طرأت تحولات كبيرة على الحياة السياسية التركية خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، والتي تتواصل دون انقطاع منذ نحو ربع قرن. ومن بين المجالات التي ظهرت فيها هذه التحولات بشكل واضح، دون شك، هو مجال السياسة الخارجية. مقارنة بالماضي، تبنت تركيا نهجًا أكثر جرأة واستباقية، حيث أصبحت أكثر تدخلاً في المشكلات في المناطق القريبة والبعيدة، وزادت من مساعداتها الإنسانية، وتنوعت سياستها الخارجية بعد أن تخلصت من محور كان يتمركز حول الغرب. في هذه المرحلة، التي اتسمت بسياسة خارجية أكثر استقلالية، انتقدت جهات داخلية وخارجية مختلفة سياسات حزب العدالة والتنمية الخارجية. زعمت هذه الأوساط أن السياسة الخارجية التركية قد انحرفت عن خطها العقلاني التقليدي واتجهت نحو توجه طوباوي، منتقدة الحكومة، لاسيما فيما يتعلق بسياسة سوريا وأزمة اللاجئين. ومن الخارج، ظهرت العديد من الانتقادات حول ابتعاد تركيا عن الكتلة الغربية وحلف الناتو.
لكن في الفترة الأخيرة، أظهرت أزمة أوكرانيا أن السياسة الخارجية التركية تتشكل على أساس عقلاني، وأن هذا النهج قد حقق مكاسب استراتيجية مهمة للبلاد. على عكس أوكرانيا، فضلت تركيا خلال فترة التصاعد في التوتر مع روسيا بعد عام 2015، اختيار طريق التفاهم مع روسيا مع مراعاة خطر الصدام المباشر، بدلاً من الاعتماد الكامل على ضمانات الأمن التي وعد بها الحلفاء الغربيون. وفي وضع مماثل، اعتمدت أوكرانيا على دعم الدول الغربية واتبعت سياسة أكثر خطورة في مواجهة روسيا، مما جعلها تدفع اليوم ثمناً باهظاً.
يهدف هذا المقال إلى تقييم سياسات كل من تركيا وأوكرانيا، اللتين تعدان حليفتين للغرب، في مواجهة روسيا. سوف يتناول المقال السياسات المختلفة لتركيا وأوكرانيا في مواجهة روسيا، مع التأكيد على أن اتباع مبدأ “المساعدة الذاتية” (self-help) – وهو أحد المبادئ الأساسية للواقعية الكلاسيكية – قد وفر مكسبًا مهمًا في السياسة الخارجية لتركيا.
أمن الدولة: هل يعتمد على القوة المستقلة أم على الثقة في الحلفاء؟
على الرغم من أن الواقعية الكلاسيكية تُعتبر نهجًا متشائمًا إلى حد كبير في العلاقات الدولية، إلا أنها قد تكون مفيدة في بعض الأحيان لتفسير العلاقات بين الدول. ومن أفضل الأمثلة على ذلك النقاش الذي دار مؤخرا في البيت الأبيض بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. هذا الحادث أعاد إبراز الادعاءات الأساسية للواقعية الكلاسيكية، مما كشف مرة أخرى عن صلاحيتها في العلاقات الدولية.
ينظر المفكرون الواقعيون الكلاسيكيون إلى العلاقات الدولية على أنها صراع دائم على القوة وساحة للتنافس. يستند هذا النهج إلى الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي، ويؤكد أن الهدف الأساسي للدول هو البقاء. الدول التي ترغب في ضمان بقائها، يجب عليها تعزيز قوتها العسكرية والاستمرار في الاستثمار في الإنفاق الدفاعي. لأنه وفقًا للواقعية الكلاسيكية، لا توجد سلطة مركزية في النظام الدولي، وبالتالي لا توجد آلية لتقديم المساعدة للدول في مواجهة أي تهديد.
في هذا السياق، ينظر الواقعيون الكلاسيكيون إلى أن الدول لا يمكنها أن تُسلم أمنها وبقاءها لفاعل آخر. فإذا عهدت دولة ما بأمنها إلى منظمات دولية أو إلى دول أخرى، فإن احتمالات بقائها على المدى الطويل ستضعف بشكل كبير. لأنه لا يمكن لأي دولة أن تكون على يقين تام من كيفية تصرف دولة أخرى في المستقبل، أو من التزامها بوعودها. إذ يؤكد الواقعيون أن الدول، كفواعل عقلانية في العلاقات الدولية، تقدم مصالحها الذاتية أولاً، ويشيرون إلى أن الدول قد تتراجع عن التزاماتها السابقة أو تُنهي الاتفاقيات التي وقعتها إذا تطلبت مصالحها الاستراتيجية ذلك. وبالتالي، عندما يتعلق الأمر بالأمن والبقاء، فلا خيار أمام الدول سوى الاعتماد على قدراتها الوطنية الخاصة.
إذا وقعت دولة في خطأ الاعتماد على القوة العسكرية لدول أخرى بدلاً من قدراتها العسكرية الذاتية، فإنه وفقًا للواقعية الكلاسيكية، سيؤدي هذا الأمر إلى إضعافها جراء تبعيتها الاستراتيجية. لأن الدول الأخرى، رغم تحالفاتها وضمانات الأمن، تضع مصالحها الوطنية أولًا وقد تعيد تقييم تحالفاتها إذا تغيرت هذه المصالح. على مر التاريخ، دفعت العديد من الدول ثمنًا باهظًا لثقتها المفرطة في حلفائها. على سبيل المثال، فشل بولندا في عام 1939 في الحصول على الدعم العسكري الذي كانت تتوقعه من حلفائها الغربيين، أو إهمال بعض الدول لقدراتها العسكرية الذاتية مع اعتمادها الكامل على ضمانات الأمن الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة، كلها أمثلة ملموسة على هذه الحجة.
في هذا الإطار، تدافع الواقعية الكلاسيكية عن أن الضامن الأكثر موثوقية للدول هو قوتها الذاتية، وأنه لا ينبغي لها الاعتماد على جهات خارجية لضمان أمنها. فالدول لا يمكنها كبح النوايا العدوانية للدول الأخرى وحماية المصالح الوطنية إلا من خلال امتلاك قدرة عسكرية قوية، مما يعزز الردع.
أزمة أوكرانيا: اختبار ضمانات الغرب وتحول الموازين
في أوائل العقد الأول من 2000، بدأت الأزمة تتعمق بين روسيا والغرب، وتصاعد التوتر أكثر مع التدخل العسكري الروسي في جورجيا عام 2008، ثم ضم القرم في 2014. وقد أدى فشل آليات تخفيف التوتر وسياسات الغرب التي شجعت روسيا على اتخاذ خطوات عسكرية ضد أوكرانيا إلى أن تقوم روسيا، في مطلع عام 2021، بمحاولة غزو المناطق الشرقية من أوكرانيا التي يتكثف فيها السكان من الأصول الروسية. خلال هذه الأزمة، عززت الحكومة الأوكرانية تعاونها مع الكتلة الغربية في محاولة لاحتواء روسيا واستعادة الأراضي المفقودة عبر مبادرات دبلوماسية متنوعة.
ونتيجةً لذلك، أظهر الكتلة الغربية موقفًا حازمًا تجاه روسيا من خلال تقديم دعم كامل لإدارة أوكرانيا. جرى التعبير على أعلى مستوى عن تقديم كافة أشكال الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لأوكرانيا بهدف ردع موسكو وإجبارها على الانسحاب من الأراضي التي احتلتها وإزالة تهديدها للغرب. هذه الضمانات الأمنية التي قدمها الغرب خلقت جوًا من التفاؤل المفرط في إدارة كييف. زيلينسكي، الذي يدرك أنه لا يستطيع الصمود بمفرده أمام روسيا ولكنه يثق بشكل مفرط في وعود حلفائه الغربيين، شن حرب دفاع واسعة النطاق ضد روسيا شملت هجمات استفزازية أيضًا.
من المتوقع -بل من الواجب- أن تظهر الدولة رد فعل مقاومًا عند احتلال أراضيها وتعرضها لتهديد عسكري. لكن الثقة المفرطة والتفاؤل الزائد من حكومة كييف تجاه وعود التحالف الغربي، دفعها إلى المبالغة في تقدير قوتها أمام روسيا، مما أعاق مرونتها في المفاوضات الدبلوماسية. فعلى الرغم من الاقتراب بشكل كبير من تحقيق السلام خلال مفاوضات إسطنبول التي تمت بوساطة تركيا، إلا أن حكومة كييف -بتشجيع من الدول الغربية- لم تعطِ المفاوضات الاهتمام الكافي. وبدلًا من ذلك، آثرت مواصلة القتال، معتقدةً أن الدعم العسكري الغربي والعقوبات المفروضة على موسكو ستكفيان لهزيمتها.
أخيراً، تغيرت الموازين مع عودة ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة. فقد كان ترامب ينتقد إدارة بايدن منذ فترة طويلة، معتبراً أن الدعم المقدم لأوكرانيا غير ضروري وأن هذه المساعدات لا توفر أي عائد مادي للولايات المتحدة. وعندما جلس على كرسي الرئاسة، قام بمراجعة السياسات السابقة بدقة محاسب، وطالب باستعادة جميع الأموال المقدمة لأوكرانيا بل وأكثر من ذلك. علاوة على ذلك، تجنب منح كييف أي ضمانات أمنية في مواجهة روسيا. ونتيجة لذلك، وجدت أوكرانيا نفسها في مأزق دبلوماسي تواجه فيه خطر فقدان جزء كبير من أراضيها لصالح روسيا، وكذلك خطر خسارة مواردها الباطنية الثمينة لصالح الولايات المتحدة.
السياسة العقلانية لتركيا في مواجهة روسيا: الضمانات الغربية والتوازن الاستراتيجي
من الواضح اليوم، من خلال المعاملة التي تتعرض لها أوكرانيا، أن تركيا – على عكس أوكرانيا التي تنتمي إلى الكتلة الغربية – اتخذت خيارًا عقلانيًا للغاية باتباع سياسة مختلفة في مواجهة روسيا. فمع دخول روسيا إلى الساحة السورية في عام 2015، وجدت تركيا نفسها في موقف ينطوي على خطر مواجهة عسكرية مباشرة مع موسكو. وقد خلقت تطورات مثل انتهاك الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي بين الحين والآخر، وإسقاط طائرة تركية من قبل القوات الجوية السورية، توترات عسكرية خطيرة من وجهة النظر التركية.
في هذه الفترة، أكد حلفاء تركيا في حلف الناتو على ردود فعلهم القوية تجاه انتهاكات روسيا، مشيرين إلى أن المجال الجوي التركي هو في الوقت نفسه مجال جوي تابع للناتو. وأوضح الحلفاء أن على روسيا أن تأخذ هذه الحقيقة في الاعتبار عند التحرك، معربين عن التزامات قوية بأن الناتو سيدافع عن أنقرة إذا أسقطت تركيا الطائرات الروسية. وكانت المادة الخامسة من معاهدة الناتو قد نصت بالفعل على ذلك. وفقًا لهذه المادة، يُعتبر أي هجوم على عضو في الناتو هجومًا على جميع الأعضاء، ويجب على جميع الأعضاء التعبئة للدفاع عن الحليف الذي تعرض للهجوم. خلال هذه العملية، قام بعض أعضاء الناتو بنشر أنظمة باتريوت في تركيا، كما جددت الولايات المتحدة مرارًا تعهداتها بشأن مشروع إف-35، مؤكدة التزامها بزيادة قدرة الردع للقوات الجوية التركية.
لكن بعد إسقاط الطائرة الروسية، لم يثق صانعو القرار في تركيا تمامًا بهذه الضمانات التي قدمها الغرب، وفضلوا مسار التسوية بدلاً من تصعيد التوتر مع روسيا. ومع ذلك، اتبعت تركيا استراتيجية تهدف إلى موازنة روسيا من خلال مواردها الوطنية عبر استثمارات شاملة في صناعة الدفاع. خلال هذه العملية، اتهمتها بعض الأوساط الداخلية، والدول الغربية على وجه الخصوص، بالتقارب من روسيا، والابتعاد عن الغرب، وإحداث شرخ داخل حلف الناتو. بل إنه خلال حرب أوكرانيا، مورست ضغوط مكثفة على تركيا لزيادة الضغوط والعقوبات على روسيا. ورغم ذلك، حافظت تركيا على موقف حازم في الحفاظ على علاقات متوازنة مع روسيا. وبدلاً من الاعتماد الكامل على الغرب وضماناته الأمنية، اختارت تركيا بوعي الابتعاد عن سياسة التصعيد والمواجهة مع روسيا.
أظهر العقد الماضي أن أي دولة عندما تواجه مشكلة وجودية، فإنها لكي تبقى صامدة يجب أن تعتمد أولاً وقبل كل شيء على مواردها الخاصة. أوكرانيا، بالاعتماد على ضمانات الأمن الغربية، ذهبت إلى تصعيد التوتر مع روسيا، وخلال فترة شهدت ذروة التهديدات، اختبرت بشكل مؤلم كيف أن هذه الضمانات كانت غير كافية لحماية وجود الدولة. اليوم، أوكرانيا لا تواجه فقط خطر فقدان جزء كبير من أراضيها لصالح روسيا، بل إنها مضطرة أيضًا للتخلي عن ثرواتها المعدنية الثمينة لتصبح تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية.
أما تركيا، فإنها لم تعتمد على ضمانات الأمن الغربية، وإدراكًا منها بأنها لا تستطيع موازنة روسيا بمفردها، حافظت على علاقات متوازنة مع موسكو. وفي الوقت نفسه، عززت قدرتها الردعية من خلال استثمارات مكثفة في صناعة الدفاع. اليوم، تمكنت تركيا من الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا دون أن تتصور تهديدًا مباشرًا، كما نجحت في رفع مكانتها كفاعل مؤثر في القضايا الإقليمية والعالمية. هذه التطورات أبطلت الانتقادات الداخلية التي اتهمت الحكومة باتباع سياسات غير عقلانية، كما دحضت حجج أولئك الذين دعوا في السياسة الخارجية إلى تصعيد التوتر مع روسيا مع الاعتماد على ضمانات الأمن الغربية.