مقترح ترامب لـ”وقف إطلاق النار”: سلام حقيقي أم مناورة من أجل الوجاهة؟

خطة ترامب بشأن غزة تمنح مكاسب ملموسة قصيرة الأمد: وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وإعادة المساعدات، ووعود بإعادة الإعمار والتنمية. لكن على المدى الطويل، الأثر الحقيقي هو تأجيل المطالب الجوهرية للفلسطينيين، وإقصاء حماس، ومنح واشنطن شرعية تدخل دائمة. وهذا يطرح سؤالاً أساسياً: هل هي طريق يؤدي إلى السلام فعلاً، أم فخ جديد لإدامة السيطرة الأمريكية والإسرائيلية؟
image_print

لم تقتصر الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة منذ ما يقارب العامين على تدمير البنية المادية للقطاع فحسب، بل حولت نسيجه السياسي والاجتماعي إلى ركام هائل. ووفق الأرقام الرسمية، قُتل نحو 60 ألف إنسان، بينما تشير التقديرات غير الرسمية إلى ما يقارب 400 ألف شخص، على يد إسرائيل، كما انهارت البنية التحتية في غزة وتجلّى عجز المجتمع الدولي بصورة أوضح. وفي خضم هذا المشهد، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 29 أيلول/سبتمبر 2025 خطة من 20 بندا لوقف إطلاق النار. وتنص الخطة على وقف الحرب فوراً، وإطلاق سراح الأسرى، واستئناف المساعدات الإنسانية، وإنشاء إدارة انتقالية تكنوقراطية في غزة. غير أنّ النص، رغم ما يعد به من مكاسب قصيرة المدى، يطرح أسئلة جدية حول توازنات القوة والسيادة على المدى الطويل. فخطوة ترامب هذه لا تبدو مجرد مبادرة لإغاثة غزة، بل محاولة لإبراز نفسه مجدداً في واجهة الدبلوماسية العالمية، وربما حتى لترشيح نفسه بقوة لجائزة نوبل للسلام. وبعد أن عجز عن تحقيق اختراق في الملف الأوكراني، يبدو أنّ ترامب يسعى إلى بناء صورة “مهندس السلام” بسرعة عبر ملف غزة. لكن يبقى السؤال: كيف، ولصالح مَن، سيتم بناء هذا “السلام”؟

الجوانب الإيجابية للخطة

إنّ أبرز الجوانب الجاذبة في الخطة هو تعهّدها بوقف الحرب الإبادية فوراً. إذ سينسحب الجيش الإسرائيلي إلى خطوط مرسومة، وتتوقف الغارات الجوية، وتصبح خطوط المواجهة مجمدة. وهذا يعني لغزة وأهلها متنفساً حيوياً قصير الأمد. غير أنّ مسألة انسحاب إسرائيل على ثلاث مراحل تبقى غامضة من حيث مَن يراقبها وكيف، خصوصاً في ظل سجلّ إسرائيل الطويل في خرق اتفاقات الهدنة دون أن تواجه أي عقوبات رادعة.

وتتضمن الخطة آلية مفصلة لتبادل الأسرى. فإطلاق سراح مئات الفلسطينيين المحتجزين في سجون إسرائيل (وهم أسرى لا “محكومون”) سيُقابل بإعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة. وهذا البند ذو بعد إنساني ورمزي، يمكن أن يترك أثراً في مجتمعي الطرفين. كما أنّ بند المساعدات الإنسانية يعد نقطة مهمة، إذ يَعِد بإعادة تأهيل البنية التحتية التي دمّرتها إسرائيل بمساندة غربية: من إعادة تشغيل المستشفيات والمخابز إلى رفع الأنقاض. وتنص الخطة على أنّ المساعدات سيجري تسليمها عبر منظمات دولية كالأمم المتحدة والصليب الأحمر، ما يعطي انطباعاً بآلية مستقلة نسبياً يمكن أن ترضي الرأي العام الدولي.

كما أنّ بند حظر التهجير القسري وضمان عدم ضم غزة إلى إسرائيل يُعتبر عنصراً إيجابياً، إذ يشكل ضمانة مبدئية لحفظ الوجود الديمغرافي والجسدي للقطاع. ويمكن قراءة هذه النقطة على أنها فشل لسياسة “تفريغ غزة من سكانها”، وأنّ صمود الفلسطينيين على أرضهم أفضى إلى انتصار ملموس.

أما على المستوى الاقتصادي، فتطرح الخطة جعل غزة “مركزاً إقليمياً حديثاً”، عبر إنشاء مناطق اقتصادية خاصة وجذب استثمارات دولية. نظرياً، قد يفتح ذلك فرص عمل ويمنح الفلسطينيين أملاً بمستقبل أفضل. غير أنّ هذا البند ينطوي أيضاً على منطق استعماري واضح: فالنص يوحي أنّ “الحداثة” لن تأتي إلا عبر الولايات المتحدة وإسرائيل، وكأنّ غزة لم تكن تمتلك مقوماتها الخاصة.

النقاط الإشكالية والمتناقضة

رغم كل هذه الإيجابيات، فإن الخطة مليئة بالمشكلات البنيوية الكبيرة. أولاً، مسألة دولة فلسطين تُركت غامضة. فالنص لا يتحدث عن دولة مستقلة إلا بشرط أن تجري السلطة الفلسطينية “إصلاحات” مستقبلية. ما يعني أن المطلب المركزي للشعب الفلسطيني جرى تأجيله إلى أجل غير مسمى. وهذا يعيد إنتاج المنطق التاريخي ذاته: ترحيل قضايا الدولة واللاجئين والقدس والمستوطنات، بما يكشف أنّ واشنطن وتل أبيب ليستا بصدد سلام حقيقي لصالح الفلسطينيين.

ثانياً، نموذج الحكم المقترح لغزة إشكالي للغاية. فالقطاع سيُدار عبر لجنة تكنوقراطية تخضع لإشراف “مجلس سلام” يترأسه ترامب وتوني بلير وغيرهما من الفاعلين الخارجيين. وهذا يعني إضعاف حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وإرساء نظام وصاية يفتقر لأي شرعية محلية. ومن المرجح أن يؤدي إلى تعزيز قيادات “مقبولة أمريكياً وإسرائيلياً”، كسلطة محمود عباس، فيما يجري استبعاد القوى المقاومة.

ثالثاً، تقضي الخطة بإقصاء حركة حماس سياسياً وعسكرياً. فهي تشترط نزع سلاحها، وانسحابها من الحكم بالكامل، بل وحتى ترحيل بعض كوادرها إلى دول أخرى. وهذا يترجم عملياً إلى تصفية الحركة التي تراها أطراف كتركيا “خط الدفاع الأخير”. ومن غير المرجح أن تقبل حماس بذلك، لأنّه يمثل نقيضا لوجودها. إلا أنّ رفضها سيُستغل من قِبل واشنطن وتل أبيب كذريعة لاتهامها بمعاداة السلام.

رابعاً، تبقى المسألة الأمنية هي الأكثر خطورة. إذ رُبط انسحاب الجيش الإسرائيلي بشرط “نزع السلاح الكامل” في غزة. لكن لم يُوضح كيف أو متى سيتحقق ذلك. وهذا يمنح إسرائيل ذريعة لتأجيل الانسحاب إلى أجل غير معلوم، ويجعل الاحتلال مستمراً بحكم الأمر الواقع. والأسوأ أنّ أي حكومة متطرفة في إسرائيل، كحكومة نتنياهو، قد تجد في الاتفاق غطاءً لاستئناف الهجمات متى شاءت.

خامساً، التمويل وآليات المساعدات الاستثمارية غامضة أيضاً. فالخطة تقدم “رؤية تنموية” كبرى، لكن من دون آليات تنفيذية واضحة أو ضمانات لحرية تدفق المساعدات في ظل استمرار سيطرة إسرائيل على المعابر.

الخلفيات الاستراتيجية والسياسية

ليست خطة ترامب شأناً إنسانياً بحتاً، بل هي مناورة جيوسياسية في نفس الوقت. فبعد فشله في أوكرانيا، يحاول ترامب عبر غزة تحقيق إنجاز سريع يرفع رصيده داخلياً وخارجياً. وتطلعاته لنيل جائزة نوبل تدخل هنا كعامل محوري. لكن ذلك يضعف حياد الخطة ويكشف عن طابعها الشخصي المصلحي.

كما أنّ إدراج “مجلس سلام” بقيادة ترامب يعني ترسيخ الولايات المتحدة كقوة وصاية مباشرة في الشرق الأوسط، وليس مجرد وسيط. وهو ما يفتح الباب أمام تعزيز الوجود الأمريكي في المنطقة على المدى البعيد.

في المقابل، تمنح الخطة إسرائيل مساحة مناورة واسعة. فإذا رفضت حماس البنود، تستطيع تل أبيب مواصلة عدوانها وتبريره على أنّه رد على “رفض السلام”. أي أنّ الخطة تتضمن سلفاً ذريعة بيد إسرائيل لتوسيع حربها تحت غطاء الشرعية.

الخاتمة

خطة ترامب بشأن غزة تمنح مكاسب ملموسة قصيرة الأمد: وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وإعادة المساعدات، ووعود بإعادة الإعمار والتنمية. لكن على المدى الطويل، الأثر الحقيقي هو تأجيل المطالب الجوهرية للفلسطينيين، وإقصاء حماس، ومنح واشنطن شرعية تدخل دائمة. وهذا يطرح سؤالاً أساسياً: هل هي طريق يؤدي إلى السلام فعلاً، أم فخ جديد لإدامة السيطرة الأمريكية والإسرائيلية؟

إن كان ترامب يريد سلاماً عادلاً ودائماً، فعليه أولاً أن يوقف دعمه لإسرائيل، الطرف الذي يرتكب الإبادة، وأن يضمن دخول المساعدات الإنسانية دون شروط. وثانياً، أن يفرض انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، ويترك للفلسطينيين حرية انتخاب قيادتهم. وما لم تتضمن أي خطة هذين الشرطين الجوهريين، فلن تكون سوى مسكّن قصير المدى يهيئ الأرضية لأزمات أكثر شدة. فإسرائيل لا تريد حلاً بقدر ما تريد تأجيل الأزمة. وبذلك، فإنّ مقترح ترامب لا يقدم علاجاً للمشاكل الرئيسية: الاحتلال، والتطهير العرقي، والإبادة، بل يعيد إنتاجها في صيغة مختلفة. وبالنظر إلى مضمونه السياسي، فإنّ خطة ترامب لا تتجاوز كونها مناورة هدفها الوجاهة وحماية مصالح إسرائيل ومنح الولايات المتحدة صفة “المتدخل الشرعي” الجديد. أما الحاجة الحقيقية لشعب غزة فهي ليست التنافس على الزعامة لدى الجهات الفاعلة الخارجية، بل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وضمان الحرية والعدالة وحق تقرير المصير.

Dr. Mehmet Rakipoğlu

د. محمد رقيب أوغلو
تخرج من قسم العلاقات الدولية في جامعة صقاريا عام 2016. أكمل رسالة الدكتوراه تحت عنوان "استراتيجية الحماية في السياسة الخارجية: علاقات السعودية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا في فترة ما بعد الحرب الباردة". يعمل مديراً لأبحاث تركيا في مركز المخا للدراسات الاستراتيجية، وهو أيضاً عضو هيئة تدريس في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ماردين آرتوكلو.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.