استراتيجية السعودية في سد الفراغات الإقليمية  

من الواضح أن السعودية ابتعدت عن سياستها الخارجية التقليدية المتمركزة حول الطاقة، والمنغلقة على ذاتها، والمرتكزة على الأمن، لتصبح أكثر انفتاحًا واعتمادًا على الاقتصاد وسعيًا لإنتاج تأثير دبلوماسي. يحمل هذا النهج الجديد، الذي يعتمد على سد الفراغات بحذر، إمكانية جعل المملكة أحد أكثر الدول نفوذًا في المنطقة. لكن استمرارية هذا التأثير لن تتحدد فقط بالقدرة المالية، بل أيضًا بالاتساق في مجالات العدالة الإقليمية والتضامن، والإرادة لدفع الثمن.
09/08/2025
image_print

لطالما عُرفت المملكة العربية السعودية باقتصادها القائم على عوائد النفط لعقود طويلة، لكنها في الفترة الأخيرة دخلت في مرحلة تحول متعددة الأوجه في سياستها الخارجية ونطاق نفوذها الإقليمي. هذا التوجه الجديد الذي تشكّل تحت قيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لا يقتصر على الإصلاحات الداخلية فحسب، بل يتجلى أيضًا في تحركات استراتيجية موجهة للخارج. لم تعد المملكة تعتمد على أساليب القوة التقليدية، بل باتت ترسم صورة فاعل يسد الفراغات الإقليمية بعناية من خلال أدوات الاستثمار والدبلوماسية والقوة الناعمة.  

لفهم هذا التحول، من المهم استحضار الظهور الأول لولي العهد محمد بن سلمان على الساحة السياسية. ففي عام 2015، برز محمد بن سلمان كشخصية مؤثرة في السياسة الداخلية والخارجية، وجذب الانتباه دوليًا من خلال عملية “عاصفة الحزم” التي أطلقتها السعودية في اليمن نفس العام. كانت هذه العملية، التي خُطط لها أن تحقق نتائج سريعة، قد تحولت مع مرور الوقت إلى صراع مكلف إنسانيًا ومثير للجدل دبلوماسيًا. سُجلت حرب اليمن كواحدة من النماذج النادرة التي حاولت الرياض من خلالها تعزيز نفوذها الإقليمي باستخدام القوة المباشرة والصارمة.  

إلا أن استمرار الحرب وردود الفعل الدولية مهّدا الطريق لسياسة خارجية أكثر حذرًا وقائمة على الدبلوماسية. لم يكن هذا التحول مجرد تغيير تكتيكي، بل كان نقطة تحوّل أعادت تشكيل التوجه الاستراتيجي طويل الأجل للمملكة. في هذا السياق، كشف برنامج “رؤية 2030” الذي أُعلن عنه عام 2016 عن هدف الرياض ليس فقط في تنويع الاقتصاد، بل أيضًا في أن تصبح قوة أكثر نعومة وفاعلية في العلاقات الدولية.  

تتضمن مظاهر هذا النهج الجديد استضافة الأحداث الرياضية الدولية، وانتقال نجوم كرة القدم إلى الأندية السعودية، والاستثمارات في صناعة السينما والموسيقى. وعلى الرغم من أزمات مثل قضية الريتز كارلتون وحادثة خاشقجي، تمكنت السعودية من تقديم صورة أكثر توازنًا وتعددًا في الأبعاد. فأصبحت الانفتاحات الثقافية والإصلاحات العامة والتطبيع الدبلوماسي عناصر أساسية في بناء هذه الصورة الجديدة.  

لا تقتصر هذه الاستراتيجية على تقديم وجه منفتح تجاه الغرب فحسب، بل تعكس أيضًا سعيًا متزايدًا للنفوذ في العالم العربي. تحاول الرياض توسيع نطاق تأثيرها من خلال الشراكات الاقتصادية واستثمارات التنمية والوساطة السياسية بدلاً من المواجهات العسكرية. ويتجلى هذا النهج بوضوح في دول هشة لكنها استراتيجية مثل الأردن ولبنان وسوريا.  

بعد الربيع العربي، التزمت السعودية بتقديم حزمة دعم ومساعدات لمصر تصل قيمتها إلى 20 مليار دولار. وفي الفترة 2024-2025، ركزت الاستثمارات السعودية على قطاعات السياحة والطاقة والبنية التحتية، حيث تجاوز إجمالي حجم الاستثمارات 26 مليار دولار. وفي نفس العام، أُعلن عن التزام استثماري جديد بقيمة 5 مليارات دولار عبر صندوق الاستثمارات العامة. كما تم توقيع اتفاقيات تهدف إلى التكامل في المجالات التجارية والصناعية، مع توفير دعم ائتماني بقيمة 346 مليون دولار. وتمثل مشاريع مثل جسر موسى فوق البحر الأحمر البعد الاستراتيجي للتعاون في البنية التحتية.  

يتم تنفيذ تعاون مماثل مع الأردن. ففي قمة مكة عام 2018، أُعلن عن حزمة دعم اقتصادي للأردن بقيمة 2.5 مليار دولار بقرار من السعودية والإمارات والكويت. في هذا الإطار، قدمت السعودية مساهمة مباشرة بقيمة 250 مليون دولار على أقساط على مر السنوات. كما خُصصت منحة بقيمة 50 مليون دولار لقطاع التعليم عام 2019، وتم إكمال الحزمة بدفع القسط الأخير البالغ 38.6 مليون دولار عام 2024. وساهم الصندوق السعودي للتنمية في مشاريع البنية التحتية ومخيمات اللاجئين، بينما يجري بناء شراكات اقتصادية أكثر استدامة عبر صندوق الاستثمار السعودي الأردني الذي يبلغ حجمه 3 مليارات دولار.  

تتبع السعودية نهجًا أكثر حذرًا لكنه استراتيجي في لبنان. فقد قدم مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية مؤخرًا منحة بقيمة 10 ملايين دولار، ليصل إجمالي المساهمات حتى الآن إلى 2.7 مليار دولار ضمن 129 مشروعًا. وفي مارس 2025، جرى إعداد مسودة تعاون مكونة من 22 بندًا تتراوح من الزراعة إلى الملكية الفكرية بين الجانبين.  

كما أن الاتصالات مع سوريا تمثل امتدادًا لهذه الاستراتيجية. فبعد سنوات من التباعد مع نظام الأسد، بدأت عملية تطبيع في إطار الجامعة العربية، ثم تحولت إلى مرحلة إعادة الإعمار بعد سقوط النظام. وتُظهر الاتفاقيات التي تجاوزت 6 مليارات دولار خلال منتدى الاستثمار السعودي السوري في دمشق مؤخرًا نية الرياض في أن تكون فاعلاً اقتصاديًا في عملية إعادة الإعمار. ويمكن قراءة هذا الانفتاح ليس فقط كخطوة اقتصادية، بل أيضًا كحركة لسد الفراغ الاستراتيجي وموازنة النفوذ الإيراني المتراجع في سوريا.  

العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية التي استؤنفت بوساطة صينية عام 2023 أعادت إحياء آمال الانفراج الإقليمي، لكن المنافسة لا تزال قائمة على الأرض. لم تعد الرياض تسعى لملء الفراغات التي تتركها إيران من خلال التدخلات الصارمة، بل عبر الاستثمارات والمبادرات الدبلوماسية. ففي المجالات التي يحتاجها حزب الله بلبنان، والجماعات المدعومة إيرانيًا في اليمن، والحكومة الجديدة في سوريا، تحاول السعودية سد الفراغات بطرق اقتصادية وهيكلية بعيدة عن الصراع.  

في هذا السياق، لم تعد السياسة الخارجية السعودية تُشكّل استراتيجية تقليدية لـ”خلق مساحة”، بل تحوّلت إلى نهج حذر لـ”سد الفراغ”. فبدلاً من فتح جبهات جديدة، تتبنى الرياض دورًا يركز على بناء الثقة وإقامة شراكات مستدامة في المناطق الهشة. وهذا ما يجعلها فاعلاً أقل مخاطرة وأكثر قبولاً.  

لكن ثمة جوانب هشة في إعادة الهيكلة الاستراتيجية هذه. ففي القضية الفلسطينية، يتعرض الخط الحذر الذي تتبناه الرياض لانتقادات. فموقفها الدبلوماسي من الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، واستمرار مفاوضات التطبيع مع إسرائيل، يشكلان أزمة ثقة لدى الرأي العام الإقليمي. يبدو من غير المرجح أن تتخذ السعودية، التي تتبنى استراتيجية حذرة لسد الفراغات، خطوة أكثر جرأة ضد إسرائيل التي لا تترك أي فراغ في نطاق نفوذها. وهذا يوضح أن استراتيجية القوة الناعمة السعودية تحتاج إلى أن تدعم ليس فقط بالمشاريع والاستثمارات، بل أيضًا بموقف سياسي خارجي قائم على القيم.  

ختامًا، من الواضح أن السعودية ابتعدت عن سياستها الخارجية التقليدية المتمركزة حول الطاقة، والمنغلقة على ذاتها، والمرتكزة على الأمن، لتصبح أكثر انفتاحًا واعتمادًا على الاقتصاد وسعيًا لإنتاج تأثير دبلوماسي. يحمل هذا النهج الجديد، الذي يعتمد على سد الفراغات بحذر، إمكانية جعل المملكة أحد أكثر الدول نفوذًا في المنطقة. لكن استمرارية هذا التأثير لن تتحدد فقط بالقدرة المالية، بل أيضًا بالاتساق في مجالات العدالة الإقليمية والتضامن، والإرادة لدفع الثمن.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.