حوار هش: المحادثات الأمريكية الإيرانية في عُمان

يمكن للمفاوضات في عُمان، التي تتوافق مع ثلاثة سيناريوهات مختلفة (أو أكثر)، أن تؤثر ليس فقط على مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، بل أيضًا على التوازن الجيوسياسي في الشرق الأوسط بشكل مباشر. وبينما تستمر هجمات إسرائيل على غزة ولبنان في تحدي النفوذ الإقليمي لإيران، تحاول دول الخليج البقاء بعيدة عن هذا التوتر. كما أن استمرارية المفاوضات الأمريكية-الإيرانية تمثل أهمية كبيرة من حيث تقليل الحروب بالوكالة في المنطقة وضمان أمن الطاقة. لكن الموقف المتشدد الذي تبناه نتنياهو ضد المفاوضات يحتمل أن يخلق توترًا في العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية أيضًا.
image_print

مع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة للمرة الثانية، عاد التوتر في خط واشنطن-طهران ليصعد إلى صدارة الأجندة العالمية. كان ترامب قد ألغى من جانب واحد خلال فترة ولايته الأولى “خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA) التي تم توقيعها عام 2015 للحد من الأنشطة النووية الإيرانية، ثم أطلق هجومًا استهدف قادة فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، مما دفع بالتوتر الإقليمي إلى ذروته. ولا يزال السؤال حول ما إذا كان هذا الخط السياسي المتشدد والقائم على المواجهة سيستمر في عهد ترامب الثاني يشكل موضوع فضول في أوساط العلاقات الدولية منذ فترة طويلة.

بينما كانت منصات الإعلام التابعة لجناح الصقور في الولايات المتحدة تناقش حتى احتمالية التدخل العسكري ضد إيران في أوائل عام 2025 بصوت عالٍ، أحدث إعلان ترامب خلال اجتماعه الأخير مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن بدء مفاوضات مباشرة مع إيران صدمة غير متوقعة. خاصة وأن هذا الإعلان جاء رغم الضغط الدبلوماسي لنتنياهو الذي علق في مستنقع سياسي بسبب حرب غزة والمأزق الداخلي، مما شكل مفاجأة لكل من الرأي العام في تل أبيب والعالم. لكن بالنسبة لزعيم مثل ترامب، الذي يتبع سياسة خارجية لا يمكن التنبؤ بها وتتشكل وفق حسابات شخصية، فإن هذه الخطوة مناسبة إلى حد ما لمنطقه السياسي الخاص. وبالتالي، أصبح اتجاه المفاوضات الأمريكية الإيرانية التي بدأت في مسقط موضوعًا يثير الفضول.

وساطة عُمان

تقدم عُمان أرضية لا تسبب فقدان هيبة لأي من الطرفين. تفضل الولايات المتحدة وإيران عقد المفاوضات في بلد يراعي التوازنات الدبلوماسية وله سابقة في الوساطة، مثل عُمان، وليس في دول يُنظر إليها على أنها منحازة، مثل الإمارات العربية المتحدة. أصبح الحياد المكاني والدبلوماسي الذي توفره عُمان عنصرًا لا غنى عنه لمثل هذه المفاوضات عالية التوتر. بهذا الصدد، كشفت الاتصالات في مسقط مرة أخرى أهمية الجهات الفاعلة المحايدة مثل عُمان في عمليات حل النزاعات في المنطقة.

أظهرت المفاوضات الأمريكية-الإيرانية التي جرت في العاصمة العُمانية مسقط في 12 أبريل 2025، استئناف الاتصالات الدبلوماسية المعلقة منذ فترة طويلة بين الطرفين. لعبت عُمان، بموقفها المحايد في المنطقة، أدوارًا وسيطة مهمة في الماضي، حيث استضافت أيضًا المفاوضات التمهيدية لخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) التي وُقعت عام 2015.

هذه المرة، تحولت الفترة التي بدأت بخطاب تهديد صارم بعد إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى مفاوضات غير مباشرة عبر عُمان في غضون وقت قصير. كشفت أربع جلسات غير مباشرة بين الممثل الخاص الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، والتي جرت عبر وساطة وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي، عن بدء حوار محدود لكن ملموس بين الطرفين. في نهاية الاجتماعات، كانت المصافحة المباشرة بين الدبلوماسيين خطوة رمزية مهمة. وقد أشار العديد من الأشخاص إلى أن المفاوضات أصبحت ضرورة أكثر من كونها خيارًا لكل من الولايات المتحدة وإيران. وبالفعل، يعتبر البعض العملية والمحادثات على الجانب الأمريكي خطوة استراتيجية تجمع بين الرغبة في الحفاظ على الضغط الأقصى على إيران وفي نفس الوقت تحقيق اتفاق جديد. فإدارة ترامب، من ناحية، تواصل فرض عقوبات اقتصادية صارمة على إيران، ومن ناحية أخرى، لا تخفي رغبتها في التوصل إلى اتفاق سيحمل اسمها. وقد اشتكى ترامب في الماضي من فقدان الشركات الأمريكية “لفرصة تريليون دولار” في إيران. هذا البراغماتية الاقتصادية تبرز كواحدة من الدوافع الرئيسية التي تدفع ترامب إلى اللجوء للدبلوماسية.

من وجهة نظر إيران، فإن المشاركة في المفاوضات هي نتيجة للضرورات الاقتصادية والضعف الإقليمي. فالاقتصاد الإيراني، الذي يعاني من أزمات طويلة الأمد بسبب العقوبات الأمريكية، يحاول التعامل مع ضغوط متعددة مثل الانهيار في البنية التحتية للطاقة، والخسائر الاستراتيجية لوكلائه مثل حزب الله، وارتفاع التضخم، وأزمات العملات الأجنبية، والسخط المتزايد في الرأي العام الداخلي. تصريحات الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان والمرشد الديني علي خامنئي، التي تفتح الباب للحوار، تُظهر أن النظام يتبع استراتيجية حذرة للتطبيع. ومع ذلك، فإن برنامج إيران للصواريخ الباليستية، وقدراتها في التخصيب النووي، ونفوذها الإقليمي تظل خطوطًا حمراء غير قابلة للتفاوض.

التوقيت

تجرى المحادثات الأمريكية الإيرانية في وقت يتزامن مع اقتراب تاريخ حاسم بالنسبة للدبلوماسية الدولية. ففي أكتوبر 2025، من المقرر أن يُناقش احتمال إعادة تفعيل آلية “الزناد” (سناب باك) الخاصة بالاتفاق النووي الإيراني. هذه الآلية تتيح إعادة فرض عقوبات مجلس الأمن الدولي تلقائيًا بحجة أن إيران لم تفي بالتزاماتها. وإذا لم تحقق إدارة ترامب مكسبًا دبلوماسيًا ملموسًا قبل هذا الموعد، فقد تواجه خيارًا صعبًا بين اللجوء إلى الخيار العسكري أو فقدان فرصة دبلوماسية كبيرة. أما إيران، فتحاول خلال هذه الفترة مواصلة التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) لإثبات أن برنامجها النووي ليس موجهاً بالكامل للأغراض العسكرية. ووصف عراقجي المحادثات بأنها جرت في أجواء من “الاحترام المتبادل”، مما يُظهر استعداد إيران للتفاوض مع التأكيد على أنها لم تتراجع عن خطوطها الحمراء.

أهداف مختلفة لترامب وإيران

يبدو أن الأطراف تخوض عملية تفاوض تستهدف أهدافًا مختلفة. وراء هذه العملية الدبلوماسية التي يقودها ترامب مع إيران، لا تكمن فقط أهداف جيوسياسية، بل أيضًا طموحات شخصية. فقد مزق ترامب اتفاق “JCPOA” الموقع عام 2015 وألقى به في سلة المهملات، وهو الآن يحاول أن يبرم اتفاقًا جديدًا سيُسمى باسمه، ليُعيد بناء صورة “الزعيم المسالم لكن القوي” في السياسة الخارجية. كما أن تحويل إيران، التي تبيع النفط بأسعار مخفضة للصين، إلى سوقٍ للشركات الأمريكية مرة أخرى، يتوافق مع استراتيجية ترامب المتمثلة في “فتح المجال للرأسمالية الأمريكية”. لكن هذا الهدف قد يواجه مقاومة ليس فقط من إيران، بل أيضًا من المتشددين المعادين لإيران في الكونغرس الأمريكي، ومن جماعات الضغط الإسرائيلية، وحتى من داخل حكومته المؤيدة لتبني مواقف صارمة.

من ناحية أخرى، بالنسبة لإيران، تمثل عملية التفاوض محاولة لكسب الوقت كتكتيك مؤقت. في هذا الصدد، لا تهدف المفاوضات من وجهة نظر طهران إلى إظهار الضعف، بل إلى خلق مساحة للمناورة الاستراتيجية. بعد اغتيال سليماني، أكد خامنئي أنه لا يمكن الوثوق بالولايات المتحدة أبدًا، لكنه الآن يفسح المجال لمرونة دبلوماسية. وراء هذا التحرك، يكمن الخوف من أن موجة جديدة من الضغوط القصوى التي قد يطبقها ترامب في ولايته الثانية يمكن أن تزيد من تدهور وضع البلاد.

في ظل تعمق أزمات الطاقة، وانهيار البنية التحتية، وأزمات العملة الصعبة في إيران، تحاول حكومة مسعود بزشكيان تقديم صورة إصلاحية ومنفتحة على العالم، حتى لا تفقد دعم الرأي العام الداخلي. إن طرح رئيسي لموضوع الامتثال لـ “FATF” (فريق العمل المالي لمكافحة غسل الأموال)، وتعيين جواد ظريف مستشارًا، وإرسال إشارات حول الإصلاحات في مجال الحقوق الرقمية، كلها تدل على تبني نهج دبلوماسي في العلاقات مع الولايات المتحدة في المرحلة الجديدة يركز على موضوع “المصلحة المتبادلة”.

السيناريوهات المحتملة

يبدو أن المفاوضات الأمريكية-الإيرانية التي أُعلن عن بدئها في عُمان تسير على أرضية هشة وتتشكل حول ثلاثة سيناريوهات. في السيناريو الأول، قد يتم توقيع اتفاق مؤقت بين الطرفين. في هذا السيناريو، يمكن أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق حول عناوين مثل تحديد مستوى التخصيب النووي الإيراني وإلغاء جزء من العقوبات الأمريكية. هذا الخيار هو الأكثر احتمالاً والأقل خطورة. حيث يمكن لكل من ترامب وإيران إيصال رسالة نجاح دبلوماسي للرأي العام المحلي. أما السيناريو الثاني، فقد يتشكل جو من الجمود في المفاوضات وتصاعد التوتر. في هذا السيناريو، قد تتوقف المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران بسبب تأثير الجهة المتشددة داخل إيران والولايات المتحدة، وبسبب جهود الضغط التي تقودها سياسة التوسع الصهيوني تحت قيادة نتنياهو. في هذه الحالة، قد يتم تفعيل سيناريوهات صراع عسكري أو عبر وكلاء. كما أن تفعيل آلية “الزناد” (Snapback) قد يؤدي إلى احتمال انسحاب إيران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT).

أما السيناريو الثالث، فقد يتمثل في عودة سياسة الضغط الأقصى التي تتبعها الولايات المتحدة ضد إيران إلى الواجهة. ففي حال عدم التوصل إلى اتفاق، قد تبدأ إدارة ترامب عملية جديدة من العقوبات والتهديدات. هذه الاستراتيجية، التي لم تثمر عن نتائج ملموسة في وقف إيران في الماضي، قد تزيد من تقارب إيران مع الصين وروسيا.

السيناريو الأكثر احتمالاً من بين هذه السيناريوهات هو الاتفاق المؤقت القائم على مكاسب محدودة. فكلا الطرفين لا يرغبان في تقديم تنازلات كبيرة، ولكنهما يتجنبان أيضاً التصعيد العسكري.

في النهاية، يمكن للمفاوضات في عُمان، التي تتوافق مع ثلاثة سيناريوهات مختلفة (أو أكثر)، أن تؤثر ليس فقط على مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، بل أيضًا على التوازن الجيوسياسي في الشرق الأوسط بشكل مباشر. وبينما تستمر هجمات إسرائيل على غزة ولبنان في تحدي النفوذ الإقليمي لإيران، تحاول دول الخليج البقاء بعيدة عن هذا التوتر. كما أن استمرارية المفاوضات الأمريكية-الإيرانية تمثل أهمية كبيرة من حيث تقليل الحروب بالوكالة في المنطقة وضمان أمن الطاقة. لكن الموقف المتشدد الذي تبناه نتنياهو ضد المفاوضات يحتمل أن يخلق توترًا في العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية أيضًا. إن سعي الولايات المتحدة إلى أرضية دبلوماسية مع إيران يدفع في الوقت نفسه جهات فاعلة إقليمية مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى البحث عن توازن جديد. وبالتالي، فإن الاتصالات الدبلوماسية التي بدأت بين الولايات المتحدة وإيران في عُمان تجري عند مفترق طرق حيث تلتقي الشكوك التاريخية والضغوط السياسية الداخلية والضرورات الاقتصادية. إن توجه الأطراف نحو الدبلوماسية هو نتيجة ضرورات استراتيجية أكثر منه نتيجة حسن النوايا المتبادلة. وفي هذه العملية، فإن مشاركة جهات محايدة مثل عُمان، مع ما تتمتع به من تراكم دبلوماسي محلي وفهم ثقافي، تُبقي آمال السلام الدائم حية في موازين القوى الهشة في الشرق الأوسط. ولا يعتمد نجاح المفاوضات فقط على الحد من البرنامج النووي الإيراني، بل هو أيضًا أمر بالغ الأهمية لمنع التصعيد الإقليمي. ومن المقرر أن تكون الجولة الثانية من المحادثات المخطط عقدها في أوروبا خلال الأسابيع المقبلة حاسمة لمستقبل هذا الحوار الهش. إذا جلس الطرفان إلى الطاولة بموقف أكثر إيجابية ووضوحًا وواقعية، فقد يشهدان انتقالًا من العداء المستمر منذ سنوات إلى إطار دبلوماسي دائم.

Dr. Mehmet Rakipoğlu

د. محمد رقيب أوغلو
تخرج من قسم العلاقات الدولية في جامعة صقاريا عام 2016. أكمل رسالة الدكتوراه تحت عنوان "استراتيجية الحماية في السياسة الخارجية: علاقات السعودية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا في فترة ما بعد الحرب الباردة". يعمل مديراً لأبحاث تركيا في مركز المخا للدراسات الاستراتيجية، وهو أيضاً عضو هيئة تدريس في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ماردين آرتوكلو.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.