الآثار الاقتصادية للهجرة الطوعية والإجبارية

عند إدارتها باستراتيجيات صحيحة، تصبح الهجرة عاملًا مهمًا في تسريع النمو الاقتصادي. الاستثمار في سياسات التعليم، والتوظيف، والاندماج الاجتماعي، سيعزز حتما المزايا الاقتصادية التي توفرها الهجرة. والدول التي ترى الهجرة كفرصة يجب إدارتها بشكل جيد، وليس كتهديد، ستكتسب ميزة في المنافسة العالمية، بينما ستستمر الدول التي تتجاهل هذه الحقيقة في تفويت فرصة اقتصادية كبيرة.
08/03/2025
image_print

اقتصاد الهجرة

التاريخ البشري يمثل في نفس الوقت تاريخا للهجرة. كانت الهجرة واحدة من أقوى العوامل التي شكلت البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وعلى الرغم من أن مفهوم الدولة – القومية الحديثة جعل الكثيرين منا يعتقدون أننا ننتمي إلى نفس الأراضي منذ آلاف السنين، إلا أن الواقع مختلف تمامًا. عوامل مثل صعود وسقوط الإمبراطوريات، والحركات السكانية بين القارات، والثورة الصناعية، والحروب العالمية، والكوارث الطبيعية الكبرى، والأوبئة، تسببت في موجات هجرة كبيرة عبر التاريخ. هذه الحركات لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل الحالة الراهنة لعالمنا القائم اليوم.

غالبًا ما ترتبط الهجرة بأسباب سلبية، مما يجعلها تُعتبر في البداية “مشكلة”. عوامل مثل الحروب، والنزاعات، والأزمات الاقتصادية، والكوارث الطبيعية، تؤدي إلى تقييم الهجرة بشكل سلبي. ولكن عند تحليل الآثار التي تظهر بعد حدوث الهجرة، يتضح أن هذا التصور مضلل في العديد من النواحي. الهجرة ليست عملية تحويلية للأفراد فقط، بل أيضًا للدول المصدرة والمستقبلة للمهاجرين. وأحد المجالات التي يمكن ملاحظة هذا التحول فيها بوضوح هو الاقتصاد.

سواء كانت الهجرة طوعية أو إجبارية، نظامية أو  غير نظامية، فإنها تترك آثارًا عميقة على البنى الاقتصادية للدول المصدرة والمستقبلة. وأحد أبرز الأمثلة على المساهمات الاقتصادية للهجرة الطوعية هو قصة العمال الأتراك الذين ذهبوا إلى ألمانيا في الستينيات. فبعد الحرب العالمية الثانية، حاولت ألمانيا إعادة بناء صناعتها، وقامت باستقدام عمال من تركيا لسد فجوة العمالة. هؤلاء العمال لعبوا دورًا حاسمًا في التنمية الاقتصادية لألمانيا. ووفقًا لمكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني، فإنه في السبعينيات، شكل العمال الأجانب 10٪ من القوى العاملة الألمانية، بينما تجاوزت هذه النسبة اليوم 17٪. هذا يوضح أهمية القوى العاملة الأجنبية في الاقتصاد الألماني ومساهمتها الكبيرة في الناتج المحلي الإجمالي.

نرى صورة مماثلة في الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى مدى الخمسين عامًا الماضية، كان المهاجرون المؤهلون الذين جاءوا إلى الولايات المتحدة بحثًا عن تعليم أفضل ودخل وظروف معيشية أفضل، هم المحرك الرئيسي للتحول التكنولوجي في البلاد. ووفقًا لمؤسسة العلوم الوطنية، فإن أكثر من 40٪ من شركات التكنولوجيا في الولايات المتحدة تأسست من قبل مهاجرين، وهذه الشركات أنشأت قيمة اقتصادية تتجاوز تريليون دولار سنويًا.

أما الهجرة الإجبارية، فغالبًا ما تُعتبر عبئًا اقتصاديًا، ولكن الأبحاث تظهر أن هذا التصور لا يعكس الواقع بشكل كامل. الهجرة الجماعية للسوريين هي مثال جيد على ذلك. ووفقًا لبيانات البنك الدولي لعام 2019، فإن زيادة بنسبة 1٪ في عدد المهاجرين في الدول ذات الدخل المرتفع يؤدي إلى زيادة بنسبة 2٪ في دخل الفرد. وأظهرت دراسة أجريت في تركيا أن زيادة بنسبة 1٪ في عدد المهاجرين أدت إلى زيادة بنسبة 0.01٪ في النمو الاقتصادي. على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة، يبدو أن المهاجرين يساهمون بشكل إيجابي في الانتعاش اقتصادي. وتؤكد الدراسات التي أجرتها منظمات دولية مثل صندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والأمم المتحدة، أن المهاجرين يضيفون قيمة اقتصادية كبيرة لكل من الدول المصدرة والمستقبلة.

المهاجرون يخلقون تأثيرًا اقتصاديًا كبيرًا على أوطانهم وبلدانهم الأصلية. ووفقًا لبيانات البنك الدولي لعام 2023، تجاوزت تحويلات المهاجرين إلى بلدانهم 600 مليار دولار على مستوى العالم. على الرغم من أن تأثير تدفق العملات الأجنبية محدود في دول مثل تركيا التي تنتمي إلى فئة الدخل المتوسط-المرتفع، إلا أن هذه التحويلات توفر مساهمة اقتصادية كبيرة تصل إلى 20٪ من الدخل القومي في العديد من دول آسيا الوسطى وأفريقيا. هذه المساهمة لها أهمية كبيرة لاستدامة الحياة الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان. بالإضافة إلى ذلك، تلعب تحويلات المهاجرين دورًا وقائيًا في منع موجات الهجرة الإجبارية على نطاق أوسع في هذه البلدان.

وبغض النظر عن وضعهم القانوني، يسد المهاجرون الفجوات في سوق العمل ويدعمون النمو الاقتصادي. إنهم يعملون بشكل غير رسمي في قطاعات بحاجة إلى جهد مكثف في العمل مثل الزراعة، والبناء، والنسيج، وتربية الحيوانات. وعلى الرغم من أن النقاش العام غالبًا ما يركز على الدعم الحكومي والمساعدات التي يتلقاها المهاجرون، إلا أنهم في الواقع يندمجون بسرعة في الاقتصاد ويساهمون في الإنتاج. على سبيل المثال، أدى الإنفاق الاستهلاكي للسكان السوريين في تركيا إلى تنشيط اقتصادات المدن التي يعيشون فيها. لرؤية هذا النشاط، يكفي النظر إلى المؤشرات الاقتصادية لمدن مثل غازي عنتاب، وشانلي أورفا، ومرسين، وأضنة. من ناحية أخرى، ذكر تقرير لمنظمة العمل الدولية لعام 2020، أن حوالي مليون سوري عملوا في قطاعات لا يفضلها العمال الأتراك، مما سد الفجوة في سوق العمل.

نرى حالة مماثلة في إسبانيا، حيث يعمل المهاجرون غير النظاميين في القطاع الزراعي. ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2021، ساهم هؤلاء المهاجرون في إنشاء قطاع إنتاج غذائي بقيمة 15 مليار يورو سنويًا. وهذه الأمثلة تظهر أن المهاجرين يساهمون بشكل إيجابي في النمو الاقتصادي حتى في ظل ظروف الأجور المنخفضة والعمل غير الرسمي.

بالإضافة إلى ذلك، لا ينبغي تجاهل مساهمة رجال الأعمال السوريين في الاقتصاد التركي. فوفقًا لدراسة أجريت في عام 2022، فإن 20 ألف شركة سورية تعمل في تركيا وفرت فرص عمل لنصف مليون شخص وزادت صادرات تركيا إلى السوق العربية. ومع ذلك، غالبًا ما يتم تجاهل هذه المساهمة الاقتصادية الكبيرة بسبب التركيز في الرأي العام على المساعدات المقدمة من الاتحاد الأوروبي.

بالنسبة للدول التي تشهد شيخوخة سكانية ونقصًا في القوى العاملة، تعتبر الهجرة واحدة من أهم مصادر النمو المستدام. على سبيل المثال، قبلت كندا أكثر من 465 ألف مهاجر جديد في عام 2023 للحفاظ على قوتها العاملة وضمان استدامة نظام التقاعد. وتشير التوقعات في ألمانيا إلى أن البلاد ستحتاج إلى أكثر من 7 ملايين عامل مهاجر بحلول عام 2040. وعلى الرغم من أن الهجرة تسبب جدلاً في الساحة السياسية، إلا أنها تظهر كواحدة من العناصر الأساسية للاستقرار الاقتصادي والتنمية المستدامة.

كل هذه البيانات تظهر بوضوح أن الهجرة ليست عبئًا، بل هي فرصة. المهاجرون الطوعيون يساهمون بالابتكار والعمالة، بينما يساهم المهاجرون الإجباريون بالاستهلاك والإنتاج في الاقتصادات. وأظهرت دراسة أجريت في الولايات المتحدة في عام 2019 أن المهاجرين استفادوا من خدمات عامة بقيمة 405 مليارات دولار، ولكنهم دفعوا 492 مليار دولار كضرائب. هذا يوضح أن المهاجرين يساهمون بشكل صافي في النظام الاقتصادي.

ومع ذلك، فإن الاستفادة الكاملة من الفرص التي توفرها الهجرة تعتمد على السياسات الفعالة. المقاربات التي تركز على مخاوف الأمن ومعاداة الأجانب يمكن أن تعيق هذا الإمكانات الكبيرة. وفي الواقع، عند إدارتها باستراتيجيات صحيحة، تصبح الهجرة عاملًا مهمًا في تسريع النمو الاقتصادي. الاستثمار في سياسات التعليم، والتوظيف، والاندماج الاجتماعي، سيعزز حتما المزايا الاقتصادية التي توفرها الهجرة. والدول التي ترى الهجرة كفرصة يجب إدارتها بشكل جيد، وليس كتهديد، ستكتسب ميزة في المنافسة العالمية، بينما ستستمر الدول التي تتجاهل هذه الحقيقة في تفويت فرصة اقتصادية كبيرة.

Yusuf Aslan

كاتب تركي

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.