شرق المتوسط باعتباره القلب الجغرافي للتاريخ

التاريخ يُظهر أن قوةً لا تمتلك إمكانية الوصول إلى البحار المفتوحة لا يمكن أن تصبح قوةً عالمية متوسطة المستوى. الأحداث التي تشهدها غزة (فلسطين) وسوريا هي، من منظور جيوسياسي، قضية تتعلق بشرق البحر الأبيض المتوسط، تمامًا مثل قبرص وليبيا، وليست مجرد مسألة مرتبطة بـ"الشرق الأوسط" كمفهوم ابتكره البريطانيون. لذلك، يجب التعامل مع هذه القضية من هذا المنظور، ووضع السياسات وفقًا لهذا السياق.
26/01/2025
image_print

ليبيا، سوريا، غزة، أو

شرق المتوسط باعتباره القلب الجغرافي للتاريخ

بدأت حرب غزة بعملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة حماس في 7 أكتوبر ثم تحولت إلى واحدة من أكبر عمليات الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث. هذه الحرب انتهت مؤقتًا عبر اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم توقيعه تحت ضغط من ترامب على إسرائيل. ومن المرجح أن تتبع هذه الصفحة اتفاقية وقف إطلاق نار تنهي حرب أوكرانيا، والتي كان هدفها احتلال روسيا للأراضي الأوكرانية، حيث يسعى ترامب إلى تقديم نفسه كرئيس أنهى حروبا لا نهاية لها. عند إضافة سقوط نظام الأسد وحزب البعث في سوريا إلى هذا المشهد، يمكن القول إن الصراعات الساخنة التي حدثت على طول الخط الممتد من أوكرانيا إلى سوريا وفلسطين قد تم تجميدها مؤقتًا بوقف إطلاق نار بارد، مما يفتح صفحة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث الذي بدأ مع حملة نابليون على مصر عام 1798.

إن أفضل معلم ومرشد في فهم القضايا الدولية وتقييمها والتنبؤ بها هو التاريخ والجيوسياسية. أما الوسيلة الأفضل، فهي النظر إلى الأحداث بشكل شامل مع الالتزام بالأساسيات النظرية. ومن هذا المنظور، فإن الهدف الرئيسي من الصراعات الساخنة التي تحدث على خط الريملاند أو الحزام الهامشي الذي طورته الولايات المتحدة على طول مبادرة الحزام والطريق الصينية في منطقة الكتلة الرئيسية لأوراسيا، من أجل منع القوى التي تهيمن على الجيوسياسية البرية لأوراسيا من الوصول إلى البحار، هو في النهاية، بغض النظر عن الأسباب والذرائع الأخرى، أن تتمكن الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة من تقييد الدول الشرقية والجنوبية الصاعدة، وفي مقدمتها الصين، والسيطرة عليها. أما الهدف الرئيسي للمشاريع المسماة بالشرق الأوسط الكبير أو الشرق الأوسط الموسع وشمال أفريقيا، والتي سعت إليها الولايات المتحدة من أجل مواصلة هيمنتها العالمية في أوراسيا في فترة ما بعد 11 سبتمبر، فهو تصفية النظام العثماني، والذي لم يكن من الممكن تحقيقه بسبب المقاومة العنيفة التي أظهرتها الدولة العثماني بفضل أعضاء جمعية الاتحاد والترقي في الحرب العالمية الأولى، والنظام الذي حاول البريطانيون والفرنسيون استبداله، وإنشاء نظام أمريكي، أي شرق أوسط أمريكي، في هذه المنطقة.

حلم بوتين بإنشاء إمبراطورية سوفيتية مصغرة جديدة تتكون من روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وكازاخستان أدى إلى حرب أوكرانيا. الكتلة الأنجلو-ساكسونية التي اكتشفت نية روسيا في الغزو بفضل الاستخبارات الناجحة في وقت مبكر، حولت حرب أوكرانيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، وذلك في قلب أوراسيا من المحيط الهادئ إلى بحر الشمال، حيث كان الغاز الطبيعي الرخيص من روسيا يؤسس تحالفًا اقتصاديًا سريًا بين الصين وروسيا وألمانيا، وهذه الحرب أدت إلى تقويض ذلك التحالف وعرقلة جهود ألمانيا للحصول على استقلال فعلي. وهذا يمثل مثالا جيدا للهدف الأول. وهكذا، قام الأنجلو ساكسون بتفكيك النموذج الإقتصادي الألماني القائم على الغاز الروسي الرخيص والسوق الصينية، بينما عرقلوا محاولات الصين للوصول إلى ميناء هامبورغ عبر السكك الحديدية والطرق البرية، وكذلك محاولات روسيا للوصول إلى البحر المتوسط عبر سوريا (ميناء طرطوس)، وليبيا، ومرسين (محطة أكويو النووية). هذه الجهود، كما حدث في حرب القرم (1853-1856)، أدت إلى إفشال كبير لمحاولات روسيا لاستعادة قوتها الإمبراطورية. في المقابل، يمكن رؤية الصراعات الناتجة عن محاولات الولايات المتحدة لإنشاء شرق أوسط جديد بدلاً من الشرق الأوسط العثماني والشرق الأوسط الذي أنشأه البريطانيون والفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولى في أحداث مثل استفتاء بارزاني في كركوك، والإطاحة بمعمر القذافي، وتدخل تركيا في ليبيا. ومن الواضح أن حرب غزة والحرب الأهلية السورية يمكن أن تكونا مثالين على كلا النموذجين.

يستند الأساس الفكري للسياسات الحديثة في بلاد الشام، التي يمكن إطلاقها اعتبارا من استقلال الغرب الأمريكي عن المملكة البريطانية وتحول الهند إلى “جوهرة التاج”، وكذلك الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون، إلى الفكرة الرئيسية التي تناولها المؤرخ البلجيكي من أصل فرنسي هنري بيرين، مؤسس مدرسة أنال، في كتبه مثل “محمد وشارلمان” و”المدن في العصور الوسطى”. تتمحور هذه الفكرة حول أن ما خلق العصور الوسطى في أوروبا هو انعزال الأوروبيين عن تجارة البحر الأبيض المتوسط، التي كانت تُعرف باسم “مار نوستروم” (بحرنا) في العصر الروماني، بسبب الفتوحات الإسلامية، مما أدى إلى انهيار اقتصادي. 

تمكنت أوروبا من التغلب على هذا الوضع، الذي كان يعني حصرها في شبه جزيرة أوروبية غير منتجة إلى حد كبير، من خلال القوة العسكرية التي اكتسبتها الكنيسة الكاثوليكية بعد تنصير النورمان (رجال الشمال، الفايكنج) والمجريين (شعب غير غربي من أصل توراني). خلال تلك الفترة، تجاوزت البابوية، القوة السياسية المهيمنة في الغرب، هذا الوضع باستخدام القوة العسكرية المذكورة، حيث قامت أولاً بتدمير الدولة التي أسسها العرب في صقلية، ثم توجهت نحو الأندلس في إسبانيا وكذلك القدس عبر الحملات الصليبية. وبالفعل، فإن ظهور عصر النهضة المبكر في القرن العاشر وظهور مؤسسات مثل الجامعات في أوروبا خلال هذه الفترة، هو نتيجة لهذا الوضع.

ما أوقف هذا التطور الأوروبي كان ظهور الأتراك السلاجقة والمماليك على مسرح التاريخ. استيطان السلاجقة، الذين كانوا في الأصل قبيلة، في إيران بشكل شبه معجزي، وهزيمتهم للغزنويين بفضل عبقرية القائد العسكري جغري بك، أدى إلى تحويل المنطقة التي تُعرف اليوم بالشرق الأوسط، والتي كانت تحت سيطرة الخلافة الفاطمية الشيعية في مصر، إلى منطقة سنية. وبالتالي، فإن النظام المهيمن في الشرق الأوسط، على عكس ما يعتقده الكثيرون، لم يتم إنشاؤه من قبل العثمانيين، بل من قبل السلاجقة.

إن النظام السني الذي أقامه السلاجقة في الشرق الأوسط، والذي تجسد في شخصيات مثل طغرل بك والسلطان ألب أرسلان ونظام الملك والغزالي، أصبح مهيمنًا على شرق البحر الأبيض المتوسط بفضل تحولات تاريخية مهمة. فبعد أن سيطر نور الدين محمود زنكي، الذي يمكن وصفه بالسلجوقي السوري، على سوريا، تمكن من إنهاء الخلافة الفاطمية الشيعية واستولى على مصر، مما مهد الطريق لظهور الأيوبيين كقوة مهيمنة في شرق المتوسط بعد فتحهم للقدس. كما أن المماليك لعبوا دورًا حاسمًا في الحفاظ على هذه الهيمنة لفترة طويلة، حيث أوقفوا الزحف المغولي وقضوا تمامًا على الإمارات الصليبية في بلاد الشام.

وفي القرن السادس عشر، وسعت الدولة العثمانية نطاق هيمنتها لتشمل تقريبًا كامل البحر الأبيض المتوسط، مما عزز وضعها كقوة عظمى. ومع ذلك، بدأ هذا النفوذ في التدهور منذ القرن السابع عشر، مما أدى إلى تراجع الإمبراطورية العثمانية تدريجيًا. ومن الجدير بالذكر أن روما، التي كانت قوة برية في الأصل، أصبحت إمبراطورية بعد صراع طويل مع قرطاج، المستعمرة الفينيقية القديمة، وسيطرتها على طرق التجارة الفينيقية في البحر الأبيض المتوسط. في المقابل، أدى فتح سوريا ومصر على يد المسلمين العرب، الذين ظهروا كقوة عظمى محتملة على المسرح التاريخي، إلى تحول العرب والإسلام إلى قوة عالمية. في الوقت نفسه، أدى فقدان القسطنطينية لسيطرتها على بلاد الشام، التي كانت تضم أغنى مقاطعاتها مثل مصر وسوريا، إلى تدهور وانهيار الإمبراطورية الرومانية.

كانت الركائز الجيوسياسية للاستراتيجية المتبعة لعزل العثمانيين عن البحر الأبيض المتوسط ​​هي السيطرة المباشرة على مصر وقبرص من قبل البريطانيين، وإعادة إنشاء بيزنطة على هيئة اليونان، وإعادة إنشاء مملكة القدس الصليبية كدولة يهودية. فشل نابليون في حملته على مصر، وتدمير الأسطول العثماني والمصري من قبل القوات البحرية البريطانية والفرنسية والروسية في عام 1827، أثناء محاولته قمع الثورة اليونانية، أدى إلى تأسيس اليونان. وعلى الرغم من أن منظمات مثل الماسونية، التي تعود جذورها إلى التنظيمات الأخوية البرجوازية الأوروبية ذات الطابع الفيثاغوري، كانت تربط نفسها بمصر القديمة، إلا أن فشل أوروبا في مصر أدى إلى اعتمادها على اليونان كأساس للحضارة، باعتبارها دولة مستقلة عن العثمانيين. أما إسرائيل، فقد ظهرت كأهم نتيجة جيوسياسية للحرب العالمية الثانية في البحر الأبيض المتوسط. من ناحية، أصبحت تمثل الوجود الغربي في المنطقة، ومن ناحية أخرى، سمحت بمراقبة الحزام الهامشي الشمالي لشبه الجزيرة العربية ومنطقة الحجاز، مما أتاح السيطرة على الاتصال بالبحر الأبيض المتوسط. وفقًا للرؤية الأوروبية، كان السبب الرئيسي لزوال الممالك الصليبية مثل مملكة القدس الصليبية، وإمارة الرها، وإمارة أنطاكية، وإمارة طرابلس، هو عدم القدرة على الحفاظ على هذه الكيانات ديموغرافيًا، على الرغم من أصولها الأوروبية. وبالتالي، فإن إنشاء إسرائيل تحت ضمانة بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، كحل لإعادة توطين اليهود في الأراضي التاريخية، كان مشروعًا جيواستراتيجيًا مستدامًا ديموغرافيًا، حيث حلّ عدة مشاكل في آن واحد، بما في ذلك إعادة توطين اليهود في الجغرافيا الإسلامية.

التاريخ يُظهر أن قوةً لا تمتلك إمكانية الوصول إلى البحار المفتوحة لا يمكن أن تصبح قوةً عالمية متوسطة المستوى. الأحداث التي تشهدها غزة (فلسطين) وسوريا هي، من منظور جيوسياسي، قضية تتعلق بشرق البحر الأبيض المتوسط، تمامًا مثل قبرص وليبيا، وليست مجرد مسألة مرتبطة بـ”الشرق الأوسط” كمفهوم ابتكره البريطانيون. لذلك، يجب التعامل مع هذه القضية من هذا المنظور، ووضع السياسات وفقًا لهذا السياق. ما حدث في ليبيا وسوريا وأوكرانيا منذ عام 2011 هو أوجه مختلفة لنفس الصراع الجيوسياسي البحري. الهدف الرئيسي من هذه الصراعات هو منع الدول القوية بريًا، والتي ليست غربية، مثل تركيا وروسيا والصين، من الوصول إلى البحار، وتحويلها إلى دول عالقة في البر (حبيسة). ولتحقيق هذا الهدف، سعت القوى الكبرى إلى تقسيم الشرق الأوسط إلى دول صغيرة ومتوسطة تتصارع على أساس طائفي أو عرقي، مما يسهل السيطرة عليها، وبالتالي خلق شرق أوسط أمريكي يمكن التحكم فيه بسهولة. بعبارة أخرى، الهدف هو “لبننة” المنطقة بأكملها، أي جعلها تشبه لبنان من حيث الانقسامات الداخلية والضعف الهيكلي.

لا شك أن العملية التي شنتها المعارضة السورية في تلك الفترة على حلب، عندما أدركت أن نظام الأسد ينهار من الداخل، تحولت إلى نتيجة غير متوقعة وأدت إلى إسقاط النظام، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى انهيار جدار برلين في المنطقة ونهاية الحرب الباردة، وإن لم يُلاحظ بشكل جيد بعد. وبالتالي، فإن إسقاط نظام الأسد ووقف إطلاق النار في غزة لهما تأثير “ساعة الصفر” الذي سيحدد إلى حد كبير ما سيحدث لاحقًا على نطاق الشرق الأوسط. الصراع من أجل شرق البحر الأبيض المتوسط، الذي يعد القلب الجغرافي للتاريخ، يدخل الآن مرحلة جديدة.

Cem Şenol

د. جيم شينول
ولد د. جيم شينول في ولاية أرضروم عام 1979 ونشأ في ولاية بورصة. تخرج من كلية الحقوق بجامعة اسطنبول. أكمل درجتي الماجستير والدكتوراه في القانون الجنائي في جامعة أتاتورك وقسم القانون العام في جامعة مرمرة. يعمل أستاذاً مشاركاً في قسم الإجراءات الجنائية  بكلية الحقوق بجامعة أتاتورك.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.