الأخلاق ثورية!

إذا كان الناس يتحلون بالأخلاق، وإذا كانت الأخلاق ثورية، فإنه يجب أن نقف بجانب الناس، والتقاليد، والمجتمع؛ وأن نثق بالإنسان، ونناضل من أجل حريته، ونؤمن بالتغيير التلقائي للمجتمع، ونقاوم كل الأيديولوجيات المفروضة على المجتمع. لهذا السبب، عندما نتحدث عن شرور العالم التكنولوجي-الإعلامي، وما يفعله بنا وبعلاقاتنا، فإننا نعبّر عن ثقتنا في الحب والأخلاق.
25/02/2025
image_print

تحت هذا العنوان، سأعرض لكم أفكارا كتبتها في مرحلة شبابي بعد تحول معنوي وروحي عشته آنذاك. إنها منظومة أفكار دافعت عنها بكل ثبات وإصرار منذ ذلك الحين وحتى الآن. في هذا المقال، أقدم أطروحات مفادها أن “الجوهر الأخلاقي موجود في كل إنسان، وفي كل فترة تاريخية، وفي كل تقليد وثقافة، وأن ما هو ثوري ومغير – محول ومحرر في الحقيقة هو هذا الجوهر المرتبط بالخالق والمقدس”، وأنه لا يوجد أي سبب للتخلي عن هذه الأطروحات. ومع ذلك، كما أوضحنا في كتابنا “من القلب: مركز وجودنا هو القلب وعمله الأساسي هو الرحمة” (دار كابي للنشر، 2020)، فإن الشيء الذي كان ينقصنا في ما كتبناه بمرحلة الشباب هو التركيز على مصدر الأخلاق في الإنسان.

منذ فترة وأنا أفكر في أن كل إنسان يمتلك “قلبًا روحيا” إلى جانب “القلب المادي”، وأن البحث عن الحقيقة، والتوجه نحو الجانب الأخلاقي والجميل، يتحققان في حياة الإنسان كواقع وجودي بفضل هذا القلب الروحي. أعتقد أن النص الشبابي الذي ستقرؤونه أدناه، لو أعيدت صياغته في إطار مفهوم “القلب الروحي”، لكان أكثر إقناعًا من حيث أن ديناميكيات التغيير الأساسية موجودة في كل إنسان وارتباطه بالخالق، وكذلك من حيث أن ما يعيق النضج الروحي للإنسان والتحول العادل للمجتمع هو ارتباطه بإرادة الإنسان.

اليوم، عندما أنظر إلى الوراء، أستطيع أن أرى بوضوح أكبر؛ أنني كنت عالقًا بين تحليلات العلوم النفسية الحديثة من جهة، و”التقليد” الذي يشير إلى الماضي والاستمرارية التاريخية من جهة أخرى، إلى أن أدركت أهمية “القلب الروحي”، وخصصت مكانًا خاصًا في نظام تفكيري لـ”القلب” الذي يحوي في كل البشر نوى القيم الأخلاقية العالمية. كنت أؤكد باستمرار أنني لست من أنصار “معاداة الحداثة بحنين للماضي”، ولكن على الرغم من ذلك، وقعت في النهاية بنفس الخط، ولم أستطع الذهاب إلى ما هو أبعد من التأكيد على أن الحل يكمن في إحياء الماضي. لكن لو كنت قد أدركت مفهوم “القلب” بشكل صحيح، لكان بإمكاني أن أوضح بشكل أكثر وضوحًا أن الحل ليس في العودة إلى الماضي، بل في العودة إلى “القلب”، وأنه فقط من خلال ذلك يمكن إعادة بناء الروابط المقطوعة مع التقليد وضمان الاستمرارية التاريخية. وكنت سأعبر بشكل أفضل عن أن “العودة إلى القلب” تعني الاهتمام بالنضج الروحي والمعنوي وتطور الشخصية، واعتبار الأخلاقية أساسًا في الأسرة والسياسة والاقتصاد وكل مجالات الحياة.

لو كنا قد وضعنا “القلب” في مركز رؤيتنا، لكان بإمكاني أن أعبر بشكل أفضل عن أن التغلب على الشر الذي في داخلنا، وإضافة التضحية والخجل إلى الحب، وهزم قطب الاعتلال الاجتماعي في المجتمع، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الأخلاق. وأنه لضمان ذلك، يجب أن نحافظ على قلوبنا سليمة وبعيدة عن الأمراض لكونها ساحة عمل الأخلاق والفضيلة. لو كنت قد فهمت “القلب” بشكل كافٍ، لاعتبرت الحفاظ على نقائه وصفائه مهمتنا الأولى؛ ولعملت على تعزيز شعورنا بالرحمة تجاه الآخرين وحتى تجاه كل الكائنات الحية، وكل المخلوقات التي خلقها الله. وكنت سأخاف كثيرًا من أن نفقد رحمتنا، لأن ذلك كان سيؤدي إلى إظلام قلوبنا ووقوعنا في حالات مرضية.

الأخلاق، في نهاية المطاف، تخص مشكلة “الآخر”، وما سنفعله تجاه هذا الآخر. الشعار الأساسي لهذه الأرض هو “التخلق بأخلاق الله”، وهو يعني تصفية أفعالنا من خلال قلبنا. إدراك أهمية الأخلاق دون الوصول إلى القلب ليس مجرد سوء حظ. أعتقد أن جذور وضع السياسة والتحول المجتمعي قبل النضج الأخلاقي الشخصي، وإعطاء السياسة معنى أكبر مما تستحق، تكمن في عدم فهم القلب بشكل كافٍ.

بعد هذا النقد الذاتي، أعدكم بأنني في كتاباتي القادمة سوف أتناول عمل القلب الروحي، وخاصة الرحمة التي تشكل عمله الأساسي، وأترككم الآن مع كتابتي الشبابية.

الأخلاق ثورية!

عبارة بطل دوستويفسكي الشهيرة: “إذا لم يكن الله موجودًا، فكل شيء مباح”، هي دليل على وجود جسر قوي بين الفن والفكر الفلسفي. انطلاقًا من هذه العبارة، تمكن نيقولا بيرديائيف من تطوير فلسفة وجودية مسيحية فريدة من نوعها بناءً على روايات دوستويفسكي. إن إباحة كل شيء تعبير عن تبخر القيم، وأزمة أخلاقية عميقة، وهو ما يسمى في الفلسفة بـ”العدمية”. هذه الكلمات التي ينطق بها بطل دوستويفسكي، بفضل بصيرة الروائي، تسهل علينا فهم إحدى القضايا الرئيسية المحورية في الفلسفة الحديثة.

الحداثة، التي بدأت في الغرب قبل مائتي عام وأصبحت أساس عالم التكنولوجيا والإعلام اليوم، هي إلى حد ما عملية موازية لـ”موت الإله” (نيتشه) و”نزع السحر” (فيبر). المقصود من موت الإله ونزع السحر، هو أن الإنسان أصبح مضطرًا إلى تشكيل أسلوب حياته بناءً على عقله وإرادته الحرة المفترضة، وليس بناءً على الوحي.

رحّب مفكرو عصر التنوير بموت الإله باعتباره فرصة استثنائية للإنسان لتحديد مصيره بنفسه؛ وتخيلوا أن البشرية ستدخل بذلك مسارًا جديدًا من التقدم العلمي والتقني والتطور الأخلاقي، دون أن يخطر ببالهم أن كل شيء أصبح مباحًا. نيتشه، الذي بدأ نضالًا اعتبره نبيلًا بالنسبة له ضد كل مظاهر الحداثة، هو أيضًا من أنصار التنوير ويشعر بأنه ينتمي إلى يوتوبيا التنوير. ما أزعجه هو خيانة الحداثة لهذه اليوتوبيا، وسقوطها في مستنقع العدمية، مما أثبت صحة دوستويفسكي. بالنسبة له، لقد مات الإله، لكن الإنسان التراجيدي اليوناني القديم، القادر على تحديد مصيره بشكل ما، لم يظهر محطما التاريخ. بل على العكس من ذلك، سادت الأخلاق المسيحية التي تنكر الحياة، والتي تظهر في شكل عذاب الضمير، والمثالية الزهدية، وأخلاق الحقد، لدى الإنسان في القطيع والذي تم استعمار عوالمه الحياتية بواسطة العقلانية.

لقد طُرحت بعض الحلول لأزمة العدمية الحديثة. أولها، وهو الذي دافع عنه نيتشه، يتمثل في الانسحاب إلى السلبية الجمالية، من خلال الفن، وخاصة الموسيقى، والذي يسمح لنا بالتحرر من قيود العقل والانخراط في الإبداع الحقيقي. فكرة إضفاء الطابع الجمالي على الأخلاق، وإثراء التجربة الفردية للخروج من المأزق الأخلاقي، تعود إلى الواجهة في مناقشات ما بعد الحداثة الأخيرة.

أما أكثر الحلول المعروفة لمنع تبخر القيم أو ظهور عبادة الأصنام الحديثة في مجال القيم، فهو تطوير أخلاق المسؤولية من خلال التركيز على أدوار السياسي والعالم. المفاهيم مثل “الأخلاق السياسية” و”أخلاقيات العلم” هي نتاج هذا النهج. وهذه المفاهيم، التي تبدو معقولة للوهلة الأولى، عند فحصها بشكل دقيق، تظهر أنها ليست موثوقة، ولا تترك سوى خطابًا فارغًا. حتى الآن، لم يتم تقديم دليل مقنع على كيفية اشتقاق الأخلاق من العلم، أو كيف يمكن للعالم أن يشعر بالالتزام بقرارات لجنة أخلاقيات العلم. حتى أوغست كونت، مؤسس الوضعية، شعر بالحاجة إلى إنشاء “دين العلم”. على سبيل المثال، في المناقشات المتعلقة بالإجهاض أو التلقيح الاصطناعي، والتي تهم الرأي العام، يتضح أن لجنة الأخلاق الطبية غير قادرة على إنتاج مبدأ أخلاقي مقبول بشكل عام في الأوساط العلمية والمجتمع. وبالمثل، يتضح من الانتقادات الموجهة إلى الديمقراطية التمثيلية الشكلية، ومن ما يحدث عمليًا، أن الأخلاق السياسية غالبًا ما تبقى مجرد كلام، ولا يتطلب الأمر بالضرورة أن يمتلك السياسي أو المواطن وعيًا بالمسؤولية لإدارة المجتمع. وبالتالي، فإن هذا الحل الثاني المقترح للفراغ الأخلاقي، الذي يشكل أساس آراء العديد من المفكرين من فيبر وكونت إلى فرويد وماركس ولينين والمفكرين الليبراليين، يبقى معلقًا في الهواء على الرغم من أناقته.

ثالث الحلول المزعومة ضد الدمار العدمي، هو معاداة الحداثة بحنين للماضي، ونحن نعطيه أهمية كبيرة ومدينون له بتطور موقفنا. معاداة الحداثة بحنين للماضي، تدعي أن كل الأوقات الجيدة كانت في الماضي، وأن كل شيء قد تحطم مع الحداثة. بالنسبة لأنصار هذه الرؤية، فإن “عصر السعادة” قد ولى، ولا يمكن أن تعود تلك الأيام الجميلة. وهؤلاء يدعون إلى رفض الحداثة والعودة إلى الممارسات الدينية والاجتماعية التقليدية التي كانت مصدرا للأخلاق. يمكن رؤية التأثيرات الواضحة لمعاداة الحداثة بالحنين للماضي على نطاق واسع؛ بدءا من هايدغر الذي يتوق إلى العالم اليوناني قبل سقراط، وحتى المفكرين التقليديين مثل ريني غينون، الذي يشير دائما إلى العالم التقليدي قبل عصر النهضة، وفريتيوف شوان وميرتشا إلياده، وعلماء الاجتماع مثل فرديناند تونيز، والفلاسفة مثل ألسدير ماكنتاير، والبروتستانت الأصوليين وبعض الآراء الإسلامية. نرى معاداة الحداثة بالحنين للماضي كموقف منفصل عن الواقع، يقول “آمين” لما لا يمكن أن يتحقق. ومع ذلك، نعترف بأن هذه الأفكار مؤثرة جدًا.

الأفكار التي ترى المثل الأخلاقية كحالة طوباوية يمكن الوصول إليها في المستقبل، بدلًا من اعتبارها قد بلغت الكمال في الماضي وتعرضت للانحطاط مع مرور الوقت، ولا تقدم أي بديل ملموس للبشرية سوى انتظار مسيحاني أبدي، خاصة تلك التي يدافع عنها المسلمون، لا يمكن لأي شخص مؤمن إلا أن يتأثر بها بشكل إيجابي ويشعر بقرب منها. لأن معاداة الحداثة بالحنين للماضي، سواء في الحنين للماضي أو في معاداة الحداثة، محقة تمامًا في سياق المشاعر وردود الفعل. ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن معاداة الحداثة بالحنين للماضي ليست حلاً؛ لأن الأفكار المحقة في سياق المشاعر وردود الفعل لا تكفي لمواقف طويلة الأمد. الأفكار المحقة في سياق المشاعر وردود الفعل يمكن أن تكون بشرى حقيقية للبشرية فقط عندما تكون مصحوبة بفكر قادر على حل المشاكل اليومية التي تظهر اليوم.

ومن أجل تبني موقف يتجاوز نقاط الضعف لدى معاداة الحداثة بالحنين للماضي، في مواجهة العدمية الحديثة للقيم، فإن أول ما يجب أن نفهمه هو طبيعة القيم الأخلاقية. لأن القيم الأخلاقية ليست مجرد معايير وأوامر جافة وباردة، وبعيدة عن الإنسان في الماضي. بل إن القيم الأخلاقية هي التي تنظم علاقات الإنسان مع الآخرين، والطبيعة، وخالقه عبر الأجيال، وبالتالي فهي غير تاريخية؛ وهي قريبة من الإنسان “أقرب من حبل الوريد”؛ ولديها حيوية وديناميكية تسمح لها بالازدهار تحت أي ظرف تاريخي واجتماعي متغير. الأخلاق هي المصدر الذي يعطي الإنسان القوة للتمرد على الشر الذي في داخله وعلى شرور العالم. وبهذا المعنى، تمثل الأخلاق، المحرك الحقيقي للتغيير نحو الأفضل في العالم، والقوة الثورية الحقيقية. الأخلاق تشبه الجوهر الفيلوجيني لشجرة تتفتح بأشكال مختلفة في كل منطقة ومناخ. الشجرة يمكن أن تظهر بأشكال مختلفة في كل مناخ، وتزهر بأزهار متنوعة، لكنها في النهاية هي نفس الشجرة. وعلى سبيل المثال، النضالات التي تجري اليوم في مختلف أنحاء العالم من أجل تحقيق العدالة، لها أساس أخلاقي مشترك. عندما ننهض من أجل العدالة، وحقوق المجتمع والإنسان، فإن الجوهر الأخلاقي بداخلنا هو الذي يحيينا. ولا شك أن عبارة “إذا كان للظالم ظلم يستقوي به، فإن للمظلوم رب يحميه”، هي أفضل تعبير عن كل ما قلناه.

هذا الطابع الثوري للأخلاق هو الذي يتيح لنا إمكانية الدفاع عن القيم والتغيير الاجتماعي والتحرر في نفس الوقت. فإذا كان الناس يتحلون بالأخلاق، وإذا كانت الأخلاق ثورية، فإنه يجب أن نقف بجانب الناس، والتقاليد، والمجتمع؛ وأن نثق بالإنسان، ونناضل من أجل حريته، ونؤمن بالتغيير التلقائي للمجتمع، ونقاوم كل الأيديولوجيات المفروضة على المجتمع. لهذا السبب، عندما نتحدث عن شرور العالم التكنولوجي-الإعلامي، وما يفعله بنا وبعلاقاتنا، فإننا نعبّر عن ثقتنا في الحب والأخلاق. ولذلك نتحدث كثيرًا عن الأخلاق، ونؤكد ضرورة البحث عن حل للمشاكل التي تواجهها العلاقات بين الرجل والمرأة، على صعيد الحب والخصوصية، في فهم ثوري للأخلاق…

Erol Göka

البروفيسور إرول غوكا
وُلد عام 1959 في ولاية دنيزلي، وهو متزوج وأب لخمسة أطفال. حصل على درجة الأستاذية في الطب النفسي عام 1992، وأصبح رئيسًا لقسم الطب النفسي في مستشفى أنقرة النموذجي للتدريب والبحوث عام 1998. يشغل حاليًا منصب المسؤول الإداري والتعليمي في قسم الطب النفسي بالمدينة الطبية التابع لجامعة العلوم الصحية في أنقرة. وهو عضو في هيئة تحرير مجلة "Türkiye Günlüğü"، بالإضافة إلى عضويته في لجان استشارية للعديد من المجلات في مجالات الطب والعلوم الإنسانية. حصل إرول غوكا على جائزة "مفكر العام" لعام 2006 من اتحاد الكتاب الأتراك عن كتابه "السلوك الجماعي التركي"، كما مُنح جائزة "ضياء غوك ألب للعلم والتشجيع" من جمعية "Türk Ocakları" عام 2008.

الموقع الإلكتروني: erolgoka.net
البريد الإلكتروني: [email protected]

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.