لقد كان الحلفاء يتسامحون مع الرئيس الأمريكي على أساس أنهم لن يتعرضوا للقصف أو للأضرار الاقتصادية. لكن وداعاً لتلك الفكرة.
في شتى أنحاء العالم، يجتمع القادة السياسيون في قمم واجتماعات طارئة ومستَعجَلة نظراً لما يحدث اليوم، حيث نجد أنّه بعد الضربة الإسرائيلية ضد قادة حماس في الدوحة – والتي تُعَدّ انتهاكاً هائلاً لسيادة بلد ليس فقط حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة، بل أيضاً ركيزة لمحادثات السلام في غزة – سارع قادة الخليج لإظهار التضامن. فقد قام رئيس دولة الإمارات، محمد بن زايد آل نهيان، بزيارة غير مقررة إلى الدوحة، وعانق أمير قطر. لقد كان ذلك عرضاً علنياً للأخوة التي لم يكن من الممكن تصورها قبل بضع سنوات، وذلك فقط حين كان البلدان غارقين في خصومة مريرة. أما الخصم الآخر لقطر في تلك الخصومة، السعودية، فقد دعت بعد الضربة الإسرائيلية إلى “رد عربي وإسلامي ودولي لمواجهة العدوان” و”الممارسات الإجرامية” لإسرائيل. من جهةٍ أخرى، سارع رؤساء دول عربية وإسلامية للقدوم إلى الدوحة يوم الأحد لعقد قمة طارئة.
وقُبَيلَ أكثر من أسبوع، أشارت قمة أخرى إلى تحالفات جديدة. فقد التقى قادة الهند والصين وروسيا في تيانجين، وأنتج اللقاء صورة دافئة بابتسامات يُرجَّح أنها سؤثر على هذا العصر. وقد عُقدت القمة في أعقاب إغضاب دونالد ترامب لحليف آخر، ناريندرا مودي. فبعد انتخاب ترامب لولاية ثانية، كان مودي من أوائل القادة الذين زاروا واشنطن، حيث وُصف بأنه “صديق عظيم”، واتفق البلدان على هدف مضاعفة تجارتهما إلى نصف تريليون دولار بحلول عام 2030. لكن بعد بضعة أشهر من ذلك، فرض ترامب على الهند رسوماً جمركية بنسبة 50% على السلع المستوردة من البلاد، ثم ضاعف الرسوم عقاباً لشراء الهند النفط الروسي. لاحقاً وصف الاقتصاد الهندي بأنه “ميت”. بعد كل ذلك علّق على قمة تيانجين قائلاً في منشور: “يبدو أننا خسرنا الهند وروسيا لصالح الصين الأكثر ظلاماً وعمقاً.” وهو الآن يضغط على الاتحاد الأوروبي لفرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على الهند والصين.
من جهة أخرى، وقبل بضعة أشهر فقط من الضربة الإسرائيلية على الدوحة قال ترامب – أثناء زيارته للعاصمة القطرية – “نعم دعونا نشكر هذه الصداقة”. لكن يبدو بأنّ وصف ترامب لأحدهم بأنه صديقه لم يعد ضماناً لعلاقات جيدة، بل أصبح فألاً على أن يتم رميه تحت عجلات الحافلة.
إنّ بعض هذه الاجتماعات والتصريحات التي يدلي بها كلا البلدان لا تتجاوز كونها رسائل رمزية، فالهند وقطر لا تسعيان إلى صدام مباشر مع ترامب. لكنهما في الوقت نفسه لا تريدان أن تظهرا وكأنهما خاضعتان بالكامل له، لذلك تلجآن إلى إظهار الغضب وإبراز صداقات وتحالفات بديلة لتأكيد أنهما تملكان خيارات أخرى. بهذه الطريقة، تحاولان موازنة ردّهما على إهانات ترامب مع الحفاظ على مكانتهما أمام شعوبهما وصورتهما في محيطهما الإقليمي.
لكن من نواحٍ أخرى، هي أيضاً محاولات جادة لاستكشاف الكتل الجديدة للقوة التي يمكن أن تتشكل. بينما ما يعوّل عليه ترامب، وبدرجة ما بنيامين نتنياهو، هو أنهما يستطيعان أن يكونا ما يُعرف في عالم المال بـ “محددي الأسعار” أو “صانعي الأسعار” – أي الطرف الذي يملك القدرة على تحديد تكلفة السلع والخدمات بفضل سوق غير تنافسي. فإسرائيل تستطيع أن تقصف من تشاء، والولايات المتحدة تستطيع أن تنتهك اتفاقات الأمن وتُملي الشروط الاقتصادية، ولا يملك أحد الحق في الرد.
لكن إن استمر هذا طويلاً، سيبدأ الفاعلون العقلانيون في البحث عن طرق للتكيف مع هذه الشروط السوقية غير المثالية. ليس لأن هذه الدول المستاءة حديثاً تعترض على كون الولايات المتحدة وإسرائيل قويتين عسكرياً؛ فدول الخليج على وجه الخصوص قد أبدت حماساً كبيراً في استمالة الولايات المتحدة ومغازلتها، بل وتسامحت أو طبّعت علاقاتها مع إسرائيل. لكنّ هذه التحولات في المواقف تحدث ببساطة لأن ترامب مختلّ، وإسرائيل خارج السيطرة. فيبدأ الناس في تفقد جيوبهم، وإجراء الاتصالات، ومحاولة اكتشاف رأس المال الذي يملكونه (والذي يمتلكون الكثير منه) وكيف يمكن أن يُجمع. غير ذلك، فلن يكون هناك نقص في آخرين متوترين وذوي عقلية مشابهة لينضموا – لأنه حين تخون حليفاً وثيقاً، يدرك الجميع أنه لا أحد في مأمن. وقد كان لافتاً كيف أن الإمارات، وهي الموقعة على اتفاقيات أبراهام، كانت على غير عادتها ناقدة بصوت مرتفع لإسرائيل منذ ضربة قطر.
لقد صار مصير تلك الاتفاقيات بالفعل موضع تساؤل. ففي تيانجين، دعت الصين أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون إلى استغلال “أسواقهم الضخمة” لدعم التجارة والاستثمار فيما بينهم، وأعلنت عن “مبادرة للحكم العالمي”، وهي مسعى واضح لتصوير الصين وحلفائها كضامنين لنظام عالمي جديد. بالإضافة إلى ذلك فقد كان من بين الحاضرين في القمة دول أخرى مثل تركيا ومصر، اللتين تقبعان أيضاً في مرمى الأزمة السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط.
في هذه المرحلة الجديدة من سياسة ترامب الخارجية، لم يعد الأمر مجرد قلق من تقلباته، بل تحوّل إلى قناعة راسخة بأن التعرض المفرط لنزواته يشكل خطراً حقيقياً. فالتعامل معه لا يجلب أي نتائج مضمونة، لأن كل استثمار في العلاقة معه ينتهي بلا جدوى. وإنّ المساوم الصعب يمكن قبوله إذا التزم بقاعدة واحدة: أن الصفقة، مهما كانت سيئة، تُحترم وتُنفذ. لكنّ ترامب خالف هذا المبدأ، مما جعل التعامل معه محفوفاً بالمخاطر وفاقداً للثقة.
أمّا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فلم يعد ترامب يظهر كمن يمكن إقناعه أو استمالته أو كسب وده من قبل الدول العربية. فهو ببساطة لا يملك القدرة الذهنية اللازمة لمنع الصراع من التمدد بطرق تعيد رسم الخريطة الجغرافية والسياسية للشرق الأوسط على نحو متزايد. إنه إمبراطور كسول ونزوي، يجلس على كومة من أمة تعصف بها الأزمات والعنف.
إنّ إعادة الاصطفاف العالمي لا تزال وليدة وبطيئة ومعقدة، وربما مقلقة وفوضوية للدول المرتبطة بالولايات المتحدة عبر الروابط الاقتصادية والعسكرية. فالولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد استهلاكي في العالم، ومظلتها الأمنية ومبيعات أسلحتها تشكل ركناً أساسياً لاستقرار العديد من الدول، لا سيما في العالم العربي. لكنّ الخيار الآن أمام العديد من حلفاء واشنطن هو بين تسليم سيادتهم لترامب، أو البحث عن سبل لتعزيزها بوسائل أخرى، مع الحذر من أن يصبحوا أعداء للرئيس الأمريكي.
قد يبدو أنّ الخيار الثاني، وهو التحرك نحو بدائل لواشنطن وتل أبيب، يتم ببطء وحذر، مما يوحي بأن التوازنات لم تتغير. لكنّ المشهد مختلف؛ فالتقارب السريع واللافت بين الدول يكشف أن الصفائح تتحرك فعلاً. وربما ينظر ترامب ونتنياهو إلى هذه القمم والبيانات على أنها مجرد استعراضات تبدي مظاهر الضعف لهذه الدول، لكنّ ما يغفل عنه هذان الاثنان هو أنّ جزءاً من قوة الولايات المتحدة وإسرائيل لم يكن عسكرياً أو اقتصادياً فحسب، بل نفسياً أيضاً. فقد قامت واشنطن بإقناع الحلفاء بأن بقاء الوضع القائم يضمن لهم الحماية من القصف والأزمات الاقتصادية. غير أن هذا الوهم قد انكسر، وما إن يزول هذا الحاجز النفسي حتى تصبح كل السيناريوهات مفتوحة أمام الدول الباحثة عن بدائل وتحالفات جديدة.