في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1924، وبموجب تفويض من عصبة الأمم، عيّن الفرنسيون، أحد الأطراف التي تقاسمت بلاد ما بين النهرين العثمانية، على أساس اتفاقية سايكس بيكو، الجنرال موريس بول ساراي، مفوضاً سامياً في سوريا. وبعد مرور قرن بالضبط على تعيين ساراي، الذي أفسد النسيج السياسي والاجتماعي العريق لسوريا، شنّت المعارضة السورية هجوماً على نظام الأسد، في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وتمكنت بعد يومين فقط – أي في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 – من تحرير حلب فتحت أمامها الباب نحو دمشق. لقد سقط النظام الأقلوي في سوريا. واختفت الحالة الشاذة التي ولدت من رحم الفرصة الجيوسياسية التي خلقها الاستعمار الفرنسي. واختفت الحالة الشاذة التي ولدت من رحم الفرصة الجيوسياسية التي خلقها الاستعمار الفرنسي. فعلى مدى نصف قرن، استطاع حكم عائلة الأسد، الذي كان قائماً على نظام تعذيب محض، الحفاظ على وجوده بعد أن سمحت الحرب الباردة للبذور التي زرعت خلال فترة الاستعمار الفرنسي بالازدهار. كما تزامنت الفترة نفسها مع تشكل نظام الشرق الأوسط المتمركز حول إسرائيل، مما مكّن السلطة الأقلوية هذه من إطالة عمرها حتى القرن الحادي والعشرين. ومع هروب بشار الأسد من سوريا، في 8 كانون الأول/ديسمبر، لم يقتصر الأمر على انهيار نظام التعذيب الذي لم يكن من الممكن تصوره لنظام البعث فحسب، بل انهار معه أيضًا النظام الأقلوي الممتد منذ قرن من الزمان، وهو ما أعاد سوريا إلى حافة التفكك الذي ساد بعد العهد العثماني. في سوريا، التي كانت تشهد نقاشات قبل مئة عام حول مصير الأقليات، وحكم الانتداب، والمجموعات الدينية والطائفية المختلفة، فتح الطريق مرة أخرى بعد قرن أمام تصحيح جيوسياسي وسياسي حقيقي. في عام 2024، عادت سوريا، من ناحية، إلى عام 1918 محملة بقرن من التجربة.
سيتم فهم أهمية وحجم الثورة بشكل أفضل في السنوات القادمة. كما سيكون من الممكن في السنوات المقبلة أن نرى بشكل أفضل الهزات الارتدادية الناجمة عن منع سوريا، التي مركز المخيال التاريخي والذاكرة السياسية للإسلام، وقلب بلاد ما بين النهرين وعالم البحر الأبيض المتوسط، من أن تشهد أندلسًا ثانية. وعندما يُكتب التاريخ غداً، بعد قرن من عدم الاستقرار ونصف قرن من النظام الوحشي في سوريا، ومهما كانت هشاشة هذه الفترة وحتى فوضويتها جزئياً، فإن عواقب الحالة الشاذة التاريخية التي بنيت في سوريا قبل قرن والاحتمالات القوية لعودته إلى النمو ستكون مفهومة وتخضع للتقييم بشكل أفضل مما هو عليه اليوم. ولا شك أن نهاية الحالة الشاذة التاريخية في سوريا ستكون واعدة ببداية جديدة ونظام سلمي. وبعبارة أخرى، فإن مركز الألم في سوريا يتمحور في كيفية إنشاء بنية شاملة من خلال تغيير نموذجي. فبعد ما يزيد عن نصف قرن من الفظائع التي ارتكبها نظام الأقلية، ستكون الشمولية هي المحور الرئيسي للنقاش أو القاعدة الرئيسية لنقاط الهشاشة المحتملة. وفي حين أن مصدر الشرعية سيزداد بالنسبة للمقاربات التي تعزز إمكانية التعايش، فإنه سيقل بالنسبة لأي طرف يدفع بعكس ذلك.
إن أهمية وقيمة الثورة الأخيرة لا تقدر بثمن باعتبارها ظهرت خلال فترة كان فيها الأسد يحصل على انتقال جديد للشرعية العام الماضي ويعيد علاقاته الدبلوماسية مع جميع دول منطقته، باستثناء تركيا، وهذه الفترة كانت قد خلقت شعوراً واضحاً بالهزيمة وتجمد التاريخ بالنسبة لأولئك الذين كانوا يريدون زوال نظام البعث. ومن هذا المنطلق، لا يمكن مقارنة حجم الصدمة التي عاشها العالقون تحت أنقاض النظام المنهار، بحجم خيبة الأمل التي عاشها السوريون على مدى السنوات الثماني الماضية.
ولكي نفهم هذا الوضع بشكل أفضل، يكفي أن نتخيل سيناريو تكون فيه تركيا قد فقدت الأمل بشأن سوريا. بالطبع، ليس هكذا يُكتب التاريخ ولا تسير الحياة بهذه الطريقة. ومع ذلك، دعونا نعود إلى فترة 2012 – 2013؛ ولنتذكر اللغة التي تشكلت في الكراهية التي تتشكل في الكراهية التي تتلبس بالسياسة من قبل مختلف أنواع القوميات التي تحاول التخفيف من ألم عدم القدرة على لعن الجغرافيا والتاريخ الذي تأتي منه علانية، مصحوبة بتاريخ خيالي يرضي نفسه. من ناحية، دعونا نتذكر اللغة التي تشكلت وسط كراهية كان يُعتقد أنها سياسة من قبل شتى أنواع النزعات القومية الساعية من جهة لتخفيف الألم الناجم عن عدم قدرتها على لعن المنطقة الجغرافية التي تقع فيها والتاريخ الذي تنحدر منه، علانية، مصحوبة بتاريخ خيالي يرضي ذاته. دعونا نتخيل أن هناك تأثير بالفعل للعقلية التي ترى الشرق الأوسط مستنقعاً، والتي بدلاً من مواجهة أهوال الحرب العالمية الأولى، تتصرف وكأنها في جزء آخر من العالم برومانسية صادمة، وهي منزعجة للغاية من حقيقة أن المنطقة التي تسميها مستنقعاً تشكل 1850 كيلومتراً من حدود البلاد البرية التي تبلغ 2750 كيلومتراً. دعونا نتذكر أيضًا تزاوج هذه العقلية مع البؤرة التي أوقفت شاحنات تابعة لجهاز الاستخبارات التركي أثناء توجهها إلى سوريا في نفس تلك السنوات. ولا ننسى أن هذه العقلية شكلت خطاب المعارضة بأكملها تقريبا، على اختلاف انتماءاتها الحزبية، في ذلك الوقت، حيث كانت تعبر عن حقدها الطائفي على أنه سياسة شرق أوسطية واقعية. ووسط هذا المشهد كله، دعونا نضيف إلى معادلتنا وظيفة الضغط المتمثلة في الاستهلاك الجيوسياسي لآفة داعش على المستوى العالمي مقترنة بالخطاب داخل البلاد. دعونا نرى كذلك أن الكادر الأكثر شراسة أعلاه يجتمع تحت سقف الجيش، وهو البؤرة الأقوى لنظام الوصاية. بعبارة أخرى، لنتذكر أن العقلية التي ترى المنطقة مستنقعاً التقت في نفس المكان مع العقلية التي نقلت حادثة شاحنات الاستخبارات إلى الرأي العام الغربي على أنها عملية ضد داعش، في وقتٍ كان يتشكل فيه مخطط جديد في سوريا على غرار اتفاقية سايكس-بيكو، للمرة الثانية بعد قرن من الزمن، لكن هذه المرة بأيد جهات فاعلة مختلفة، بدلا من مواجهة التهديدات التي سيشكلها هذا النظام الجديد على تركيا والمنطقة.
أولئك الذين ظنوا أنهم يستطيعون التفرج على الكارثة الإنسانية من خلال مقاربة تقوم على “عدم التدخل في الأحداث”، بينما كان الجانب الآخر من الحدود البالغ طولها نحو 1000 كيلومتر ينقلب رأساً على عقب، اعتقدوا لسنوات طويلة أنهم يهينون العقل الذي يسعى لإدارة الأزمة السورية، عبر جملهم المفعمة بالغطرسة والتي كانت تبدأ بمقدمة مستهزئة، وهي؛ “سياستنا تجاه سوريا”. لقد ظل الكثير منهم يرددون عبارة “سياستنا تجاه سوريا…”، نيابة عن عواصم أخرى، وبعضهم كان يترجم ما يسمعه من الغرب وكأنه مخبر محلي، والبعض الآخر كان يخفي تعصبه الطائفي تحت غطاء التحليل الجيوسياسي. ولم يهتموا بوحشية نظام البعث، التي لا يمكن تخيلها، ولا بعواقب المخاطر الموجهة تركيا. وبعد كل شيء، ما الذي كان يمكن أن يحدث لو تم الاستسلام حينها لهذه العقلية؟ هذا سؤال يستحق بالفعل التأمل بعمق. فلو أن تركيا تابعت أحداث سوريا بنهج سلبي ولا مبالاة، فإن ذلك كان يمكن أن يؤدي إلى مأساة إنسانية ربما تفوق ضعف حجم أزمة اللاجئين التي شاهدناها على مدار السنوات الـ 10 الأخيرة. وكان من الممكن أن تصبح تركيا الطرف الأقل فعالية وربما أكثرها بلا معنى على صعيد النظام الجيوسياسي في منطقتها.
ولولا ملاذ إدلب الذي كان ثمرة عملية أستانة أيضاً بعد سقوط حلب، لكان من الممكن أن تتعرض الديموغرافيا السورية للتطهير العرقي بالكامل، دون أن تتعافى أبداً. وكان من الممكن أن يتحول نظام الأسد الأقلوي البالغ من العمر 59 عاما إلى حقل مفتوح للتدخلات الديموغرافية من جانب طهران، والتي كانت لتغير من سماته “الأقلوية”، وتؤسس لنظام كان من شأنه أن يسمح له بالبقاء في السلطة لمدة 15 إلى 20 عاما أخرى ومن ثم تسليمها إلى أحد أفراد أسرته، ويمهد الطريق أمام تموضع روسيا في سوريا بما يتجاوز بضع قواعد عسكرية. كما أن العناوين مثل الموقع الذي سيتموضع فيه تنظيم “بي كي كي”، والانعكاس المحتمل لهذا الوضع على العراق، كان من شأنها أن تبني منظومة يمكن من خلالها تحقيق العديد من الأشياء التي يقال إنها مستحيلة. كما يجدر بنا أن نناقش أيضاً كيف ستغير سوريا كهذه منطقتنا وكيف سيتم تحصين إسرائيل في المرحلة القادمة. خلاصة القول؛ في 8 كانون الأول/ديسمبر، لم تحدث ثورة في سوريا فحسب، بل رأينا أيضًا ثمار النهج الذي أبقى تركيا بعيدة عن عالم الفوضى والمخاطر.
اختبار سوريا الفاصل
شكلت سوريا اختبارًا فاصلًا من الناحيتين الأخلاقية والجيوسياسية في نفس الوقت. وقد اجتاز هذا الاختبار عدد قليل جدًا من الناس. وعلاوة على ذلك، كان يُنتظر أن يجتاز الكثيرون أحد هذين العنوانين؛ الاختبار الأخلاقي على الأقل. لكنهم لم ينجحوا في ذلك. لم يكن لديهم ما يكفي من الضمير لاجتياز الاختبار الأخلاقي في سوريا. لقد استخدموا الكليشيهات الجيوسياسية الفارغة لقمع ضمائرهم. وظنوا أن “الأساطير والكليشيهات” السورية التي استُهلكت لسنوات طويلة هي الحقيقة، لمجرد أن السوريين المظلومين أصبحوا ضعفاء وفقدوا الأرضية والمواقع. أطلقوا مسمى محور المقاومة، وتحدثوا عن المشاريع الإسرائيلية الكبرى، وقالوا إن روسيا تقف إلى جانب النظام بكل ما تملك من قوتها، وزعموا أن المنطقة كلها ستنقلب رأساً على عقب إذا ما اضطربت الأوضاع في سوريا. كانوا تارة يتهمون الغرب بالسعي لإسقاط الأسد، وتارة أخرى يوجهون أصابع الاتهام هذه لإسرائيل. ولم يقتنعوا أبدا بأن السوريين المظلومين يريدون الإطاحة بنظام التعذيب البعثي.
كوفئت تركيا على رفضها التخلي عن سوريا، رغم ضغوط محور الشر الذي أنشأته شرائح داخل البلاد بشأن القضية السورية. علما أن هذه الشرائح لم يكن يجمعها أي موقف موحد حول أي قضية أخرى. وقد كوفئ الرئيس أردوغان على وجه الخصوص على جهوده للحفاظ على الأرضية التي حررت دمشق في 8 ديسمبر، داخل سوريا، ومقاومته من ناحية أخرى للضغوط العنصرية القوية في ملف اللاجئين السوريين. ومن المؤكد أن عدم تخلي أردوغان عن سوريا لا يشكل استثناءً على صعيد منطقتنا خلال فترة حكمه فقط. بل يعد أيضًا من ناحية أحد الاستثناءات البارزة في القرنين الأخيرين اللذين شهدا بداية سنوات من التفكك أو “التراجع” في تاريخنا. ومن ناحية أخرى، لم يفقد هاقان فيدان، الذي استهدفوه مباشرةً عبر عملية شاحنات الاستخبارات، عزيمته على مدى 13 عاماً، ونجح في بناء الأرضية والانتصار الذين حققا الثورة في سوريا، من خلال حماية المعارضة بطريقة أو بأخرى وسط توازن جيوسياسي دقيق وصعب للغاية شكّل تقريباً كل مسيرته المهنية.
لا شك أن مرحلة ما بعد الأسد تنطوي على العديد من الهشاشة والمخاطر. ولكن، لا يمكن لأي مرحلة مقبلة على سوريا أن تكون أسوأ من الدمار الذي سببه نظام التعذيب البعثي في هذا البلد. والواقع أن السوريين هم أوائل المقتنعين بهذا الأمر. في المرحلة الراهنة، هناك أربعة مجالات مفتوحة من المخاطر واحتمال فترة من الهشاشة بالنسبة إلى سوريا. واحتمال فترة الهشاشة يعني فترة الفوضى التي تكون متوقعة بعد كل ثورة. وتظهر البوادر الأولى للثورة السورية، التي لم تكمل شهرها الأول بعد، أن أي شريحة من المجتمع في سوريا لا تملك القوة والدافع لتحويل حالة الإرهاق والهشاشة المستمرة منذ قرن إلى فوضى. كما أنها تعطي شعوراً بأن الفرحة بالتخلص من نظام الأسد تملك من الطاقة ما يقمع مشاهد الإرهاب الجديدة التي قد تظهر.
مجالات الخطر في سوريا
أول مجالات الخطر الأربعة بالنسبة لسوريا هو إعادة تشكيل “محور الوضع القائم” بعد أن تحققت في دمشق رغبة التغيير للثورات العربية التي بدأت قبل 14 عاماً، بثمن باهظ وانتصار واضح. وكما كان الحال قبل 13 – 14 عاماً، فإن الجهات الفاعلة التي اجتمعت حينها للحفاظ على الوضع الراهن في مواجهة الضغوط من أجل التغيير في المنطقة، تجد نفسها مرة أخرى في نفس حالة القلق. من إسرائيل إلى إيران، ومن مصر إلى الخليج، ومن الولايات المتحدة إلى الأردن؛ ربما يبدون ردود فعل مرتبكة من أجل ضمان الحفاظ على وجود النظام الجيوسياسي القديم في المنطقة بدوافع مختلفة. إلا أنهم سيجدون صعوبة في إيجاد جهات فاعلة يمكنها حمل ردود الفعل هذه داخل سوريا. لأنه لم يعد هناك وجود لأي من الديناميكيات والعناصر الحاملة التي جمعت إسرائيل وإيران، وروسيا وأمريكا، والعراق والأردن، على خط واحد في سوريا قبل 13 عاما. بل على العكس من ذلك، هناك ديناميكيتان كانتا فعالتين في تفعيل الثورة السورية؛ الأولى هي نجاح تركيا في الحفاظ على منطقة محمية بالدعم الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي وقدرات الدولة. فبينما كانت المعارضة السورية تزدهر في هذه المنطقة المحمية، كان النظام السوري يتحلل في نفس المرحلة. وقد وهذه الديناميكية الجديدة جعلت اليوم العناصر التي حافظت على وجود نظام الأسد قبل 12 – 13 عامًا، بلا معنى فعليا.
أما الديناميكية الثانية فهي أن أولئك الذين حافظوا على بقاء نظام الأسد قد هيأوا بأنفسهم أيضا الأرضية لانهياره. فبعد عام 2022، أصبحت أربعة من الجهات الفاعلة الخمسة المنخرطة في سوريا (إيران-إسرائيل، والولايات المتحدة-روسيا، إيران-أمريكا) في حالة حرب مع بعضها البعض وغيرت الوضع الجيوسياسي والعسكري القائم على الأرض. وفي اليوم الذي بدأت فيه روسيا غزوها لأوكرانيا، بدأت عضلاتها الجيوسياسية تضعف في الملف السوري. ودخلت إيران بعناصرها من حزب الله والميليشيات الأخرى لأول مرة في مغامرة كبرى على النطاق السوري، ففقدت الجدية التنظيمية التي حافظت عليها لسنوات وتحولت إلى فيالق طائفية مشتتة. خلال هذه الفترة، استنفد حزب الله كل رصيده في العالم الإسلامي وفكك قوته التنظيمية دون أن يدري. وقد ظهر حجم هذا التفكك بوضوح أكبر في مواجهة الهجمات الإسرائيلية. فإدارة دمشق، كانت تصنف من قبل إسرائيل منذ سنوات كـ”عدو مريح“، وكانت قد أصبحت، حسب الوثائق الرسمية التي انتشرت بعد الأسد، أداة عادية للجيش الإسرائيلي، وتبين أخيرا أنها ليست سور جهاز مفيد لتل أبيب من أجل التجسس على حماس وحزب الله. وقد تأثر وجود حزب الله في سوريا بشكل مباشر عندما واصلت إسرائيل الإبادة الجماعية في غزة ونقلت الحرب إلى لبنان. وبقبول إيران فعلياً بعدم قدرتها على تحمل حرب تقليدية مفتوحة، فإنها لم تدرك فقط أن ”محور المقاومة“ الذي استثمرت فيه لسنوات لا جدوى منه في ظل غياب قوة عسكرية مدنية أو ضعيفة في مواجهته، بل تكبدت تكاليف عسكرية واقتصادية ودبلوماسية وجيوسياسية باهظة.
وعلى نحو مماثل، شهدت إسرائيل انهيار سياستها الفعلية القائمة على مبدأ ”يجب أن يكون جيراني أوتوقراطيين“. وقد دخلت أمريكا في مرحلة أفلس فيها منظورها الجيوسياسي الذي كان مرتكزاً بالكامل على إسرائيل، على مستوى المنطقة وكذلك في سوريا. ولكي نفهم الوضع الذي وقعت فيه واشنطن، يكفي أن نتذكر تصريحات روبرت فورد، آخر سفير لأمريكا في سوريا، وفريدريك هوف، مبعوثها الخاص، التي عبّرا فيها علناً عن هذا الإفلاس بقولهما إن ”سياسة أمريكا في سوريا لا يمكن الدفاع عنها“. لكن واشنطن، وفي وقت يتزايد فيه الاضطراب السياسي داخل الولايات المتحدة، استسلمت للمسار الجديد بفشلها في بلورة سياسة في مواجهة تطورات الأزمة السورية التي اعترضتها قبل 50 يومًا من تولي ترامب الحكم. علما أن ترامب هو السبب وراء حالة الاضطراب في بلاده. ومع إدراكها أن تنظيم “بي كي كي” الذي استثمرت فيه لسنوات، كان طرفًا لا يستطيع الوقوف اجتماعيًا ولا عسكريًا في وجه الثورة السورية، فضلت السياسة القائمة على مبدأ ”انتظر لترى“. ولذلك، لم يعد ”بي كي كي“ بالنسبة لواشنطن إمكانية أو أداة، بل عبئًا عليها التخلص منه أو تحمله. عندما تفقد قوات سوريا الديمقراطية صفة “سوريا”، تبقى عبارة عن طرف يكتسب الشرعية الوحيدة من السلاح، وهو ما يجعل وصفها بـ”الديمقراطية” مستحيلا أيضا. ومع انسحاب العناصر العربية من صفوفها، ستفقد صفة “القوات” التي اخترعوها أصلا لحماية صورتها بأنها تجمع أطرافا خارج “بي كي كي”، وبالتالي لن يكون من الممكن حمايتها في ظل معادلة كهذه.
تنطوي الصورة الفوضوية المذكورة أعلاه على إمكانية توليد مخاطر بالنسبة لسوريا. وقد يتجلى بعض هذه المخاطر على شكل إرهاب وبعضها الآخر على شكل خطوات تتخذها مختلف الفئات السورية لعرقلة العملية الانتقالية. ومن أجل تأخير التحول الديمقراطي وتثبيت الاستقرار في سوريا الجديدة، عملت إسرائيل قبل جميع الأطراف الفاعلة الأخرى على توسيع احتلالها وتدمير ما تبقى من قدرات الأسد العسكرية المتهالكة التي لم تكن لتشكل تهديداً لها. ولا يخفى على أحد أن الأردن والخليج، المتاخمين لسوريا جغرافياً، يشاطران إسرائيل خوفها من الانعكاسات الإقليمية لحكومة سورية شرعية قائمة على الرضا الشعبي. كما أن هناك احتمال أن تلتقي خشية إسرائيل من وجود سوريا مستقرة بعد فترة من الوقت مع الخليج وطهران التي استثمرت لسنوات في أسهم نظام الأسد المفلسة كما حدث قبل 13 عاماً. غير أن مهمة ”محور التدمير“ هذا ليست سهلة كما كانت عليه قبل 13 عاماً في بلد ومنطقة أزمة بحجم سوريا. فصعوبة تهديد أوروبا بموجة هجرة جديدة، والدعم الواضح للإدارة الجديدة في دمشق في الداخل ومن شعوب المنطقة على حد سواء، والأزمة الداخلية الإيرانية المتفاقمة وتعميق التغيير الصامت غير المعلن، والقدرة الحكومية والأمنية التي تواصل تركيا نقلها بنشاط، وحقيقة أن العراق الآن منهك بقدر سوريا، وحقيقة أن لبنان في دوامة من الأزمات، كل ذلك يغير المشهد والحسابات بشكل كبير. وبعبارة أبسط: الذين لم ينقذوا الأسد ونظامه أثناء انهياره سيجدون صعوبة في إيجاد عناصر يمكن أن ينقلوا الثقة إليها ويستخدموها من أجل أسدية بدون الأسد.
مشكلة “بي كي كي” في سوريا
ينبع مجال الخطر الثالث من الولايات المتحدة. فما ستفعله أمريكا في سوريا لا يزال غامضاً. لأنه قبل بضع سنوات فقط، شاهدنا شخصيات كانت تسأل وزير الدفاع الأمريكي بعنف في مجلس الشيوخ حول كيفية اتخاذ تنظيم ”بي كي كي“ الإرهابي كشريك لأمريكا وتوجه له انتقادات لاذعة، والآن نرى أن تلك الشخصيات نفسها من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تطرح مشروع قانون إلى المجلس لفرض نظام حظر قاسٍ على تركيا إذا ما تعرض التنظيم للأذى. وبالمثل، من الصعب التنبؤ بما سيفعله ترامب الذي سيصبح رئيسًا في الأسبوع الثالث من يناير/كانون الثاني. والسيناريو الإيجابي هو أن ينفذ ترامب سياسة الانسحاب من سوريا التي فشل في تحقيقها في ولايته الأولى، والتي يعتبرها غير مكتملة. ومع ذلك، يجب أن نضع في الاعتبار أنه إذا لم يتحقق هذا السيناريو، فإن “بي كي كي”، باعتباره آخر الأجهزة المتبقية من نظام الأسد، سيتحول إلى عنصر مفيد لجميع الجهات الفاعلة التي لا تريد الاستقرار في سوريا. ومع الأخذ في الاعتبار الوظيفة الأقوى في عقيدة “بي كي كي”، وهي ”طبيعة التنظيم القائمة على المشاركة بالوقت“، يمكن القول إن هذا الوضع سيشكل مخاطر على كل من سوريا وتركيا.
بعد انهيار نظام التعذيب البعثي في سوريا، غادر الأسد البلاد. وتم تحييد عناصر البعث في الوقت الراهن. وباعتبار أن الأسد غادر البلاد بطريقة غير مشرفة، فإن هؤلاء لا يملكون القوة ولا الشجاعة الكافية لاعتلاء المسرح بشكل تقليدي مرة أخرى باسم النظام الذي تركهم في منتصف الطريق. علاوة على ذلك، فقد وجهت الثورة السورية ضربة أكبر بكثير لهذه العناصر بصبرها على فظائع النظام البعثي، مفضلةً العدالة التاريخية على العدالة الانتقالية. ولكن هناك عنصر قديم للبعث، كان يقف في صف نظام الأسد، إلا أنه لم يختفِ بسقوطه. وهذا العنصر هو “بي كي كي” بلا شك. ويعد “بي كي كي” الشريك الأيديولوجي والفعلي للبعث على مدى 40 عامًا، وهو العنصر الوحيد الذي لا يزال موجودًا في سوريا ما بعد الثورة رغم تعاونه العلني مع نظام الأسد.
لا يبدو أن أمام سوريا مخرج آخر سوى التوصل لعقد اجتماعي وسياسي وإداري جديد يقوم على المواطنة الدستورية، نظراً لحجم وبنية سكانها وديناميكيتها الاجتماعية وتجربتها التي استمرت قرنًا بعد العهد العثماني. فلا نظام المحاصصة العلني كما في لبنان، ولا نظام التقسيم الفعلي كما في العراق، سيؤدي إلى تحقيق الاستقرار في سوريا. علاوة على ذلك فإن ”بي كي كي“ الذي رفض أن يكون جزءاً من الثورة السورية، والذي لم ير ضيراً في أن يكون تحت أجنحة المخابرات الأسدية لسنوات، دون أن يهتم ولو لمرة واحدة بالأكراد الذين يعيشون منذ عقود تحت أشد أنواع القهر والإذلال من قبل نظام البعث في سوريا التي غادرها زعيمه في تموز 1979، لا يملك أرضية للتحدث باسم الأكراد في سوريا، ولا أرضية يستند إليها حلمه في تولي مصير سوريا الجديدة. وبعبارة أكثر صراحة؛ في حين أن الأقلية العلوية التي كان يستند إليها نظام الأسد – لأي سبب ودافع كان – تبذل جهداً للظهور في صفوف الثورة، لا يمكن لتنظيم لا مشكلة له مع نظام تعذيب يذيق الحياة الصيدناوية في سوريا كلها منذ عقود، وخاصة تنظيم أمضى السنوات السبع أو الثماني الأخيرة في تعاون فعلي مع ذلك النظام، كما كان قبل 1999، أن يكون موجوداً في المعادلة السورية.
ومع ذلك، فإن هذا الوضع على الأرض لا يلغي حقيقة أن ”بي كي كي“، الذي يخوض مخاض التسيّس منذ سنوات، يعيش في عالم جيوسياسي خيالي. إن هذا المنظور، الذي يقيم مصفوفات الجيوسياسية السورية والتركية والشرق أوسطية والعالمية بعبثية ناشطة لا يمكن اعتبارها حتى نهجاً ساذجاً، لديه القدرة على إنتاج المشاكل في الأمد القريب، ولكن من الواضح أنه لن يكون قادراً على إرساء موقف مستدام في الأمد المتوسط. في بيئة وقّعت فيها الأغلبية الساحقة من السوريين على عقد جديد في إطار المواطنة الدستورية، لن تبقى هناك أرضية لكيان مثل “بي كي كي”، رغم كل أنواع الدعم العسكري والجيوسياسي الخارجي.
لكن هناك ركيزة أخرى للثورة السورية والقضاء على هذا التهديد بالنسبة لتركيا، وهي الخطوات التي يجب اتخاذها في أنقرة. يجب تحويل المبادرات التي بدأت مؤخرًا على محور النقاش الراديكالي إلى سياسة منظمة. هذه الحاجة حيوية ليس فقط من أجل القضاء على تهديد ”بي كي كي“، بل أيضًا من أجل سياسة تركيا ووجودها في سوريا. وذلك لأن المنظور الشرس الذي يواجهه الرئيس أردوغان بشأن سوريا منذ 10 سنوات ونيف هو أيضًا النهج الذي يمنع تحقيق الديمقراطية في تركيا. وفي إطار التحول الديمقراطي الحقيقي، يجب على تركيا حل القضية الكردية وإرساء دولة القانون على أفضل مستوى ممكن في الوقت نفسه. وهذا ليس خياراً بسيطاً بالنسبة لتركيا. فإرساء الاستقرار والانتقال الديمقراطي المحتمل في سوريا مسألة حيوية بالنسبة لأنقرة لتعظيم مصالحها الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية. ويمكن تحقيق هذا التحول من خلال فتح قفلين. في سوريا، فُتح القفل الأول للتحول بالتخلص من الأسد. كما يجب أن تنتهي العقلية التي تمنع التحول الديمقراطي في تركيا. لا يمكن لتركيا تحت وطأة هذه العقلية أن تحقق النجاح المنشود في الملف السوري على المدى المتوسط والبعيد. فمن غير الممكن أن تعيش تركيا عجزاً ديمقراطياً في الداخل وفائضاً جيوسياسياً في الخارج.
بعد انهيار النظام الأقلوي في سوريا، لم يعد هناك أي مجال واقعي لمواجهة الأغلبية الساحقة من السكان بحقوق إدارية غير حقوق الإنسان الأساسية وبعض الحقوق الجماعية (اللغة) في عقد اجتماعي جديد. حتى لو كانت هناك رغبة في تحقيق هذا التوقع الساذج، فمن الواضح أن عدد السكان الأكراد، المحدود أصلاً في جميع أنحاء سوريا، لا يكفي لإقامة إدارة جدية في المنطقة المعنية. ولا يعيش في المنطقة الخاضعة لسيطرة “بي كي كي” سوى جزء صغير من الأكراد. فإما أن يحاولوا إنشاء إدارة أقلية في هذه المناطق بقوة السلاح، أو أن يصبحوا جزءًا من سوريا الجديدة بصفتهم مواطنين دستوريين. لقد تفكّكت دويلات دمشق وحلب والعلوية ولبنان الكبير وجبل الدروز ولواء اسكندرون، في غضون سنوات قليلة، وكانت قد تأسست قبل قرن من الزمان، في عشرينيات القرن الماضي. واصطدمت الحسابات التي أُجريت على الورق في تحدٍ للجسم السوري الرئيسي بحقيقة ”سوريا غير القابلة للتقسيم“. ذلك أن التقسيم على أسس عرقية في سوريا يصطدم بالجدار الديني، كما هو الحال في العراق، بينما يصطدم التقسيم على أسس دينية ومذهبية مختلفة بجدار الموارد الجغرافية والاقتصادية. إن السبيل الوحيد أمام الذين نسوا آلام التحول الديمقراطي في تركيا وحتى القضية الكردية، وحولوا القضية الكردية إلى مشكلة جيوسياسية لم يستطيعوا حملها منذ عام 2013 في أيدي من صاغوا خوارزمية الأقليات في النظام البعثي في داخلهم، للخروج من الفخ والدوامة التي بنوها بأنفسهم اليوم، هو أن يصبحوا عنصراً فاعلاً في التحول الديمقراطي بتركيا وفي العهد الجديد في سوريا.
أما مجال الخطر الرابع بالنسبة لسوريا فيتمثل في كيفية تشكيل الإدارة الجديدة. إذا تم استخلاص الدروس المستفادة من الآلام المستمرة منذ قرن، فلن تتمكن القوى الفاعلة في الداخل السوري والقوى الخارجية من مقاومة الطاقة السياسية والجيوسياسية الإيجابية الجديدة الناشئة لفترة طويلة، حتى لو كانت هناك محاولات تخريبية. يكفي أن تستخلص العناصر والجهات الفاعلة والقيادات التي ستبني سوريا الجديدة الدرس الأهم من الماضي. لأن الأرضية والوظيفة الأساسية للحكم والنظام الذي هدموه كانت قائمة على ” الأقلية“. واليوم فإن النهج الذي سيجنب سوريا الجديدة خطر ”حكم الأقلية“ بجميع الجوانب، حتى لو كانت له عيوبه وأخطاؤه، يعد السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار في سوريا. في الحقبة الجديدة، سيكون لـ”خطر الأقلية“ ديناميكيتان رئيسيتان. الأولى هي المقاربة التي ستنتج عن المنظور الضيق الذي يعتمد على قوة الأغلبية، والتي ستنتج في النهاية نمطاً أقلوياً معكوساً. وثانيهما، ظهور كيانات مجزأة، على غرار الجارين لبنان والعراق، بصيغ مختلفة تمت تجربتها تحت حكم الانتداب في عشرينيات القرن الماضي، مما سيجعل من المحتم أن تنتج نفس الأزمات مرة أخرى.
وأخيرا، قد يكون هناك مجال آخر للتوتر في سوريا بين العناصر التي نفذت الثورة. فبصرف النظر عن التوترات الطبيعية داخل السلطة، فإن الثورة السورية جرت في مسارين رئيسيين وفي مرحلتين متمايزتين. شكّل المسار الأول الثورة ضد نظام الأسد، والتي بدأت في آذار/مارس 2011 في درعا وانتشرت لاحقا إلى جميع أنحاء سوريا. وقد دفعت الحشود الجماهيرية وقيادة المرحلة الأولى من الثورة أثمانًا باهظة. في نفس الفترة، برزت كوادر قوية وكفؤة من مختلف الشرائح لقيادة الثورة السورية. بعض هذه الكوادر فقدوا حياتهم وبعضهم اضطروا للتفرق إلى مناطق مختلفة من العالم. أما الجهات الفاعلة في المرحلة الثانية، التي بدأت بعد سقوط حلب، فقد تغيرت إلى حد كبير. حيث تم استبدال كوادر القيادة في المرحلة الأولى، والتي كانت تتألف في الغالب من المدنيين والمثقفين والسياسيين، بشخصيات شاركت في النضال المسلح. وفي نهاية المطاف، هذه الكوادر هي التي قادت الثورة إلى النصر. في المرحلة الجديدة، سيكون من المهم بناء جسر سياسي بين من بدأوا التغيير في سوريا وبين من قادوه إلى النصر، بل وحتى جمع الكادرين المختلفين في هاتين المرحلتين المختلفتين على أرضية مشتركة. من جهة، ستكون الإدارة الجديدة في سوريا ناجحة بالقدر الذي تحتضن فيه سوريا كلها، ومن جهة أخرى ستكون قادرة على تعزيز قدرتها على الحكم بالقدر الذي تجمع فيه قيادات الحقب المختلفة للثورة في السلطة.