أبدًا حتى وفاته.

عندما بدأت الانتفاضة السورية عام 2011، نظر إليها بحذر وخشية خاص به، وشعر بالقلق من أن نتعرض للتمزيق أو القتال أو الاحتلال مرة أخرى. وكان يعرف كيف قامت القوى الغربية بتمزيق الدولة العثمانية، وتقسيم الشعوب الإسلامية، والتحكم بالدول المصطنعة التي تأسست لاحقا، ولذلك كان يفسر كل تطور بنفس الطريقة. كان قلق قره قوتش مبررا، لكن تعليقه لم يكن عادلا. لأن أولئك الذين ثاروا في سوريا كانوا يقاومون المجازر بحق المدنيين على يد نظام ظالم بكل معنى الكلمة، وكانت القوى الغربية تدعم هذا النظام، وليس من ثاروا ضده.

ومن المفارقات أنه في سياق الثورة السورية، نشأ تناقض دراماتيكي في شخص قره قوتش، الذي أصدر مجلة تسمى “ديريليش” (تعني البعث)، وهي المقابل التركي لحزب البعث الذي كان في السلطة بسوريا والعراق.إنها مفارقة التجلي. لقد كان هذا توترًا غريبًا حدث عندما ظهرت علامات تشير إلى إمكانية تحقق قضية – مشروع – هدف تم الدفاع عنه طوال العمر والإيمان به بحنين وشوق وشغف. الكتّاب والمثقفون وقادة الرأي الذين يبدأون كل مقال وكل كلمة وكل خطاب تقريباً بانتقاد الغرب والإمبريالية والتأكيد على أن الغرب ليس بهذه القوة، بل على العكس نحن الضعفاء، حجبوا لسبب ما الشيك المفتوح الذي منحوه للثورة الإيرانية، عن الربيع العربي، وخاصة عن الثورة السورية، وحاولوا طمس ثورة الشعب السوري الطبيعية والعادية والبسيطة والواضحة والجلية وكذلك مظالم نظام البعث النصيري التي لا يمكن إنكارها، وإضفاء الشرعية على تشوش أذهانهم بالكثير من الديماغوجية الحافلة بالمؤامرات والألاعيب والمكائد المنسوبة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل.

بالنسبة للبعض، كان السبب الأهم لهذا الموقف المنافق الذي لا يستطيع حتى أن يسمي الظالم ظالماً والمظلوم مظلوماً، هو أنهم يتغذىون على الحقول التي يحرثها نظام ملالي إيران الذي تشيطن ملتهما حتى ثورته. سجن صيدنايا وحده، سجل في التاريخ طبيعة الوسوسة الشيطانية التي وقع فيها هؤلاء الشراذم، وأي حفرة من التواطؤ سقط فيها هؤلاء المنافقون، عبر تبرئة نظام هو الأكثر دناءة وظلما وبشاعة في تاريخ الإنسانية، ناهيك عن سوريا، والتستر على جرائمه. نعمن بلغة الشاعر؛ “الليل مبرر رائع للخيانة”، لكن في حالة سوريا لن يُقبل أي مبرر أو عذر لهؤلاء الخونة وسوف يحشرون في مزبلة التاريخ مع إيران والأسد وجميع الرافضة.

لكن ما حدث في شخص سزائي قره قوتش وأمثاله كان مشكلة أعمق وأكثر دراماتيكية؛ وكانت هذه المشكلة تتمثل في انعدام الثقة بالنفس والجبن الذي ساد المثقفين العضويين منذ انهيار الدولة العثمانية، ومنذ “سرقة” تركيا الجديدة التي فازت بها الأمة في حرب الاستقلال، وإنشاء نظام الاستعمار الذاتي ضد الأمة.

شخصية شجاعة على مستوى الخطاب، جبانة في الممارسة، حرة عند الحلم، خائفة عند العيش، شعور داخلي بالنقص، صاحب انفصام غريب لا يثق في نفسه أبدًا ولا بمن هم من ملته، لكنه في المقابل يظل يوجه النصائح طوال العمر مطالبا الآخرين بأن يكونوا على طبيعتهم. اعتقاد غريب يساوي الشيطان بالله بنوع من اللاهوت الزرادشتي، ولا يثق في الناس ولا بأفعال البشر ولا بالشعب ولا بالأمة أو بأن الأمة تستطيع أن تفعل أو تنتصر أو تحقق شيئا جيدا وصوابا بإرادتها الحرة، ولكنه يتحدث باستمرار عن الإيمان بالله وأن الغلبة ستكون للمؤمنين، وحتى أثناء حديثه عن حكم الله المطلق، يشير إلى وجود مخططات ومشاريع وألاعيب وفخاخ كبيرة لا تُقهر وغير قابلة للتدمير وضعها المستعمرون والغربيون والقوى الأجنبية والصهاينة والماسونيون والمتحولون وغيرهم من الشياطين. إنها مفارقة عميقة، عميقة للغاية.

لو كان الراحل قره قوتش حيا، لا أدري كيف كان سيقابل خطوات فيدرالية دجلة والفرات، أي اتحاد تركيا وسوريا والعراق، الذي يسير بالفعل نحو التحقيق، ويمضي بإرادة عضوية ومحلية ووطنية، أي على أيدي كوادر نشأوا على كتبه وأشعاره. وأتساءل هل كان سيستخدم بصيرته الشعرية هذه المرة بالأمل والإيمان، أي بحماس أكثر إيجابية، بدلا من الخوف والقلق؟

أنا على يقين أنه لم يكن خدما عند الأمريكيين والإسرائيليين أو أعجميا بالمعنى نفسه لدرجة أن يعتبر الثورة التي قام بها شعب، وملايين من الناس، بكل حرية وسلمية ولطف، ونجاح هذا الشعب في دحر الظالمين، وعودته إلى دياره لإعادة بناء بلده، على أنها مؤامرة ولعبة أمريكية – إسرائيلية، رغم كل الألم والتعذيب والنفي والمجازر والإذلال والتجاهل والاتهام والإقصاء الذي تعرض لها ذلك الشعب. كان قره قوتش على الأقل يؤمن بالله والأمة الإسلامية. ومن واجبنا أن نتجاوز مشكلة انعدام الثقة بالنفس التي عانى منها جيله، مع الحفاظ على الهاجس الصادق والحقيقي الذي كان عنده.

لقد حان الوقت الآن لتحديث تلك الحكمة الحقيقية التي فقدناها، أي الثقة بالنفس، وذلك الإيمان بالحضارة الموحدة، وبالوطن الحقيقي ووعي الأمة، وهدف البلدان المتحدة، والميثاق الوطني، والقوات الوطنية، وقانون الدفاع، وعاصم دار السلام، وذلك التصور القائم للدولة العلية. لقد حان الوقت للحديث والنقاش بعقولنا وقوتنا وإمكاناتنا ولأول مرة منذ مئة عام حول الخطط والمشاريع والمبادرات والأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية التي من شأنها ضمان إقامة القانون والحرية والأمن داخل نظام ديمقراطي يمثل متوسط الأمة، دون تمييز بين مسلم وغير مسلم، وبين علوي وسني، وبين علماني ومتدين، وبين تركي وكردي وعربي، وبين يميني ويساري. وليعبر كل شخص عن هذا التكتل بالكلمات التي يريدها بما يتوافق مع مزاجه الخاص؛ فيدرالية دجلة والفرات، كونفدرالية الجزيرة، اتحاد تركيا وسوريا والعراق، دول الشرق الأوسط المتحدة، الجغرافيا السياسية الأفروآسيوية، حضارة بلاد الرافدين والبحر الأبيض المتوسط، كونفدرالية الشرق الأوسط الديمقراطية، إحياء العثمانية، روما الإسلامية، تركيا العظمى، كونفدرالية طوران… فإذا كانت الكلمات ستحل تلك المشكلة العميقة، وإذا كانت ستزيل الحدود الانفصالية والبذور التي زرعها أولئك المحتلون، وإذا كانت ستمحو معاهدة سيفر الهوياتية والعرقية والطائفية، وإذا كانت ستعزل انعدام الأمن الذي يمزق الإحساس بالوحدة، وستحفز لبعث حقيقي، فكلها مقبولة، وكلها صحيحة، وكلها مشروعة.

المهم هو ما يراه ويفعله أولئك الذين ينظرون إلى العالم من أنقرة وإسطنبول والأناضول ودمشق وأربيل وبغداد والقدس والقاهرة والبوسنة وسكوبيه في مواجهة أولئك الذين ينظرون إلى العالم من أمريكا وأوروبا وطهران وموسكو وبكين وتل أبيب والرياض، وما تبقى عبارة عن وساوس من الشياطين.

’تعالوا لنبدأ بالورد مقتدين بالأجداد

لندخل أرض الكلمات بشم الربيع

… باب حديدي صدئ ينفتح

بينما الأقفال المتعفنة تصدر صريراً

فجأة من أعماق الظلمة

تنهضين أنت كالأغنية

أهمس لك بكلمات من نار تراكمت بداخلي

لم استطع البوح بها طيلة سنوات

عقلي الباطن كقنبلة منفجرة

تنثر حولها غبار الزمن

غبار الشيب

ما شأني أنا من باريس

ومن نيويورك ومن لندن

ومن موسكو ومن بكين

وهل تهمني كل الحضارات المشتقة

وأنا بجانبك

لقد أصبحت حضارة طول العمر

لليلي ونهاري

عيناكِ

نافذةٌ من عصرِ التوليب

يداكِ

ليلك ذهبي ينسكب في حضني

من باقي ومن نفعي ومن الشيخ غالب‘

(س. قره قوتش، من بلد المنفى إلى عاصمة العواصم)

إن فتح بلاد الشام مرة أخرى يشبه فتحها على يد صلاح الدين الأيوبي وياووز، وعلى كل إنسان شريف أن يقوم بما يقع على عاتقه حتى تكون الخطوة التالية مشابهة أيضا.

قد تكون ساعة قدرنا متعبة، لكنها بعد اليوم ستدور حتما بفرحة الأفراح. هذا هو إيماننا ورجاؤنا. ففي النهاية، كل إنسان هو إنسان بقدر إيمانه ورجائه.

’أعرف دمشق منذ ألف عام

قريبة مني كحليب أمي

كانت قد وصلت حتى كواحل خيولهم

دماء حُماتك الأواخر

لقد رفرفت رايةُ النبيِّ الخضراءُ التي كانوا يحملونها

على تلالك بغزارة

عندما ينفخ في صور العودة للحياة، والبعث

فإن المدينة التي سأعود إليها هي دمشق

سيعود الجند إليها كأنهم عائدون إلى عاصمة

ربما متعبين، ولكن بأشد الأفراح فرحًا

عندما يأتي الفراتُ إليك

كيف ستستقبلينه؟

عندما يأتي دجلة إليك

– بداية بعث

ونهاية قيامة –

كيف ستستقبلينه؟

كانت قد وصلت حتى كواحل الخيول

تلك الدماء التي كتبت اسم الله على الأرض

إنها دماء، تدفقت بغزارة

من أنهار جبال إلغاز، وإرجييس، وأغري، وسبحان

ثم حلت للأسف هزيمة خريف كبرى

من أجل شعب عظيم وأرض عظيمة

من أجل حداد عمّ إسطنبول، وبغداد، ودمشق

جاء غراب شديد السواد بجناحيه

ولكن، لا داعي لليأس، ففي أقرب وأشد الأيام

سيتحول الحظ في النهاية، وسيأتي الفارس العظيم

منقذٌ للشعب المسلم الغارق في المعاناة

سيظهر في دمشق أولا، كما تقوم ساعة الأعراف‘

(سزائي قره قوتش – ساعة القدر)

Ahmet Özcan

أحمد أوزجان:
اسمه الحقيقي هو سيف الدين موت. خريج كلية الإعلام بجامعة إسطنبول (1984-1993)؛ عمل في مجال النشر والتحرير والإنتاج والكتابة. مؤسس دار نشر يارن (Yarın) وموقع (haber10.com) الإخباري. أحمد أوزجان هو الاسم المستعار للكاتب.
المجلات التي شارك فيها:
إيمزا (1988)، يرْيُوزُو (1989-1992)، ديغيشيم (1992-1999)، هَافْتَايَا بَاكِيش (1993-1999)، أولْكِه (1999-2001)، تركيا ودنياده يَارِن (2002-2006).
كتبه الصادرة: من أجل جمهورية جديدة / الدولة العميقة وتقاليد المعارضة / سيمفونية الصمت / شب يلدا / التفكير من جديد / الجغرافيا السياسية للاهوت / انسحاب العثمانيين من الشرق الأوسط / رسائل مفتوحة / من لا قضية له ليس رجلا / الإيمان والإسلام / دعونا نقدم الزهور للمتمردين المهزومين / التوحيد والعدالة والحرية / الدولة والأمة والسياسة
الموقع الإلكتروني: www.ahmetozcan.net - www.ahmetozcan.net/en
البريد الإلكتروني: [email protected]

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Yazdır