يشكل هجوم إسرائيل على الدوحة نقطة تحول حاسمة بالنسبة للهندسة الأمنية في الخليج. فالدول الخليجية، التي كانت تُعتبر منذ فترة طويلة في مأمن نسبي بفضل الضمانات الأمنية الغربية، تجد نفسها اليوم أمام حاجة مُلحة لإعادة تقييم مفهوم الأمن وإعادة صياغة الهندسة الأمنية الإقليمية. وفي سياق أثبتت فيه الضمانات الأمنية الغربية عجزها عن العمل بفعالية، وامتنعت فيه القوى الكبرى مثل الصين وروسيا عن لعب دور نشط في هندسة الأمن الإقليمي، بات السؤال المطروح بشكل متزايد: هل يمكن أن تتموضع تركيا كفاعل يوفر الأمن للخليج؟ هذا السؤال بدأ يتحول تدريجيا إلى موضوع نقاش عقلاني وواقعي بصورة متنامية.
تُعد دول الخليج منذ عقود أكبر المشترين بالنسبة للشركات الغربية المتخصصة في الأسلحة والدفاع، وهي من أكبر مستوردي أنظمة السلاح في الأسواق العالمية. ورغم أن هذه الدول عادة ما تلجأ إلى الشركات الغربية لتأمين احتياجاتها من أنظمة التسلح، إلا أنّ التاريخ يُظهر أن بعض الفترات شهدت قيامها بدعم القدرات الدفاعية والعسكرية-الصناعية لبعض الفاعلين الإقليميين، بهدف تحقيق توازن في مواجهة التهديدات الإقليمية. ويهدف هذا المقال إلى دراسة إمكانات استثمار دول الخليج، التي تتحرك بدافع تنامي شعور بانعدام الثقة تجاه إسرائيل، في القدرات العسكرية-الصناعية لتركيا – التي تخوض منافسة مع إسرائيل تأخذ طابع “اللعبة الصفرية” – وما يمكن أن يخلقه ذلك من فرص استراتيجية. فتركيا، باعتبارها صاحبة أقوى قدرة عسكرية-صناعية في المنطقة، تعزز يومًا بعد يوم موقعها في سوق السلاح العالمي. وفي هذا السياق، قد تكون تركيا المركز الأبرز الذي تتجه إليه استثمارات دول الخليج في الصناعات الدفاعية من أجل موازنة إسرائيل. في حال تحقق هذا السيناريو، فإن تنامي قوة الجيش التركي واتساع طاقات صناعته الدفاعية يمكن أن يقودا إلى تحول جذري في الهندسة الأمنية للمنطقة.
الاستثمارات الاستراتيجية في هندسة أمن الخليج: تجربتا العراق وباكستان
رغم أن دول الخليج تواجه لأول مرة عدوانًا مباشرًا من إسرائيل، إلا أنها عبر تاريخها تعرضت لتهديدات متعددة من خصوم إقليميين مختلفين. وفي مواجهة تلك التهديدات، غالبًا ما لجأت إلى استثمارات ضخمة في شركات السلاح الغربية، لكنها في أحيان أخرى قامت باستثمارات استراتيجية لدعم القدرات العسكرية-الصناعية لدول صديقة أو حليفة بهدف موازنة الخصوم. ومن الأمثلة البارزة مؤخرًا تجربتا العراق وباكستان.
في سبعينيات القرن الماضي، أصبح الجيش الإيراني واحدًا من أقوى خمسة جيوش في العالم. وقد لعبت سياسة “العمودين التوأمين” لإدارة نيكسون دورًا محوريًا في عملية تسليح إيران، إذ رأت واشنطن في طهران الحاجز الأقوى لوقف التمدد السوفيتي، ولم تتردد في تزويدها بأحدث تكنولوجيا السلاح. وبعد الثورة الإسلامية، ورث نظام الخميني ترسانة متطورة من الأسلحة الأمريكية، إضافة إلى الدعم الشعبي الواسع للثورة، مما جعل إيران تحت حكمه قوة إقليمية عظمى عسكريًا.
بعد الثورة، وتوجيه إيران فوهات بنادقها نحو الخليج، شعرت الدول الخليجية – وعلى رأسها السعودية – بصدمة كبيرة. ونظرًا لعدم قدرة السعودية على منافسة إيران صناعيًا وعسكريًا، اتخذت خيارًا استراتيجيًا باللجوء إلى سياسة “احتواء إيران”. وفي هذا السياق، ضخّت الرياض استثمارات في القدرات العسكرية-الصناعية لكل من العراق وباكستان، اللتين كانتا تحاصران إيران شرقًا وغربًا وتتنافسان معها.
في ثمانينيات القرن الماضي، أثارت الاستراتيجية السرية لصدام حسين الرامية لامتلاك سلاح نووي اهتمام السعودية. فقد رأت الرياض أنها ستكون المستفيد الأكبر من المظلة الأمنية التي يمكن أن يوفرها العراق بعد امتلاكه قدرات نووية، ولهذا ساعدت بشكل مباشر في تمويل البرامج النووية العراقية.
وفي الفترة نفسها، كانت باكستان تطلب دعم السعودية في مواجهتها الجيوسياسية مع الهند. وقد دعمت الرياض بشكل كبير سياسة باكستان الهادفة لامتلاك سلاح نووي لموازنة التفوق الهندي. وبفضل الموارد المالية والدعم الدبلوماسي السعودي، تمكنت إسلام آباد من تجاوز الضغوط والعقوبات الغربية المفروضة عليها نتيجة نشاطاتها النووية.
لكن اليوم، لم يعد لا العراق ولا باكستان قادرين على لعب دور في هندسة أمن الخليج. فالعراق غارق منذ الغزو الأمريكي في أزمات داخلية، من حرب أهلية وانقسامات وخطر التفكك، فضلًا عن خضوعه لنفوذ إيراني واسع. أما باكستان، فهي منشغلة كليًا بمنافسة الهند. أولويتها الوطنية هي موازنة الاختلال الاستراتيجي مع نيودلهي، وأزماتها الاقتصادية الخانقة وعلاقات الهند العميقة مع القوى العالمية تجعل موقعها صعبًا للغاية. وبالتالي فإن باكستان لا تستطيع الانخراط في صراعات إقليمية أخرى، إذ قد يفاقم ذلك هشاشة توازنها الاستراتيجي.
خيار تركيا في موازنة إسرائيل
في ظل غياب العراق وباكستان عن المشهد، تبرز تركيا كخيار وحيد أمام دول الخليج فيما يتعلق بفاعلين يمتلكون قدرات عسكرية-صناعية واعدة. ويرجع ذلك إلى سببين رئيسيين:
أولًا: النهج السياسي لأنقرة الذي يضع إسرائيل في موقع “الطرف الآخر في لعبة صفرية”. فتركيا جعلت القضية الفلسطينية محورًا ثابتًا في سياستها الخارجية، ما أكسبها شرعية عالية لدى الرأي العام الخليجي والنخب الحاكمة فيه. هذا الموقف السياسي يجعلها شريكًا استراتيجيًا طبيعيًا بالنسبة لدول الخليج التي تشعر بالتهديد المباشر من السلوك العدواني الإسرائيلي.
ثانيًا: التقدم اللافت للصناعات الدفاعية التركية في السنوات الأخيرة. إذ نجحت الشركات التركية في تطوير تفوق تنافسي في مجالات مثل الطائرات المسيرة، وأنظمة الصواريخ، والدفاع الجوي، والتقنيات الإلكترونية للحرب. وتوفر هذه الأنظمة حلولًا فعالة من حيث الكلفة، وسرعة في التسليم، ونماذج تعاون مرنة، ما يتناسب مع احتياجات دول الخليج الأمنية. فضلًا عن ذلك، فإن استعداد تركيا للانخراط في شراكات قائمة على نقل التكنولوجيا يجعلها خيارًا أكثر جاذبية من منافسيها الدوليين بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الخليجية.
وعليه، فإن انكفاء العراق وانشغال باكستان بمنافسة الهند يجعل تركيا – بفضل تموضعها السياسي-الدبلوماسي وقدراتها العسكرية-الصناعية – البديل شبه الوحيد أمام الخليج. وفي هذا السياق، يمكن لدول الخليج، وعلى رأسها السعودية، أن تضخ استثمارات في الصناعات الدفاعية التركية لتعزيز قدراتها أكثر فأكثر. مثل هذه الاستراتيجية ستتيح أداة جديدة لموازنة إسرائيل إقليميًا.
هذا الواقع يمكن أن يُحدث نتائج مزدوجة: فمن جهة سيفتح موارد مالية ضخمة أمام الشركات الدفاعية التركية ويُسرّع نمو القطاع، ومن جهة أخرى سيوفر لدول الخليج مركز قوة إقليميًا قادرًا على موازنة إسرائيل.
بوصفها أكبر المشترين في سوق السلاح العالمي وأهم الزبائن لدى الشركات الدفاعية الغربية، تبحث دول الخليج اليوم عن بدائل أمنية جديدة بعد الصدمة التي أحدثها هجوم إسرائيل على الدوحة. ومع غياب أي فاعل إقليمي قادر على موازنة إسرائيل، وامتناع القوى الكبرى – وعلى رأسها الولايات المتحدة – عن تقديم ضمانات أمنية في مواجهتها، تتسع رقعة هذه البدائل.
وفي هذا المناخ، تزداد أهمية تركيا، التي تعرّف سياستها الخارجية تجاه إسرائيل باعتبارها “لعبة صفرية”، والتي حققت صناعاتها الدفاعية قفزة بارزة. فقد يُمكّن هذا الصعود الصناعات الدفاعية التركية من أن تصبح قاعدة لقيام هندسة أمنية جديدة في المنطقة تتيح موازنة النفوذ الإسرائيلي عبر شراكة مع فاعل إقليمي.
وكما استثمرت دول الخليج في الماضي في قدرات العراق وباكستان لموازنة إيران، فإن الصناعات الدفاعية التركية اليوم تبرز كأكثر مجال استثماري جاذب لها. وإذا ما اتجه الخليج نحو تركيا، فإن القدرات العسكرية-الصناعية لأنقرة ستزداد تطورًا، ما سيؤدي إلى بناء حاجز قوي في مواجهة العدوانية الإسرائيلية. وهكذا، قد يصبح من الممكن قيام هندسة أمنية جديدة تقودها تركيا في المنطقة.