أصبحت حملة الإبادة الجماعية التي شنها الكيان الصهيوني على غزة في 7 أكتوبر 2023 واحدة من أكثر الأمثلة دموية في تاريخ الحروب الحديثة من حيث حجم الدمار والخسائر المدنية. وعلى الرغم من مرور أكثر من 560 يومًا على هذه الإبادة، فإن جيش الاحتلال، رغم الدعم التكنولوجي واللوجستي والاستخباري الذي يتلقاه من الغرب، فشل في القضاء على مقاومة كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس. ففي الأسابيع الأخيرة، كشفت عمليات الكمين التي نُفذت في منطقة بيت حانون شمال شرق غزة، على بعد 300 متر فقط من حدود الكيان الصهيوني، واستهدفت جنود الاحتلال، أن حماس ليس فقط ما زالت صامدة، بل إنها تواصل أيضًا توليد القوة على المستويات العملياتية والاستراتيجية والرمزية. في هذا السياق، يجب قراءة سبب عدم استسلام حماس ليس فقط على المستوى العسكري، بل أيضًا على المستويات السياسية والأيديولوجية والدينية والوجودية.
ديناميكيات المقاومة في الميدان
السبب الرئيسي وراء استمرار حركة حماس في المقاومة ورفضها الاستسلام لإسرائيل رغم كل الضغوط يكمن في قدرتها العسكرية والاستخباراتية على مواصلة المقاومة. ووفقًا لخبير الصناعات الدفاعية محمد أون ألمش، فإن الكمين الذي وقع في بيت حانون يثبت أن حماس قادرة على تطبيق متطلبات الحرب غير المتماثلة بمهارة رغم التفوق التكنولوجي والاستطلاعي الكبير لإسرائيل. كما أن العملية الأخيرة التي نفذتها كتائب القسام عبر فريق خاص/ممتاز تظهر أن حماس لا تزال تمتلك قدرات استخباراتية فعالة، وتحافظ على صبرها التكتيكي، وقادرة على خلق تفوق استراتيجي حتى أمام الجيش النظامي.
توقيت الهجوم المتزامن مع لحظة تغيير النوبة يكشف أن الشبكة الاستخباراتية المحلية لا تزال تعمل بفعالية، في حين أن احترافية المقاتلين المنفذين للعملية تشير إلى أن حماس ما زالت قادرة على مواصلة تدريباتها العسكرية في الأنفاق. علاوة على ذلك، فقد تبين أن الأنفاق المستخدمة في العملية ليست من البنى التحتية الخرسانية القوية التي تم بناؤها قبل الحرب، بل هي هياكل أبسط ولكنها وظيفية حُفرت تحت الأرض أثناء الحرب. وهذا يوضح أن حماس قادرة على إخفاء بنيتها التحتية تحت الأرض رغم أنظمة الرادار المتطورة وأجهزة الاستشعار والطائرات المسيرة الإسرائيلية، مما يمكنها من إنشاء خطوط دفاع وهجوم حتى في ظل ظروف الحصار. وهكذا، تدحض حماس مزاعم إسرائيل بـ”السيطرة المطلقة” على أرض الواقع.
الضرورة السياسية للمقاومة
الدافع الأساسي الثاني لاستمرار حماس في المقاومة هو أولويتها في الشرعية السياسية والتكامل مع الشعب، كونها حركة سياسية وعسكرية في آن واحد. بهذا المعنى، فإن استسلام حماس لن يعني مجرد فشل عسكري، بل قد يشير إلى انهيار الشرعية السياسية. اليوم، في غزة، حيث خسرت كل عائلة تقريباً أحد أفرادها، نشأت رابطة عاطفية وتاريخية بين الشعب وحركة المقاومة. هذه الرابطة هي الأساس الذي تستند إليه حماس للبقاء في الميدان. إن إنهاء المقاومة قد يؤدي إلى قطع هذه الرابطة وفقدان حماس لشرعيتها في أعين الشعب. في هذا السياق، يبرز أيضاً تصميم حماس على عدم مشاركة مصير حركة فتح. فبعد استسلام ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، في عام 1982 تحت الحصار الإسرائيلي في غرب بيروت ومغادرته البلاد، تراجع تأثير المنظمة بشكل كبير، وأصبحت قيادة محمود عباس الحالية تُنظر إليها على نطاق واسع على أنها تفتقر إلى الشرعية. إن تجربة استسلام عباس ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي لا تحظى بأي دعم في أي استطلاع للرأي في غزة والضفة الغربية بسبب موالاتها لإسرائيل، تدفع حماس إلى التمسك أكثر بالمقاومة. علاوة على ذلك، فإن المقاومة المسلحة بالنسبة لحماس ليست مجرد استراتيجية، بل هي أساس وجودها السياسي. منذ تأسيسها وحتى اليوم، حيث فقدت كل قياداتها شهداء، فإن نزع سلاح حماس يتعارض مع المبادئ التي تقوم عليها الحركة، ولذلك فهي ترفض حتى مناقشة هذا الأمر في أي عملية تفاوض. وبالتالي، إذا ما نزعت حماس سلاحها واستسلمت، فإن بقاء هذه الحركة سيكون شبه مستحيل.
دفاع عن المسجد الأقصى
إن استمرار حركة حماس في المقاومة ورفضها الاستسلام للاحتلال الإسرائيلي يعود إلى سبب آخر يتمثل في النضال المقدس الذي تخوضه الحركة بتنفيذها للمقاومة بدافع ديني. بهذا المعنى، فإن الفرق الجوهري الذي يميز حماس عن باقي الفصائل الفلسطينية السياسية هو بنيتها الأيديولوجية القائمة على أسس دينية. فالنضال لا يُخاض فقط ضمن محور الاستقلال الوطني، بل أيضًا من منظور الدفاع عن المقدسات الدينية. إن تسمية عملية السابع من أكتوبر بـ”طوفان الأقصى” تُظهر هذا الدافع الديني بوضوح. إن الممارسات الاستفزازية التي تقوم بها إسرائيل في القدس، وخاصة تزايد عدوانية المستوطنين/المغتصبين اليهود تجاه المسجد الأقصى، تعزز قدسية القضية لدى حماس، وتقوي الكفاح المسلح ضد الإرهابيين المحتلين لأراضي فلسطين. هذا الفهم القائم على الدين في المقاومة لا يقتصر فقط على كوادر حماس، فالكثير من المدنيين في غزة يرون المقاومة كواجب ديني. صورة عامل صحي وهو يستغفر الله في لحظاته الأخيرة لأنه لم يتمكن من أداء الصلاة، تُظهر كيف يتحول الإيمان الديني لدى القاعدة الشعبية إلى نفسية مقاومة. في معركة تُخاض بمثل هذا الإيمان والتحفيز، فإن الاستسلام لا يعني فقط الهزيمة السياسية، بل أيضًا الانهيار الديني.
انسداد المسارات الدبلوماسية
من الأسباب الأخرى لرفض حركة حماس الاستسلام هو الموقف غير المستقر وغير الموثوق به من قبل الحكومة الإسرائيلية. منذ تأسيسها، تحركت إسرائيل بنمط متكرر من عدم الموثوقية وبعقلية تشبه تنظيمًا إرهابيًا أكثر من دولة، حيث أدت سياساتها العدوانية وخطواتها السياسية غير الجديرة بالثقة إلى دفع حماس نحو مواصلة المقاومة. فالحكومة الإسرائيلية تحت قيادة نتنياهو قامت بإلغاء جانب واحد على الأقل لاتفاقيتي وقف إطلاق نار سابقتين مع حماس، وعطّلت مفاوضات تبادل الأسرى لمصالح سياسية. على سبيل المثال، خلال مفاوضات تبادل الأسرى التي جرت بالتنسيق مع إدارة ترامب، وعلى الرغم من اقتراب حماس من خط توافقي، إلا أن إخلاف نتنياهو للاتفاقيات زاد من أزمة الثقة السياسية مع الحركة. في مثل هذه البيئة، لا يعني الاستسلام بالنسبة لحماس مجرد نزع السلاح، بل أيضًا التعرض لخداع سياسي. وبالتالي، يمكن اعتبار عدم موثوقية نتنياهو، المدعوم من الغرب والذي يتجاهل الأعراف الدبلوماسية، سببًا إضافيًا يعزز المقاومة.
الرأي العام الدولي والمكسب الدبلوماسي
لم تقتصر مقاومة حماس على الساحة العسكرية فحسب، بل وجدت صداها أيضًا على المستوى الدولي. وبعبارة أخرى، فإن التأثير العالمي الذي أحدثته المقاومة التي توجت في السابع من أكتوبر، كشف عن نجاح المقاومة المسلحة. خاصة في الغرب، حيث ازداد الاهتمام بقضية فلسطين وارتفعت المواقف المعادية لإسرائيل بين صفوف الشباب، مما يُظهر تحول المقاومة إلى انتصار في الرأي العام العالمي. وفقًا لبيانات مؤسسات مثل “بيو ريسيرش”، فقد زادت الآراء السلبية تجاه إسرائيل في الولايات المتحدة. من ناحية أخرى، كشفت الضغوط التي ظهرت في أعرق الجامعات والمؤسسات التعليمية الغربية عن أن الغرب أكثر ديكتاتورية من ديكتاتوريات الشرق الأوسط، وأن السلطوية الصهيونية قد سيطرت على النظام السياسي الغربي. هذه الإنجازات تُظهر نجاح استراتيجية حماس في إعادة قضية فلسطين إلى الواجهة الدولية. الاستسلام من وجهة نظر حماس غير عقلاني، لأنه سيعني محو هذه المكاسب السياسية والدبلوماسية دفعة واحدة. وبالتالي، لم تعد المقاومة بالنسبة لحماس مجرد صراع وجودي فحسب، بل هي أيضًا صراع لتمثيل فلسطين في الضمير العالمي.
النتيجة: العقلانية الاستراتيجي للمقاومة
لا شك أن رفض حركة حماس الاستسلام، والذي يراه العديد من المراقبين عنادًا غير عقلاني أو عمى أيديولوجي، هو في الواقع حقيقة نابعة من هذا المنطق المذكور، وهو عكس الرواية الغربية تمامًا. في هذا السياق، فإن مواصلة المقاومة تمثل خيارًا أكثر عقلانية لحماس من الاستسلام. لأن نتائج الاستسلام العسكرية والسياسية والدينية والدبلوماسية قد تقضي على كل سبب وجود المنظمة. إن الإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني لم تقطع العلاقة بين الشعب وحركة حماس، بل على العكس، عززتها. وعلى الرغم من تنظيم بعض الاحتجاجات في غزة خلال الأشهر الأخيرة، فإن الغالبية الساحقة من الشعب تقدر نضال كتائب القسام وتحافظ في أذهانها على حقيقة أن العدو الحقيقي هو الصهيونية. وبالتالي، فإن استسلام حماس لن يعني فقط هزيمة منظمة، بل سيكون بمثابة استسلام للقضية الفلسطينية رمزيًا وعمليًا. لذلك، يمكن القول إن استمرار حماس في المقاومة يمثل خيارًا أكثر عقلانية للحفاظ على الدعم الشعبي الداخلي واستمرار المكاسب السياسية المكتسبة على الساحة الدولية. اليوم، غزة ليست مجرد جغرافيا؛ بل هي ساحة نضال مقدسة بالنسبة للفلسطينيين، واختبار للإنسانية أمام الضمير العالمي. رفض حماس الاستسلام هو إرادة البقاء بشرف داخل هذا الاختبار.