هيئة تحرير الشام وتحوّلها: لمحة عامة

مرّت هيئة تحرير الشام، بتحول كبير، منذ بداية الحرب السورية، لا سيما خلال فترة حكومة الإنقاذ في محافظة إدلب. كانت الهيئة في بداياتها جماعة ذات رؤية جهادية عالمية، يهيمن عليها الفكر السلفي، لكنها تطورت مع مرور الوقت لتصبح فاعلًا إداريًا، متجاوزةً دورها العسكري لتصبح جزءًا من تجربة الحكم الثوري في إدلب.
يناير 3, 2025
image_print

مرّت هيئة تحرير الشام، بتحول كبير، منذ بداية الحرب السورية، لا سيما خلال فترة حكومة الإنقاذ في محافظة إدلب. كانت الهيئة في بداياتها جماعة ذات رؤية جهادية عالمية، يهيمن عليها الفكر السلفي، لكنها تطورت مع مرور الوقت لتصبح فاعلًا إداريًا، متجاوزةً دورها العسكري لتصبح جزءًا من تجربة الحكم الثوري في إدلب.

هذا التحول لم يكن مقتصرًا على الاستراتيجيات العسكرية فقط، بل شمل أيضًا جوانب مثل الحكم المدني، والعلاقات مع الأقليات، ومواجهة المعارضة الداخلية، والعلاقات الخارجية. كما سعت هيئة تحرير الشام، من خلال حكومة الإنقاذ التي أنشأتها في إدلب إلى تأسيس مجال حكومي عام، وحققت نجاحًا جزئيًا في ذلك. ولم يكن هذا المجال العام قائمًا على قوانين عامة ملزمة بقدر ما كان مبنيا مجموعة من القوانين التي تستند إلى تشكيل الهيئة الأيديولوجي. ورغم هذا الأمر، فقد نجحت الهيئة في توفير خدمات البلدية والأمن لتلبية احتياجات السكان الأساسية في مناطق القتال، متفوقةً على مناطق النظام السوري والحكومة السورية المؤقتة المدعومة من تركيا.

نموذج الإدارة لدى هيئة تحرير الشام يتسم بمزيج من الحكم المدني والرقابة العسكرية. ففي إدلب، أسست الهيئة نظام محاكم يدمج الشريعة الإسلامية مع المبادئ القانونية المدنية. ومع ذلك، لم يكن لديها دستور رسمي أو هيئة تشريعية منتخبة. وكانت الإدارة تتبع قرارات تصدر بموجب مراسيم من قيادة الهيئة، التي كانت تسيطر على الخدمات الأساسية والبنية التحتية.

رغم التحول التنظيمي، واجهت الهيئة تحديات كبيرة. فبسبب الظروف الاقتصادية والضغوط السياسية، شهدت العديد من المناطق في إدلب احتجاجات واسعة، حيث طالب المتظاهرون بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وتحسين مستويات المعيشة وضمان المساءلة وما إلى ذلك. وكانت هذه المطالب تشير إلى نقطة تطور أكبر مقارنة مع مطالب المناطق التي تسيطر عليها بقية الفصائل المعارضة أو نظام الأسد.

ولكي نفهم كيفية تحول حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، وكيف أصبحت إدارة الثوار نقطة محورية، علينا أن ننظر إلى عملية التغيير التي مرت بها هذه الجماعة وكيف أعادت تنظيم علاقاتها مع المجتمع على مستويات متعددة.

هيئة تحرير الشام والتحوّل في الحكم

في سنواتها الأولى، كانت هيئة تحرير الشام جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة وتتبنى إيديولوجية راديكالية. لكنها بدأت في 2016 الابتعاد عن هذه الأيديولوجية واتخذت خطوات لتوطيد سلطتها في إدلب. وتجسد هذا التحول في تشكيل “حكومة الإنقاذ السورية”، التي أصبحت الجهة الإدارية الأساسية في المنطقة، وتولت توفير الخدمات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية. كما سمح هذا التحول للهيئة بتقديم صورة أكثر اعتدالًا على الساحة الدولية.

ويعتقد فهم الهيئة للإدارة على دمج الرقابة العسكرية مع الحكم المدني. وقد أسست الجماعة نظامًا قضائيًا يجمع بين الشريعة الإسلامية والمبادئ القانونية المدنية. ومع ذلك، لم يكن هناك دستور رسمي أو هيئة تشريعية منتخبة، بل كانت القرارات تُتخذ من قبل قيادة الهيئة، والتي كانت تتحكم في البنية التحتية والخدمات الأساسية.

وكان ذلك تطوراً جوهرياً للغاية، ويشير إلى خروج لافت عن الآلية التنظيمية لهيئة تحرير الشام التي كانت قائمة حتى عام 2016، وكذلك مطالبها بموضوع الإمارة التي تأسس عليها التنظيم، وإلى تغيّر في العقلية التنفيذية للهيئة من الناحية الأيديولوجية.

خلال مرحلتي جبهة النصرة وجبهة فتح الشام، كان الهيكل التنظيمي الذي تديره هيئة تحرير الشام وقيادتها يشير إلى أهداف تنظيم القاعدة في سوريا مثل إقامة إمارة ونظام شرعي يقوم على مبادئ أساسية وتفسيرات صارمة في بعض الأحيان. لكن بعد 2016، ومع تشكيل وتطور حكومة الإنقاذ، أصبح التنظيم يركز أكثر على القضايا العملية.

كان قادة التنظيم يعتمدون في كلا المرحلتين على هيكلية أوتوقراطية وعسكرية لتحقيق أهدافهم، لكن مع الوقت، واجهوا الواقع الصعب لمطالب المدنيين، مما جعلهم يدركون أنه لا يمكنهم الجمع بين الدور العسكري والإداري في نفس الوقت. ويوضح أحد كبار قادة هيئة تحرير الشام هذا الأمر على النحو التالي:

“لا يمكنك أن تشارك في بناء الطرق ومد أنابيب المياه وتقديم خدمات الشرطة وبناء وطلاء المدارس ومن ثم تذهب إلى الرباط في نفس الوقت. كان هناك شيء يبقى ناقصا دائمًا. فخدمات البلدية، والتعليم، والبنية التحتية كانت حتما بحاجة إلى أشخاص آخرين يعملون على تقديمها. لقد أدركنا أنه عندما لا تقدم للناس الخبز، والمنازل، والمدارس، والكهرباء، والماء، تجد أن ردك عليهم بعبارة؛ ‘نحن نجاهد من أجلكم’، لا يلقى الموقف المأمول منهم. لذلك، سلمنا هذا الأمر إلى أشخاص مدنيين قادرين على تسييره”.

وعلى الرغم من الخطوات المدنية في المجالات الأساسية مثل التعليم والصحة والأمن، إلا أن إدارة هيئة تحرير الشام في إدلب لم تتمكن من إدراك الفصل بين الإدارة العسكرية والمدنية بشكل كامل. إلا أنها نجحت إلى حد كبير في تحقيق التكامل بين الشقين العسكري والمدني. وعلى الرغم من أن هذا النموذج أدخل المجتمع جزئيًا في الإدارة، إلا أن هيئة تحرير الشام حافظت على هيكلها شديد المركزية في مراحل صنع القرار. وكان هذا أمرًا لا مفر منه بالنسبة لتنظيم يقاتل على الأرض.

ولكن على الرغم من هذا الوضع، واصلت هيئة تحرير الشام تغيير تشكيلتها العسكرية ونهج الحكم المدني. فعلى سبيل المثال، ومن أجل تجديد تشكيلتها العسكرية، اعتمدت قوتها الجوية على طائرات بدون طيار، مستلهمة من تجربة الحرب الأوكرانية. وقامت بتحويل قوتها البرية إلى ألوية وفرق وأركان بحيث تكون أقرب إلى الجيش النظامي، مع تلقي تدريبات في الأكاديمية العسكرية في إدلب. كما تم إنشاء الوحدات اللوجستية والوحدات القتالية كفرق منفصلة، فضلا عن تنويع الاتصالات العسكرية وتحسينها مع التطورات التكنولوجية. وقد صاحب هذا التغيير العسكري تغيير في وجهة نظر هيئة تحرير الشام في المجال المدني. وتجسدت أوضح الأمثلة على ذلك في علاقاتها مع الأقليات في المناطق التي كانت تحكمها.

العلاقات مع الأقليات

يعكس نهج هيئة تحرير الشام في التعامل مع الأقليات تحولا بين الماضي الجهادي للجماعة واستراتيجيات القيادة الحالية. ففي الماضي، استهدفت جبهة النصرة، سلف هيئة تحرير الشام، الأقليات الدينية مثل المسيحيين والدروز، ولجأت إلى أساليب مثل إجبار الآخرين على تغيير الدين وممارسات العنف. ولكن في السنوات الأخيرة، وتحت قيادة أبي محمد الجولاني، بدأت الهيئة تتبنى سياسة أكثر اعتدالًا تجاه الأقليات.

في إدلب، تم التواصل مع الدروز الذين تعرضوا للأذى، وأعيدت لهم ممتلكاتهم التي صودرت في وقت سابق. كما تم الاعتذار رسميًا عن الأضرار التي لحقت بهم، وبدأت العائلات في العودة إلى أراضيها لاحقا. وبالفعل، شهدت قرية “قلب لوزة” في إدلب زيادة في أعداد الدروز العائدين  حتى أنها اقتربت من المستويات السابقة في العامين الماضيين.

وخلال فترة التحول، قدمت هيئة تحرير الشام ضمانات أمنية للمسيحيين والدروز. وأعيدت الممتلكات المصادرة إلى أصحابها مع دفع تعويضات. وحسب ما ذكر أحد القادة البارزين في الهيئة، فقد تم إرجاع أكثر من 100 منزل ومساحات كبيرة من الأراضي إلى أصحابها مع دفع تعويضات مالية.

من أقرب الأمثلة أيضا في هذا الصدد؛ عودة المسيحيين في بلدة اليعقوبية التابعة لمدينة جسر الشغور، إلى إقامة شعائرهم الدينية مرة أخرى عام 2022. وهذا التطور كان يشير إلى تباين واضح بين هيئة تحرير الشام وسابقتيها جبهة النصرة وجبهة فتح الشام. وكان هذا في نفس الوقت الدليل القاطع على أن البنية العسكرية لهيئة تحرير الشام حددت مساحتها وسعت إلى التواصل مع المجتمع بأسلوب الإدارة المدنية.

كانت هيئة تحرير الشام تتغير بالفعل مع مرور الوقت. فبالإضافة إلى الدروز والمسيحيين، قدمت حكومة الإنقاذ السورية التي أنشأتها الهيئة – رغم جذورها السلفية – الحقوق للنساء، على عكس نظيراتها، في المناطق التي تحكمها. وبالتوازي مع استمرار الحضور النشط للمرأة في مجالات مثل التمريض والتدريس وإدارة الحضانة، لم تكن هناك مشاكل متعلقة بأهداف التنمية المستدامة في إدلب فيما يتعلق بتعليم الفتيات.

وعلى الرغم من كل هذه التطورات، واجهت هيئة تحرير الشام صعوبات وتحديات داخلية في منطقة إدلب خلال السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، نظم السكان احتجاجات واسعة بسبب الصعوبات الاقتصادية والضغوط السياسية، خصوصًا في المظاهرات التي استندت إلى مراجع من الماضي. وهذه الاحتجاجات أظهرت أن هناك حاجة لتوجه هيئة تحرير الشام نحو تبني فهم أكثر ديمقراطية في الإدارة. واستجابةً لهذه المطالب، بدأت قيادة الهيئة في تطوير استراتيجيات للعلاقات العامة ضمن هيكل حكومة الإنقاذ السورية، وأسست لجنة معنية بالشكاوى. بعد ذلك، أعلنت عفوا عاما يشمل الجرائم الخالية من العنف، والمعتقلين السياسيين.

العلاقات الخارجية والصورة الدولية

تمكنت هيئة تحرير الشام من إدارة هذه المرحلة كلها سواء في مجال العلاقات الخارجية أو في هيكلة الحكم الداخلي وتغييره. كما أنشأت الهيئة صورة لها تظهرها كمجموعة ثورية ناجحة وتحظى بالقبول كطرف فاعل ضد نظام الأسد وتتمتع بعلاقات جيدة مع تركيا التي دخلت المنطقة بصفة دولة ضامنة عام 2018. كان هذا الوضع يتناقض مع توصيف هيئة تحرير الشام بـ”الإرهابية” على الساحة الدولية، إلا أنه ينسجم مع استراتيجية الهيئة في إظهار تغييرها من خلال تصرفاتها داخلياً والرسالة التي توجهها للخارج، وإظهار ابتعادها عن الأسلوب أو النهج الذي وقف وراء اتهامها بالإرهاب. ومن خلال هذه الاستراتيجية، استطاعت الهيئة أن تبرز نفسها كقوة معتدلة، خاصة بعد أن بدأت في إجراء تحولات إيجابية نحو الأقليات والنساء في المناطق التي تسيطر عليها، وقامت بتحسين البنية التحتية في المنطقة وتلبية مطالب المدنيين. كما أنها أظهرت التزامًا بأخذ احتياجات السكان بعين الاعتبار، مما ساعدها في بناء صورة أكثر قبولًا باعتبارها قوة ذات توجهات إصلاحية ومتطورة. وبهذه الطريقة، تمكنت الهيئة من إبراز نفسها كقوة أكثر اعتدالاً من خلال اتخاذ مبادرات تجاه الأقليات والنساء في المنطقة، وإجراء تحسينات في البنية التحتية والبنية الفوقية، واتخاذ الإجراءات التي تظهر اهتمامها بمطالب المدنيين.

ختاما؛

إن تطورات حكم هيئة تحرير الشام في إدلب، وتصريحاتها ومقارباتها بعد السيطرة على دمشق، تكشف بكل وضوح الصعوبات والتعقيدات التي تواجه مساعي الجماعات الثورية المتمردة لإقامة دولة في مناطق النزاع. وعلى الرغم من أن الهيئة لم تبتعد تمامًا عن هويتها الجهادية السابقة، إلا أنها اتخذت خطوات هامة نحو تعزيز الدولة وبناء إدارة مدنية، وأوضحت نيتها في تطبيق ذلك عمليًا داخل الحكومة الجديدة. فأثناء كتابتي لهذا المقال، كان مسؤولو الهيئة يناقشون إمكانيات إعلان عيد الميلاد لدى المسيحيين عيدًا رسميًا في سوريا.

لا شك أن هذا التحول تحقق في العديد من المجالات الصغيرة، إلا أن بعض المخاوف الناتجة عن الحرب المستمرة في سوريا منذ 13 عامًا، تدفع إلى طرح بعض الشكوك والتساؤلات حيال موقف هيئة تحرير الشام. ومع ذلك، يبدو من الآن أن إعلان الحكومة السورية الانتقالية الجديدة في دمشق سيعمل على تطوير الممارسة العملية للهيئة في إدلب بطريقة أكثر شمولية وإيجابية. بمعنى آخر، ما نشهده في هذه الأيام ليس تقيّة بل هو تحول حقيقي.

Levent Kemal

ليفنت كمال
تابع الحروب والنزاعات في سوريا، والعراق، وليبيا وأفريقيا بصفة صحفي مستقل. وعمل لاحقاً مراسلاً لوكالة الأناضول التركية للأنباء في سوريا. بعد ذلك، عمل ليفنت كمال كمراسل مستقل لوسائل إعلام مختلفة لفترة من الوقت، وهو الآن يعمل كمحلل في منصة "كلاش ريبورت" الإخبارية.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Yazdır