نحو الحل: ردود الفعل على إلقاء تنظيم “بي كي كي” للسلاح

يمثل إلقاء حزب العمال الكردستاني للسلاح نقطة تحول مصيرية لأمن تركيا ومستقبلها. وتعكس ردود الفعل على هذه الخطوة خيارات البلاد حول هويتها. فالحل القائم على الاعتراف بالتنوع والمساواة والسلام سيجعل تركيا أكثر قوة واستقرارًا. ولن يكون لنزع السلاح معنى حقيقي إلا إذا صاحبه إسماع الأصوات المهمشة.
20/05/2025
image_print

تعد مشكلة تنظيم حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) واحدة من أبرز التحديات التي تواجه تركيا منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حيث شكلت تهديدًا لأمن البلاد وأدت إلى فقدان آلاف الأرواح. ورغم تعدد أبعاد هذه المشكلة، إلا أن جوهرها يتمثل في ممارسة التنظيم لأنشطة مسلحة إرهابية. ومن المُتفق عليه أن المشكلة لن تُحل دون إلقاء التنظيم للسلاح. إلى جانب هذا الإجماع، شهدت الساحة نقاشات متكررة حول التطورات المحتملة في حال إلقاء التنظيم لأسلحته، خاصة خلال ما عُرف بـ “عملية السلام” في الماضي. وقد تجددت هذه النقاشات مؤخرًا، حيث برزت تساؤلات حول مستقبل تركيا في حال اتخذ التنظيم هذه الخطوة، وردود فعل المجتمع تجاهها.

من بين العبارات الرئيسية المرتبطة بهذه العملية، تبرز عبارة “تعزيز الجبهة الداخلية”، التي أشار إليها الرئيس التركي في ثلاث مناسبات: خلال ذكرى انتصار ملاذكرد (26 آب/أغسطس)، وذكرى انتصار 30 آب/أغسطس، وافتتاح الدورة التشريعية الجديدة للبرلمان (1 تشرين الأول/أكتوبر). وفي أعقاب هذه الخطب، تصافح زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي مع نواب من حزب ديم في الجلسة العامة للبرلمان (2 تشرين الأول/أكتوبر)، وانضم إليه نائب رئيس حزب العدالة والتنمية أفكان آلا. وعقب هذا التواصل، أوضح بهجلي للصحفيين أن ما دفعه إلى هذه الخطوة هو خطاب الرئيس الداعي إلى “تعزيز الجبهة الداخلية”. وقد اشتدت هذه النقاشات بعد دعوة زعيم التنظيم المسجون عبد الله أوجلان وقرار حزب العمال الكردستاني في 12 أيار/مايو بإلقاء السلاح وحل نفسه، مما أظهر المواقف بوضوح.

ماذا سيحدث إذا ألقى حزب العمال الكردستاني السلاح؟

تتمثل الإجابة على هذا السؤال في رؤيتين مختلفتين لمستقبل تركيا. فبينما يرى البعض أن إلقاء التنظيم للسلاح سيفتح الباب أمام تحول تركيا إلى بلد أكثر ديمقراطيةً وتماسكًا اجتماعيًا وتعدديةً، يعتبره آخرون تهديدًا لأمن البلاد ووحدتها وسيادتها. وبالتالي، فإن ردود الفعل على هذه الخطوة تعكس رؤيتين متباينتين لمستقبل تركيا.

منذ بداية نشاط التنظيم المسلح، سارت جهود مكافحة الإرهاب جنبًا إلى جنب مع البحث عن بدائل أخرى. وفي البداية، لم يكن هناك فصل واضح كما هو الحال اليوم، لكن الجدل بين مؤيدي الحلول غير العسكرية والمعارضين لها كان حاضرًا دائمًا. كلا الطرفين ينظر إلى القضية من خلال قيم وتجارب تاريخية وتصورات مستقبلية مختلفة. ولتوضيح الصورة، من المفيد استحضار بعض التجارب الدولية.

لمحة سريعة من التجارب الدولية

يمكن لتجارب بعض الجماعات المسلحة التي تخلت عن السلاح في السابق أن تلقي الضوء على النقاش الدائر في تركيا. على سبيل المثال، كان إلقاء تنظيم الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA) للسلاح وتحوله إلى فاعل سياسي شرعي نقطة تحول مهمة للمملكة المتحدة وأيرلندا. كما مثل قرار “فارك” في كولومبيا بإلقاء السلاح والانخراط في عملية السلام تطورًا حاسمًا لاستقرار البلاد. وفي جنوب أفريقيا، كان إنهاء حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) لنضاله المسلح وقيادته التحول الديمقراطي نموذجًا تاريخيًا بارزًا.

هذه الأمثلة تثبت أن إدماج التنظيمات المسلحة في الحياة السياسية ومساهمتها في التحول الديمقراطي أمر ممكن. فلم تشهد أي من هذه الدول انقسامًا أو ظهور كيانات مستقلة. لكن في المقابل، أدى استمرار الصراعات في دول البلقان إلى تحولها إلى دويلات مدينية. ومع ذلك، قوبلت هذه التجارب بردود فعل متباينة من شرائح مختلفة في مجتمعاتها، وهو ما ينطبق على تركيا أيضًا.

مع التطورات الأخيرة، أصبح الانقسام واضحًا بين مؤيدي الحل السياسي ومعارضيه، وهو ما يعكس رؤيتين لمستقبل البلاد.

رؤية مؤيدي الحل

يرى المؤيدون أن إلقاء حزب العمال الكردستاني للسلاح وإنهاء نشاطه الإرهابي وحل نفسه سيعزز قيم الديمقراطية والمواطنة المتساوية والسلام الاجتماعي والتعددية. فالمواطنة المتساوية ليست مجرد شعار قانوني، بل ضمانة دستورية لحق الأفراد في المشاركة في الحياة العامة بهويتهم.

كما يؤكدون أن العملية ليست مجرد استراتيجية أمنية، بل ضمان للحقوق الأساسية وإعادة بناء عقد اجتماعي ديمقراطي. ويدعو هذا التيار إلى توسيع نطاق السياسة المدنية وتبني سياسات غير أمنية وضمان حرية التعبير. وجوهر حجتهم أن تركيا ستتحول إلى نظام سياسي أكثر ديمقراطية وتشاركية في ظل غياب السلاح.

يقر مؤيدو الحل بشرعية مطالب المواطنين طالما كانت ضمن الإطار الدستوري، ويعتبرونها جزءًا من النهج الديمقراطي العام. فهم يدعمون تحول تركيا إلى دولة ديمقراطية آمنة مدنية وعادلة، مع رفض أي انقسام أو تحول فيدرالي.

يقترحون حلًا يعترف بالتنوع ضمن وحدة تركيا، ويؤسس للمساواة والسلام الاجتماعي. ويعتقدون أن مثل هذه العملية ستسرع التحول الديمقراطي، وتقلص النفوذ العسكري، وتعزز الحريات، وتزيل المناطق الرمادية التي نشأت تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. كما أن التنمية الاقتصادية ومواجهة التفاوتات الإقليمية تصبح أسهل في غياب الصراع.

رؤية معارضي الحل

يعارض هذا التيار إلقاء التنظيم للسلاح، معتبرينه تهديدًا لأمن تركيا ووحدتها وسيادتها. يتشكل هذا الموقف من خلال الصدمات التاريخية والمخاوف الأمنية وخسائر مكافحة الإرهاب. فبالنسبة لهم، “الحل” يعني غالبًا “استسلامًا” أو “تنازلًا”.

تستند رؤيتهم السياسية إلى نهج أمني مركزي يقوم على تجانس المجتمع. فهم يفضلون سياسات التوحيد القسري أو الاستيعاب بدلًا من الاعتراف بالتنوع، وهو ما يتعارض مع مبادئ المساواة الديمقراطية.

يمكن تلخيص حججهم في ثلاث نقاط:

الادعاء بأن هدف التنظيم هو الحكم الذاتي أو الانفصال: رغم نفي التنظيم لهذه المطالب، إلا أنهم يعارضون حله دون تفسير واضح.

عدم جواز مساءلة شرعية الدولة: انطلاقا من هذا ذلك، يدعون أن التفاوض مع التنظيم يضعف الدولة.

اعتبار مثل هذه العملية “إهانة لشهداء تركيا”.

يمكن القول إن هذا الموقف يتأثر بعاملين اثنين:

استمرار النهج الأمني الذي تشكل في تسعينيات القرن الماضي وتأثيره على الذاكرة المؤسساتية والجماعية.

نتائج المبادرات السابقة وتأثيرها على جهاز الدولة وردود فعل البيروقراطية.

بهذا الشكل، يدافع هذا التيار عن استمرار السياسات الأمنية التي هيمنت على تركيا لعقود. وتتمثل رؤيتهم في دولة مركزية قوية موحدة تقوم على فكرة أمة واحدة، حيث يقتصر التنوع على المجال الخاص.

معضلة تركيا: القمع أم بناء المستقبل؟

يكمن الاختلاف الجوهري بين الرؤيتين في إمكانية تعايش تركيا مع تنوعها. فبينما يدعو أحد الطرفين إلى الاعتراف بالتنوع، يصر الآخر على قمعه والحفاظ على نسيج اجتماعي متجانس. وبالتالي، فإن القضية لا تتعلق فقط بإلقاء التنظيم للسلاح، بل بطبيعة تركيا المستقبلية: هل ستكون مجتمعًا ديمقراطيًا تعدديا أم دولة أمنية مركزية تقوم على التوحيد القسري؟

ماذا يتغير في حال إلقاء السلاح؟

يمكن لإلقاء التنظيم للسلاح أن يحقق ست نتائج إيجابية:

إنهاء الإرهاب: إنهاء أربعة عقود من العنف، خاصة في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية.

تعزيز السلام الاجتماعي: تقليل الاستقطاب وزيادة الحوار بين مكونات المجتمع.

التحول الديمقراطي: تعزيز حرية التعبير والمشاركة السياسية والتعددية.

إنهاء هيمنة التنظيم على السياسة الكردية: تقييم الأكراد بأدائهم السياسي وليس بانتمائاتهم.

مكاسب دولية: تحسين صورة تركيا دوليًا، خاصة مع الغرب وجوارها الإقليمي.

فوائد اقتصادية: جذب الاستثمارات وتنشيط التنمية، خاصة في المناطق المتأثرة بالصراع.

لتحقيق هذه النتائج، يجب توفر شرطين:

الشجاعة السياسية: يحتاج القادة إلى تبني خطوات جريئة وشرحها للمجتمع.

الدعم الشعبي: التأييد المجتمعي يضمن استدامة الحل. وتشير استطلاعات الرأي إلى وجود هذا الدعم، الذي سيزداد مع إلقاء التنظيم للسلاح.

الحل الدائم ممكن.. لكنه يحتاج إلى شجاعة

يعكس الانقسام بين مؤيدي الحل ومعارضيه في تركيا الجدل الدائر حول الهوية والدولة القومية. تظهر التجارب الدولية أن الاستقرار يتحقق عبر الاعتراف بالتنوع والحلول السياسية، وليس عبر القمع. فشرعية الدولة تقوم على المساواة واحترام مواطنيها. وعندما تُعالج مطالب المواطنين بشكل ديمقراطي شامل، تتحول من تهديد إلى عنصر تعزيز للتماسك الاجتماعي.

بالتالي، فإن التحدي الذي يواجه تركيا ليس الاختيار بين تأييد الحل أو معارضته، بل وضع أسس جديدة للتعايش في ظل التعددية الديمقراطية.

ختامًا؛ يمثل إلقاء حزب العمال الكردستاني للسلاح نقطة تحول مصيرية لأمن تركيا ومستقبلها. وتعكس ردود الفعل على هذه الخطوة خيارات البلاد حول هويتها. فالحل القائم على الاعتراف بالتنوع والمساواة والسلام سيجعل تركيا أكثر قوة واستقرارًا. ولن يكون لنزع السلاح معنى حقيقي إلا إذا صاحبه إسماع الأصوات المهمشة. فالفقراء والمهمشون وأبناء الضحايا هم الأطراف الحقيقية في هذه العملية.

إلقاء السلاح ليس مجرد حل لأزمة أمنية، بل خطوة نحو معالجة مشكلة اجتماعية عالقة منذ قرن. إنه طريق شاق تحفه آلام الماضي وعدم الثقة والحسابات السياسية. لكنه أيضًا يتطلب شجاعة تاريخية، حيث يكون الحل حوارًا بين دولة عادلة وشعب مفعم بالأمل. فلنتذكر أن الديمقراطية التي تنمو في ظل السلاح تبقى ناقصة، وأن شعب تركيا يستحق الأفضل.

[perspectiveonline.com]

Adnan Boynukara

عدنان بوينو قره
عمل كمهندس وإداري في مؤسسات مختلفة بين عامي 1987 و 2009. وشغل منصب مستشار رفيع في وزارة العدل بين عامي 2009 و 2015. وكان عضواً في البرلمان التركي في الدورتين 25 و 26 كنائب عن ولاية أديامان. ويقوم حاليا بأبحاث في مجالات إدارة الشؤون العامة، والأمن، ومكافحة الإرهاب، وحل النزاعات، وعمليات السلام.
البريد الإلكتروني: [email protected]

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.