سعت الصهيونية إلى إعادة بناء الخطاب الديني اليهودي من منظور عنصري، ونجحت في تعزيز قوتها على مستوى الخطاب مستفيدة من التغيرات العالمية الصادمة والبيئة السياسية الجديدة التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى. ففي أوروبا، ومع بدء الحروب الأهلية وصعود السياسات الفاشية في ألمانيا النازية، اتجهت النخب اليهودية، التي كانت من ضحايا هذه السياسات، إلى تبني الخطاب الصهيوني، وقامت بتسريع عملية بناء موطن لها على الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن أهم نتائج الحرب العالمية الثانية، إعلان تأسيس دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المغتصبة، والذي اعترفت به القوى الغربية في فترة زمنية قصيرة.
وبينما كانت الصهيونية تخطط لبناء دولة يهودية، كان عليها أيضاً أن تعيد بناء أو اختلاق الأمة العائدة لهذه الدولة. إذ أن الشروط اللازمة لقيام دولة ما لم يكون مقتصرا على الانتماء الديني المشترك فحسب، بل كان من الضروري توحيد اليهود الذين كانوا مبعثرين في قارات مختلفة، وخاصة أوروبا، ومن ثم دمجهم وضمان انسجامهم في مجتمع متماسك. لأن الاختلافات بين اليهود القادمين من بلدان أخرى مثل ألمانيا، وفرنسا، وبولندا، وإسبانيا، وأوكرانيا، والمغرب، وتونس، والعراق، واليمن، كانت بدرجة الاختلافات القائمة بين تلك البلدان. ولذلك، كان الهدف الأول هو إعادة تشكيل الذاكرة حول اللغة العبرية، لغة الكتاب المقدس، والأرض التي وعد بها وهي (إيرتس يِسرائيل). “إن الأكوام السالفة في تلك الذاكرة المشتركة لم تتراكم في دولة إسرائيل بصورة تلقائية، وإنما حدث ذلك کله بفعل فاعل محدّد منذ نهاية القرن التاسع عشر؛ كومة في إثر كومة وبواسطة إعادة كتابة الماضي (اليهودي) على يد كتاب أكفاء، عكفوا على تجميع شظايا ذاكرة يهودية- مسيحية واستعانوا بخيالهم المجنح لكي يختلقوا بواسطتها شجرة أنساب متسلسلة للشعب اليهودي”.[1] في الحقيقة، كانت هذه الذاكرة اليهودية الجديدة المختلقة قد اختزلت اليهودية، على عكس الأديان الأخرى، إلى قاسم “رابطة الدم” وتركزت على الهوية الدينية والعرقية. كان المعادون للسامية في أوروبا يحاولون اعتبارا من القرن التاسع عشر إقصاء اليهود من خلال تصويرهم كعرق أجنبي منفصل. وبالتالي، فإن بناء الصهيونية خطابا يقوم على تأكيد الحجج التي كان المعادون للسامية يستخدمونها في ذلك الوقت، يحتوي أيضًا على تناقض غريب. ويبدو أن هذه الذاكرة اليهودية المختلقة حديثا، والتي تحمل هذا التناقض الغريب، قد أصبحت اليوم أطروحة التاريخ الرسمية لإسرائيل: “ثمة مفارقة أخرى للتاريخ: كانت هناك فترات في أوروبا، كلما ادعى فيها أحد ما أن جميع اليهود ينتمون إلى شعب ذي أصول مغايرة كان يعتبر فورا معاديًا للسامية. أما اليوم فمن يجرؤ على القول بأن الذين يعتبرون اليوم يهودا في العالم لم يشكلوا في يوم من الأيام وما انفكوا لا يشكلون شعبا أو أمة، يتم التنديد فورا بأقواله ويجري اعتباره کارها لإسرائیل”.[2]
وانطلاقا من أحداث الهولوكوست / المحرقة التي جرت في ألمانيا النازية، حاولت الصهيونية بناء عقلية قائمة على فكرة الألم والشعب المختار، وهي تسعى إلى تصوير اليهود وكأن لديهم حقوق عند الآخرين ويجب أن يسترجعوها. كما أنها تقوم بتمييز غير أخلاقي بين معاناة اليهود ومعاناة الآخرين، بدعوى أن معاناتهم هي فريدة من نوعها ولا مثيل لها، وهو ما يجعلها تضمن إحياء الشعور بالتفوق والتميّز عبر نقله من جيل إلى جيل. ولهذا السبب؛ “تحركت النخب اليهودية بعدوانية لحماية مصالحها الطبقية والآنية، ووصمت كل معارض لسياساتها المحافظة الجديدة بتهمة العداء للسامية”.[3] إن استغلال المحرقة في هذا السياق لحماية مصالح اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل ومحاولة تعزيز مفهوم التفرد اليهودي المرتبط بمعاناتهم الفريدة، أدى في الواقع إلى تحرك لحماية موقعهم في العالم الغربي، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. “النخب اليهودية في الولايات المتحدة، وبسبب خوفها من التعرض للاتهام بـ ’الولاء المزدوج‘، كان تشكك في إقامة دولة يهودية. وخلال فترة التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة، بدأت تتحدث عن المحرقة النازية من أجل فصل نفسها عن اليسار وإلقاء اللوم على السوفييت بهدف اكتساب مكانة مرموقة في نظر الدولة الأمريكية”.[4] التجار اليهود، الذين استخدموا المحرقة كدرع وقائي لمصالحهم الخاصة، انخرطوا أيضًا في استغلال الألم والاحتكار، قائلين إن المحرقة كانت حدثًا فريدًا لم يسبق له مثيل في التاريخ وأنها تمثل الكراهية التي يشعر بها غير اليهود تجاه اليهود.
الأيديولوجية الصهيونية، التي ظهرت اعتبارا من أواسط القرن التاسع عشر، تحركت انطلاقا من مبدأ جمع كل اليهود معًا تحت سقف واحد على نفس قطعة الأرض، إلا أنها تأثرت بالحركات الوطنية والتيارات القومية في تلك الفترة. وبالنظر إلى التأثير الكبير للفكر القومي الألماني على الصهيونية، فقد اكتسب التشابه بين النازية والصهيونية بعدا يتجاوز المضاهاة إلى حد التماهي. ويقول شلومو ساند، أحد المؤرخين اليهود المعاصرين، إن الصهيونية تطورت في ظل العنصرية الألمانية، ثم يذكر أن اليهود الذين يعيشون في مدن ومناطق سكنية في بولندا وأوكرانيا وليتوانيا ورومانيا وروسيا كانوا المسؤولين عن تشكيل ونشر وتطبيق النظريات الصهيونية.[5] لقد أظهرت الأيديولوجية الصهيونية المجتمعات التي عاشت في مناطق جغرافية مختلفة لقرون طويلة وليس بينها خصائص مشتركة سوى الانتماء إلى اليهودية، كما لو أنها مجتمع موحد ومتجانس، وذلك عبر مفاهيم مثل “التاريخ اليهودي”، و”الثقافة اليهودية”، و”الإثنية اليهودي”، و”العبقرية اليهودية”، و”الأدب اليهودي” و”الفن اليهودي”. مثل هذه المفاهيم الصهيونية بإنكارها الثراء والتنوع الحضاري لأعضاء الجماعات اليهودية وإصرارها على أنهم شعب واحد، بغض النظر عن الزمان والمكان، تسلبهم إنسانيتهم المتعينة الحقيقية وتجردهم منها، بل وتفرض عليهم حتميات إثنية وثقافية لا علاقة لها بواقعهم.[6]
في عام 1947، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بأغلبية الأصوات ينص على إقامة دولتين في الأراضي الفلسطينية، واحدة يهودية والأخرى عربية. وفي عام 1948 أعلنت إسرائيل استقلالها من جانب واحد واعترفت بها الدول الكبرى في تلك الفترة. ومع إعلان دولة إسرائيل، تحرك اليهود الذين يعيشون في مختلف أنحاء العالم نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة بتشجيع وتوجيه كبيرين، في حين بقي الفلسطينيون بلا مأوى لأنهم لم يستطيعوا حينها الصمود أمام سياسات الإرهاب والترحيل التي تعرضوا لها. وبهذه الطريقة، تم إيجاد حل للمشكلة اليهودية التي بلغت ذروتها عبر الوحشية النازية، ودعمت الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الأوروبية، التي أرادت التخلص من اليهود في أراضيها، هذا المشروع الصهيوني. كما أن المؤيدين للصهيونية خارج إسرائيل استقروا في مناطقهم، بالقرب من مراكز السلطة والمال والإعلام، ليؤثروا في آليات صنع القرار لصالح إسرائيل، واليوم تستمد دولة إسرائيل قوتها الكبرى منهم. ورغم أن المؤسسات اليهودية في العالم الغربي تروج بأنهم يعيشون “في المنفى” بعيداً عن “الأراضي المقدسة”، إلا أنهم يشكلون في الحقيقة القوة الكبرى التي تدعم إسرائيل. وهم يظهرون في نفس الوقت ولاءهم من خلال تقديم أكبر دعم عالمي لدولة إسرائيل التي يعتبرونها “حامية الأراضي المقدسة”.
وبينما كانت تواصل النمو على حساب معاناة وأوجاع الآخرين، تصرفت دولة إسرائيل كمنظمة عنصرية بسياساتها تجاه غير اليهود الذين يعيشون في الأراضي التي اغتصبتها وأعلنت سيادتها عليها، وأظهرت أنها لا تملك أي قيم مقدسة أو إنسانية. وما فعله اليهود حتى اليوم، تحت ستار الدولة، يظهر أنهم ليسوا عباد الله المختارين، بل إنهم على العكس من ذلك، يهدفون إلى ممارسة الضغوط على الفلسطينيين والقضاء عليهم بالكامل. وفي هذا السياق، لم يكن بن غوريون يخفي أطماعه تجاه الأراضي الفلسطينية، وقال ذات مرة إن “إن عالم اليوم لا يحترم سوى القوة، وبعد نصف قرن من الزمن سوف تحل القضية الفلسطينية بالسلاح، وليس بالقرارات الرسمية”، ليكشف بذلك الوجه الحقيقي للصهاينة.[7] إن تطلع الصهاينة لإقامة دولتهم على الأراضي الفلسطينية وتحديد مصيرها، من خلال طرد أصحاب الأرض الأصليين، هو تجسيد متناقض لمفهوم “الشعب المختار” الذي يستخدمونه. يرى اليهود أنفسهم على أنهم يمتلكون الحق في تقرير مصيرهم في الأراضي الفلسطينية وإبعاد الأصحاب الحقيقيين لتلك الأراضي من أجل تحقيق هذا الهدف، الأمر الذي يعكس مدى تناقض الشعور بالتميّز أو مفهوم الشعب المختار الذي يستخدمه الصهاينة بإخراجه من سياقه.
لا شك أن المشهد المؤلم الذي يتابعه العالم من قطاع غزة في ظل حصار مستمر منذ عشرين عاما وهجمات عشوائية مكثفة، دفع اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل إلى التشكيك في الصهيونية. ورغم أن هذه الانتقادات والمراجعات لا تستطيع إيقاف مجازر إسرائيل، إلا أنها تظهر أن رصيد إسرائيل طوال نصف القرن الماضي يتجه نحو النفاد؛ “تمكنت إسرائيل من كسب العديد من المؤيدين في الغرب بعد انتصارها الباهر في يونيو/حزيران 1967، إلا أنها في الأعوام الأخيرة تراجعت تقريبا إلى مستوى الدولة الفاقدة للمصداقية، وخاصة في أوروبا. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه الاتحاد الأوروبي عام 2003 أن إسرائيل تُعتبر أكبر تهديد للسلام العالمي. وفي عام 2008، وصفت دراسة عالمية إسرائيل بأنها أكبر عقبة أمام السلام في القضية الإسرائيلية – الفلسطينية”.[8] لم تستطع إسرائيل أن تتوقف بأي شكل من الأشكال عن التصرف كتنظيم صهيوني، ولم تتمتع بالمسؤولية التي تترتب عليها كدولة، وكشفت للعالم أجمع أنها هي جوهر المشكلة، من خلال ارتكابها للإبادة الجماعية بقطاع غزة في الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها. أما أولئك الذين يعرّفون أنفسهم على أنهم يهود الشتات، فإنهم أصبحوا الآن يدركون أن هذا الولاء غير المشروط له ثمن باهظ بالنسبة لهم، لأن القوة الديموغرافية لهذه المؤسسات اليهودية آخذة في الضعف ودوافع الأجيال الشابة تتغير؛ “إن إقامة اليهود براحة في بلدان ’المنفى‘، وحالات الحب التي لا يمكن منعها بين الشباب، والتراجع المفرح في معاداة السامية، كل هذا له ثمن باهظ. وتظهر الاستطلاعات ليس فقط تزايداً مطردا في ’الزواج المختلط‘ وإنما تظهر أيضاً تراجعاً مستمراً في التأييد والاهتمام بإسرائيل في صفوف أبناء العائلات اليهودية الذين تصل أعمارهم لغاية 35 عاماً، وأن التضامن مع الدولة اليهودية ما زال ثابتاً فقط لدى من تزيد أعمارهم عن 60 عام. يمكن الاستنتاج من هذه المعطيات أن العملية التي تستمد إسرائيل فيها القوة من شتاتها فوق القومي ليست مضمونة إلى الأبد”.[9]
[1] شلومو ساند، كيف أُخترع الشعب اليهودي؟ (من الكتاب المقدس إلى الصهيونية)، ترجمة إلى التركية: إشيق إرغودين، دار دوغان كتاب للنشر، 2011، ص. 36.
[2] ساند، المصدر نفسه، ص. 41.
[3] نورمان فينكلشتاين، صناعة الهولوكوست (استغلال معاناة اليهود)، ترجمة: أوتوكو أوموت بولسون، دار كوتادغو للنشر، 2023-إسطنبول، ص. 56.
[4] فينكلشتاين، المصدر نفسه، ص. 36.
[5] شلومو ساند، كيف أُخترع الشعب اليهودي؟ (من الكتاب المقدس إلى الصهيونية)، ترجمة إلى التركية: إشيق إرغودين، دار دوغان كتاب للنشر، 2011، ص. 310.
[6] عبد الوهاب المسيري، من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟، دار الشروق، القاهرة، 2009، ص. 279.
[7] ستيفان غورانوف، “العنصرية: مبدأ الأساسي في الصهيونية”، الصهيونية والعنصرية، إصدارات كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة، أنقرة، 1982، ص. 33.
[8] نورمان فينكلشتاين، لقد تجاوزنا الحدود هذه المرة، ترجمة: دنيز أوزلم تشيفيك، دار نفس للنشر، إسطنبول، 2014، ص. 101.
[9] شلومو ساند، كيف أُخترع الشعب اليهودي؟، ص. 378.