حرب إسرائيل وإيران قلبت المعادلة المعتادة في الشرق الأوسط وكسرت التوقعات. لكن الجانب المثير في هذه الحرب هو أنها لا تناسب السردية الكلاسيكية لـ”منتصر واحد وخاسر واحد”. بل على العكس، في نهاية هذه الحرب، سيكون الفائز هو لاعب لم يشارك مباشرة في القتال لكنه كان يراقب الساحة بعناية: تركيا.
تلقّت إيران ضربات قوية في مناطق عسكرية واستخباراتية كانت تُعتبر سابقًا “محصنة” من التدخلات الخارجية. الضربات الجوية الإسرائيلية استهدفت قادة كبار في الحرس الثوري، وحتى أن هناك مزاعم بأن رئيس الاستخبارات الإيرانية قد تم تحييده داخل طهران نفسها. هذه الخسارة لم تكن مادية فحسب، بل كانت أيضًا انهيارًا رمزيًا.
هذا النوع من العمليات لا يظهر فقط التفوق العسكري الإسرائيلي، بل يكشف أيضًا عن تفوق في التسلل والتكتيكات والشبكات الاستخباراتية. داخل الأوساط الأمنية الإيرانية، خلّف هذا الحادث صدمة: سؤال “كيف بقيت أبوابنا مفتوحة على مصراعيها؟” لم يعد يُطرح فقط في شوارع إيران، بل أصبح موضوع نقاش كبير داخل النظام نفسه.
على الجانب الإسرائيلي، الأمور اتخذت منحى دراميًا مختلفًا. نظام “القبة الحديدية”، الذي كان يُروج له لسنوات على أنه أكثر أنظمة الدفاع الجوي تطورًا في المنطقة، خضع في هذه الحرب لاختبار حقيقي كميًا ونوعيًا. الصواريخ الجوالة والطائرات المسيّرة الانتحارية الإيرانية اخترقت “القبة الحديدية” لأول مرة بهذا الحجم الكبير.
استهداف أهداف مدنية في مدن مثل تل أبيب وحيفا وعسقلان كشف عن ثغرة تكنولوجية وانهيار نفسي. هذا الوضع لم يهز فقط إحساس المجتمع الإسرائيلي بالأمن، بل زعزع أيضًا ادعاء تل أبيب بقدرتها على الدفاع عن نفسها. لدرجة أن بعض المحللين الإسرائيليين وصفوا هذه المرحلة بأنها “نهاية أسطورة القبة الحديدية”.
بالنسبة لإيران، يبدو تغيير النظام كما تريد إسرائيل صعبًا، لكن النظام أمام خيارين:
المزيد من القمع والانغلاق: لتعزيز سلطته داخليًا، قد يتحول النظام إلى مسار أكثر استبدادًا وعزلة.
مسار إصلاحي ديمقراطي: قد تتجه إيران إلى خط أكثر ديمقراطية مع تقليل نفوذ الملالي.
إيران، التي أراقت دماء الشعوب لعقود عبر ميليشيات طائفية في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان واليمن، وسعت إلى تحقيق أحلامها الصفوية الفارسية على حساب المسلمين، أصبحت الآن تواجه أزمة وجودية وطنية وليست إقليمية. نظامها الثيوقراطي القمعي واقتصاده الفاسد جعل شعبها رهينة.
إسرائيل، بعد الصورة السلبية التي خلقتها جراء هجمات غزة وضعفها الأمني في الحرب مع إيران، ستحاول تحميل نتنياهو المسؤولية والتعويض عن خسائرها بدعم غربي. لكن الفراغ الأمني الذي خلقته هذه الحرب سيجبر المنطقة على موازنة جديدة.
الحل الذي كانت تركيا والعالم المعتدل تطرحه منذ سنوات، وهو حل الدولتين (حتى وإن كان أهون الشرين) أصبح الآن شبه مستحيل. المنطقة تدخل عصر العد التنازلي لنظام شرق أوسطي بدون إسرائيل. حتى تجد الولايات المتحدة وأوروبا مكانًا آخر “أكثر هدوءًا” لمشروعهم، حيث يمكنهم زرع يهودهم الذين يحلمون بـ”أرض الميعاد”، سيظل الكيان الصهيوني موجودًا. لكن الوقت سيظهر كيف سيدفع هذا النظام الشيطاني ثمن الدماء التي أراقها هو وأنظمته العميلة مثل السعودية والأردن والإمارات.
في هذا التوازن الجديد، تبرز تركيا بقدراتها العسكرية ومرونتها الدبلوماسية وحكمة استراتيجيتها في الأزمات. بفضل خبرتها في حكم المنطقة لـ 500 عام، لا تزال سياسة تركيا القائمة على السلام والاستقرار ورؤية المستقبل المشترك هي الخيار الوحيد للمنطقة رغم التكاليف الباهظة.
النموذج التركي لا يقدّم فقط رؤية لدولة مسلمة ديمقراطية حديثة، بل يعيد إحياء التراث الحضاري والثقافي المشترك لحوض البحر الأبيض المتوسط وبلاد ما بين النهرين. تركيا ليست فقط لاعبًا رئيسيًا في هذه المرحلة، بل هي أيضًا صاحبة الرؤية البديلة لبناء مستقبل أكثر استقرارًا للشرق الأوسط.